“إلى سما”.. رائحة الدماء الحَلَبية في المحافل السينمائية الدولية

عبد الكريم قادري

استطاعت المخرجة السورية “وعد الخطيب” من خلال المادة المُصورة التي جمعتها في خمس سنوات من وجودها في قلب الحرب القائمة في مدينتها حلب السورية، وبمساعدة وخبرة المخرج البريطاني “إدوارد واتس” أن يُقدما فيلما مُشبعا بالحقائق المصورة ميدانيا، حيث اختارا له عنوان “إلى سما”، ليُحوّلا هذا العمل إلى مرجع توثيقي تاريخي مهم، يسجل لمراحل صعبة من تاريخ سوريا الحديث الذي طغت عليه الدماء والمآسي التي خلفتها الحرب، وجعلت أيام الفرد السوري جحيما لا يُطاق، بسبب أخبار الموت والقصف والتفجير، وهي المظاهر التي ولّدت الدمار والحزن، وسكبت في عيونهم سيلا من الدموع التي لا تريد أن تنتهي بسبب الفقد والفراق الذي يحدث للأسر كل يوم وساعة ودقيقة.

وقد استطاعت وعد الخطيب وبحسّها الصحفي أن توجه عدسة كاميراتها إلى بؤر الموت، حيث أظهرت بها للعالم ما يمكن أن تفعله الحرب بالإنسان والحيوان والمعمار والمدن والبلد، وأرتهم وجع السوري الذي يعيش في رعب من الحاضر والمستقبل، وأصبحت الطمأنينة بالنسبة له رفاهية لا يمكن أن يصل لها، وذلك بعد أن أصبح يستيقظ وينام على قوائم الموتى والجرحى.

السوري الذي لم يعد يرى الحياة في الشوارع التي كبر وتربّى فيها، وإنما يرى مظاهر البؤس والشقاء التي تعكسها البنايات المهدمة، والجدران التي تحوّلت إلى متاريس، والمحلات التي أصبحت بلا أبواب أو نوافذ، والأشجار الذي اقتلعت حتى لا تحجب الرؤية، فقط أصوات القصف والمدافع والطائرات التي تُدوّي في كل وقت، والجثث المتناثرة في الوديان والأقبية وفي كل شبر.

هذا ما وثّقته ونقلته المخرجة وعد الخطيب من خلال فيلمها “إلى سما”، وكأنها تترجى العالم ليساهم في وقف نهر الموت الذي لا يريد أن ينتهي في بلدها سوريا بعد أن أنهكته سنوات الحرب وجحيمها، ولم يعد يقوى على تحمّل ويلاتها وأحزانها، فقد أصبحت أقصى أمانيه أن يعيش بسلام، بعيدا عن أخبار القصف والرصاص والتصفيات والتعذيب والأسر التي كان يقرأ عنها في الأخبار، وأصبح يعيشها في بلده بشكل يومي.

 

ثلاثمائة ساعة مصورة.. صحفية بالصدفة

96 دقيقة هي ما تم استغلاله في فيلم “إلى سما” من جملة 300 ساعة مُصوّرة، جمعتها المخرجة وعد الخطيب خلال خمس سنوات من الأحداث السورية التي عاشتها في مدينة حلب، حيث كانت بدايتها في المظاهرات والانتفاضات التي عاشتها رفقة زملائها الطلبة في جامعة حلب، حيث وثّقت لهذه المرحلة بواسطة هاتفها الجوّال، لينتهي بها الأمر في قلب الأحداث تلتقط تفاصيلها بكاميرا محترفة أهداها لها صديق لقي حتفه لاحقا، بعد أن انتقلت الأحداث من المظاهرات السلمية إلى العنف، فالعنف المضاد، وهذا عن طريق عملها الصحفي التي جاءته صدفة، إذ سبق لعائلتها أن رفضت أن تدرس وعد الخطيب الصحافة في الجامعة رغم حبها لهذه المهنة، وقد احتجت العائلة وقتها بمعطيات منطقية، أهمها أن فرصة العمل في هذا الميدان محدودة جدا في سوريا.

