إليان.. طفل القارب المتهالك يؤجج النزاع بين كوبا وأمريكا

في الحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1999 صادف صيادون أمريكيون في مدينة ميامي قاربا بدائيا كان على وشك الغرق في وسط البحر، وفي داخل القارب عثروا على طفل كوبي يبلغ من العمر ست سنوات، واسمه “إليان غونزاليس”.

انشغلت الولايات المتحدة لأشهر بعد ذلك بمطالبات السلطات الكوبية بعودة الطفل إلى بلده، وقاد ذلك لأكبر أزمة سياسية بين الولايات المتحدة وكوبا منذ ستينيات القرن الماضي، كما وجدت السلطات السياسية الأمريكية نفسها في موقف معقد للغاية، إذ يتوجب عليها الاختيار بين الالتزام بالقضاء الأمريكي، أو الانسياق وراء العاطفة والرأي العام الشعبي الذي كان متعاطفا للغاية مع مأساة الطفل الكوبي.

“إليان”.. كارثة إنسانية تتحول إلى صراع سياسي

تتكشف بعد أيام من العثور على “إليان” أبعاد الكارثة الإنسانية التي لفت رحلته غير القانونية إلى الولايات المتحدة، فقد كان برفقته أُمّه وصديقها و20 شخصا من الكوبيين الذي خططوا طويلا للهرب من كوبا، لكن الرياح وأمواج البحر العنيفة فاجأت قاربهم البسيط التجهيز، وأغرقت الأُمّ وصديقها وعشرة من الركاب في البحر، والصدفة وحدها هي التي أنقذت الباقين.

كان يمكن لقصة الصبي الكوبي أن تكتب لها نهاية سعيدة بمجرد وصوله إلى الولايات المتحدة، إذ يُمنح اللاجئون الكوبيون الإقامة حال وصولهم إلى أمريكا، بيد أن والد “إليان” في كوبا الذي لم يكن يعرف بخطة أُمّ ولده بالهرب إلى الولايات المتحدة (كانا منفصلين في ذلك الوقت)، بدأ بتحرك قضائي لإرجاع ابنه إلى كوبا، ليبدأ عندها سيرك إعلامي غير مسبوق، قاده الإعلام الأمريكي والكوبي، وتصدره رجال السياسة في كلا البلدين، منهم الرئيس الكوبي الراحل “فيدل كاسترو”.

يعود فيلم “إليان” (Elián) الوثائقي -الذي أخرجه الإيرلنديان “روس مكدونيل” و”تيم غولدن”- إلى قصة الصبي الكوبي الذي وجد نفسه وسط صراع سياسي بين دولتين. وينبش الفيلم في مئات المواد المصورة للقصة وتطوراتها، ويسير على خط تصاعدي زمني مقدما الأحداث كما وقعت.

في حين يستعيد “إليان” ووالده من كوبا وأقاربهما الذين يعيشون في ميامي الأحداث، قراءة لا تختلف في جوهرها عن رؤيتهم ومواقفهم حينها، وتقود تعليقاتهم الصوتية المُشاهد عبر المشاهد الأرشيفية التي كانوا أبطالها قبل عشرين عاما، كاشفين عن خفايا كواليس الحدث الإنساني والإعلامي الكبير.

“فيدل كاسترو”.. مساندة الأب في استرجاع حضانة ابنه

المشاهد الأرشيفية الأولى التي سجلها الإعلام الأمريكي للطفل “إليان”، بعد وصوله لأقربائه من جهة أبيه الذين لجأوا قبله بأعوام إلى مدينة ميامي الأمريكية؛ تنبئ بأنه سيتحول لقصة إعلامية مهمة، هذا حتى قبل أن يتكشف أن والده لم يكن يعرف بخطة الأُمّ للهرب دون علمه مع ولدهما إلى الولايات المتحدة. وكان مؤثرا للغاية اندهاش الطفل البريء الذي نجا من الموت، وفقد أُمّه في رحلتهما إلى بلاد الأحلام.

قصة إليان غونزاليس فجرت أكبر أزمة سياسية بين الولايات المتحدة وكوبا منذ ستينيات القرن الماضي

يظهر والد “إليان” في الإعلام الكوبي مطالبا بحضانة ابنه، وهي الدعوة التي ستحظى بمناصرة شعبية قلَّ مثيلها في كوبا، ومساندة الرئيس “فيدل كاسترو” نفسه، وحينها تكتمل عناصر كافية لأزمة دولية بين البلدين المتنازعين منذ عقود، فقد بدا أن النظام السياسي في كوبا كان يبحث عن فرصة لتأجيج مشاعر الكوبيين من خلفه، عبر الوقوف وراء قضية “إليان” الإنسانية الأبعاد.