لكن بعد الأحداث وجدت وعد الخطيب نفسها تعمل في المهنة التي أحبتها، خاصة بعد أن تزوجت الطبيب حمزة، الذي أسس رفقة مجموعة من الأطباء مستشفى ميدانيا، بعد أن أصبح جزء واسع من مدينة حلب لا يخضع لسلطة النظام السوري، وهذا ما جعل العديد من الجهات تتحرك لخلق فضاءات رعاية صحية لمعالجة المرضى والجرحى الذين يسقطون يوميا جراء المواجهات المستمرة بين العديد من الفصائل المسلحة من جهة. ومن جهة أخرى بين تلك الفصائل وبين النظام السوري وحلفائه، وأشرسهم الحليف الروسي الذي يقصف المنطقة بالطائرات.

كما كانت الظروف مواتية لوعد بأن تكون إقامتها داخل العديد من المستشفيات التي أسسها زوجها، لهذا كانت كاميراتها حاضرة في اللحظات الحاسمة التي يكون من خلالها إحضار الجرحى الذين يسقطون في المواجهات، وبشكل أكثر وأوسع خلال القصف، حيث تكون على استعداد دائم لاقتناص لحظات حاسمة تصنع لها مفارقة على مستوى أهمية الصورة، مثل تصويرها مشهدا في غاية الأهمية والإنسانية يتأثر به أي متلقٍّ في العالم.

المخرج وعد الخطيب تحمل ابنتها “سما” في أحد شوارع حلب المدمرة

 

مولود جامد.. توثيق لمنعرج حاسم

تتسارع نبضات قلب أي مشاهد إن كان شخصا طبيعيا بسبب اللحظات المؤثرة جدا، وذلك حين أُحضرت امرأة حامل إلى المستشفى، بعد أن تعرض بيتها لقصف من الطائرات الروسية واستُخرجت من تحت الأنقاض، وفي المستشفى وُضعت على نقّالة لإجراء عملية قيصرية لها.

بينما قام فريق طبي آخر بمداواة جروح وجهها، وعندما أُخرج المولود كان جامدا لا يتحرك، مما جعل الطبيب يقوم بالعديد من التمارين لإيقاظه، فجرّب التنفس الاصطناعي من خلال الضغط على القلب، لكن رغم هذا بقي الصغير جامدا لم يتحرك، لهذا قام الطبيب بمحاولة أخرى، وهي حمله من القدمين، فيما بقي رأسه متدليا إلى الأسفل، ثم بدأ يمسح على ظهره بطريقة سريعة جدا، وبعد لحظات فتح عينيه وبدأ في البكاء.

هذه المراحل التي وُثِّقت بكاميرا وعد الخطيب صنعت منعرجا حاسما في الفيلم، خاصة وأنه مشهد مشحون بكمية هائلة من العاطفة، والخوف من الفقد والموت الذي كان قريبا من الجنين، لكن في الأخير عاد إلى الحياة، وعادت معه الفرحة في وجوه الأطباء والحاضرين والأم التي استطاعوا إنقاذها أيضا.

صورة تجمع عائلة المخرجة وعد الخطيب وزوجها حمزة وابنتهم سما على أنقاض أحد البيوت المدمرة في حلب

 

مشاهد فقد موت وفراق.. تراجيديا حلب

مشاهد الفقد والفراق والموت هي السمة الأبرز في فيلم “إلى سما”، ويعود هذا إلى إقامتها في المستشفى، إضافة إلى السلطة التي يملكها زوجها الطبيب حمزة الذي كان لها عونا في إنجاز هذا الفيلم وتحقيقه، كما جعلها تقف على أهم المشاهد بحكم عمله في الاستعجالات الطبية. لهذا نجد هناك العشرات من المشاهد التُقطت داخل المستشفى مثل أم تفقد طفلها الذي تحمله وتضمه إلى صدرها وتخرج به ملفوفا من المستشفى، وطفل صغير آخر يبكي إخوته الذين فقدهم، فهو الناجي الوحيد من عائلة مُكوّنة من عشرة أفراد، ودماء على إسفلت المستشفى.

لينتقل الفيلم إلى مرحلة أخرى تعكسها عملية قصف المستشفيات واستهدافها من طرف الطيران الروسي، وهذا ما نقلته وعد في فيلمها من أجل إيصال شعور الخوف للمشاهد، وفي الوقت نفسه تصوير المخرجة على أنها كانت تقوم بمغامرة ومخاطرة كبرى من خلال تصوير وإنجاز مادة هذا الفيلم، خاصة وأنها تقضي الكثير من وقتها في المستشفى، لهذا يكون الموت أقرب منها في حالة تعرضوا للقصف.

الطفلة “سما” ابنة المخرجة وعد الخطيب

 

سما.. خيط يربط الأحداث

مشاهد الدمار والموت والحرب لم تكن لتصنع فيلما وثائقيا يمتلك عناصر التأسيس، لهذا تم اللجوء إلى خيط ذاتي يربط حلقات هذه المشاهد ويوحدها، لتكون الطفلة سما ابنة المخرجة وعد الخطيب والطبيب حمزة هما الخيط الذي يوصل هذه المَشاهد، ويضمن لها سلاسة الترابط والانتقال، إضافة إلى العنصر الزمني الذي تكرر التلاعب به بدرجة كبيرة، من خلال الذهاب إلى الماضي والعودة له، ودائما عن طريق “سما” التي كانت المُسبب والدافع لهذا التنقل. كما أدخلت “سما” الفيلم في رواق إنساني معين، وصبغته بمسحة شعرية عكستها عملية توثيق زواج وعد وحمزة، واختبار الحمل والولادة والتدرج في العمر.

ومن هنا كان كل مشهد ذاتيا ومساندا وموازيا لمشاهد الموت التي يعكسها المستشفى والمدينة والحرب بشكل عام، لتكون مشاهد الحياة تجسدها الطفلة “سما”، أما الموت فهو دون ذلك، ولم يكتفِ المخرجان بهذا القدر من الذاتية، بل لجآ إلى عملية الرواية/المخرجة/البطلة/أم البطلة، لتتعدد هذه الصفات خاصة عندما تُعيد سرد الأحداث بصيغة “الأنا” الأنثى الحميمية التي تبحث عن مكان لها وسط الفوضى التي خلقتها الأسرة/ العائلة/ المجتمع/ والبلد بشكل عام، لهذا جاءت صرختها مُدوّية رغم خفوتها، وقوية رغم ضعفها، ومسموعة رغم أنها كانت مكتومة لسنوات، لتتوسع عملية الاستعانة بالصور الذاتية لتشمل الأصدقاء والبحث في مصائرهم ويومياتهم، وفي أفراحهم وأحزانهم، وفي أحلامهم وكوابيسهم.

كل هذا مرتبط بخيط الطفلة “سما” المُسبِب للأحداث، وصوت الراوية “وعد الخطيب” التي تجمع بلسانها ما كان مشتتا من الأحداث، وتفسر ما كان غامضا. ولإعطاء دافع تعاطف آخر تخلق بعض مشاهد البطولة من خلال المشهد الذي يسافر فيه الطبيب حمزة وزوجته وعد وابنتهما سما إلى تركيا في زيارة عائلية، لكنهم يعودون إلى حلب بعد فترة رغم المواجهات في الكثير من النقاط، وقطع العديد من الطرقات، وكل هذا من أجل استكمال عملهما الإنساني، وفي المقابل كان بوسعهما ترك سما، لكنهما لم يفعلا ذلك، حتى تكون هي الأخرى عنصرا من هذه الأحداث.

وعد الخطيب وزوجها حمزة والمخرج إدوارد واتس يحملون أوراقا مكتوبا عليها “أوقفوا تفجير المستشفيات”

 

جائزة “العين الذهبية”.. توثيق ذاتي للأحداث

“إلى سما” فيلم وثائقي مهم يُسجّل لحظة تاريخية مفصلية في تاريخ سوريا، ويشجع على فكرة التوثيق الذاتي للأحداث لاستغلالها فنيا مستقبلا في عملية صناعة السينما التسجيلية الحربية، وذلك للوقوف على الأحداث من وجهة نظر الشاهد الميداني المشارك فيها، لا عن طريق التواتر الشفهي الذي يُصبَغ في الكثير من الأحيان بالزيف والمرجعية الضعيفة.

شارك الفيلم وحصد العديد من الجوائز العالمية المهمة، من بينها جائزة “العين الذهبية” بمهرجان كان السينمائي، وجائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام “بافتا” لأفضل فيلم وثائقي، وجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان ومؤتمر “الجنوب والجنوب الغربي” للأفلام الوثائقية، كما وصل إلى القائمة القصيرة في فئة الأفلام الوثائقية، إضافة إلى عدد من الجوائز العالمية الأخرى.