استعادة الابن.. وحش أمريكا الذي يحاصر الشعب الكوبي

يتوزع زمن هذا الفيلم الوثائقي بين مشاهد أرشيفية من الولايات المتحدة، وقد تألفت من تقارير تلفزيونية وفيديوهات شخصية، وبين مشاهد من كوبا، ويُتحكَّم بها كثيرا من السلطات هناك، وتحوّل “إليان” في الولايات المتحدة إلى أمثولة للكوبيين المضطهدين الذين يغامرون بحياتهم لأجل الهرب من النظام الشيوعي في بلدهم.

أما في كوبا فقد أصبح “إليان” رمزا للظلم الواقع على الكوبيين من الولايات المتحدة التي تحاصرهم اقتصاديا وسياسيا منذ عقود. يقف كوبيون كثر يعيشون في الولايات المتحدة ضد عودة الصبي الكوبي إلى والده، ويحتشد كوبيون في كوبا لاستعادة ابنهم المختطف والموجود في بلد العدو.

كل هذا كان يجري والصبي الكوبي نفسه لم يكن قد تفوه إلا ببعض العبارات غير المفهومة.

انتزاع من أحضان الأقارب الكوبيين.. تنازل أمريكي

بينما كان الموقف في كوبا واضحا وحازما تجاه عدم التنازل عن عودة “إليان” إلى بلده، كانت الولايات المتحدة مسرحا لحرب داخلية صغيرة، فقد تسلح كوبيون في الولايات المتحدة بكل غضبهم من النظام الذي أجبرهم على ترك بلدهم ضد عودة الطفل الكوبي، وتذرعوا بأن والد الطفل نفسه قد أُجبر على مواقفه الإعلامية، وأنه سيطلب اللجوء مثلهم لو سنحت له الفرصة.

أما القضاء الأمريكي فكان يريد أن يبتعد عن العاطفة ويقوم بعمله دون تأثيرات خارجية، بينما انحاز سياسيون أمريكيون إلى خطاب الجماهير العاطفي، وصرحوا بأنهم مع بقاء “إليان” في الولايات المتحدة، وهو موقف يفسره المراقبون بعدم رغبتهم بمعاداة الجالية الكوبية القوية النفوذ في ميامي وغيرها من المدن الأمريكية، لا سيما وأن الولايات المتحدة كانت تتحضر وقتها لانتخابات رئاسية جديدة.

ومثلما لم تكن المواد الأرشيفية معضلة أمام هذا الفيلم الوثائقي، لم يكن صعبا لصُنّاع الفيلم إيجاد الخط السردي، فالأحداث التي استعادها الفيلم كانت تسير بوتيرة تصاعدية نحو أزمة وتوتر، إلى أن وصلت لذروة عاطفية شديدة القوة، فقد أمر القضاء الأمريكي برجوع الطفل إلى أبيه في كوبا، بيد أن هذا القرار عطله سياسيون أمريكيون لمآرب شتى.

وبعد وساطة مؤسسة مسيحية أمريكية وزيارة للأب نفسه إلى قاعدة عسكرية في الولايات المتحدة، وجدت الحكومة الأمريكية نفسها في موقف محرج كثيرا، لتوافق في النهاية على تحرك عنيف لانتزاع “إليان” من أحضان أقربائه الكوبيين، وهي عملية يسجلها الإعلام في مشاهد ستبقى أيقونية.

“إليان”.. بطل قومي يزدحم عليه الناس في كوبا

يظهر “إليان” في دقائق الفيلم الأخيرة، بعد أن أجل المخرجان ظهوره إلى نهاية الفيلم. وهو يبلغ الآن 23 عاما من عمره، وما زال يعيش في كوبا كحال والده، وهو لا يتذكر كثيرا مما مرَّ به في الولايات المتحدة، لكن ذكريات طفولته تطغى عليها لقاءات جماهيرية عامة، وزيارات إلى “فيدل كاسترو” الذي تبناه عاطفيا.

الرئيس الراحل فيدل كاسترو تحمس شخصيا لقضية الفتى إليان غونزاليس

يعيش “إليان” منذ عودته إلى كوبا بطلا قوميا، وما زال الناس يتزاحمون لالتقاط الصور معه، بينما يتمسك والده حتى اليوم بمواقفه تجاه قضية ابنه، ويردد -بالعزم ذاته الذي أظهره أمام العالم وقتها- أنه ما زال مؤمنا بمبادئ دولته، ولا يفكر بتركها حتى لو توافرت الفرص لذلك.

لا شك في أن العودة إلى أحداث قصة “إليان” وثائقيا، بعد نحو العقدين من وقوعها لها ما يبررها، وذلك لجهة ما تكشفه اللحظة التاريخية تلك عن حال الأطراف التي كانت تقف على النقيض من القضية، والمواقف التي تلفها المصالح لكل المشتركين في ذلك السيرك العام، بيد أن الاستعادة كانت غير مرضية تماما، لأنها وقفت عند حدود المواقف العامة التي كانت واضحة وقتها، ولم تنفذ إلى طبقات ما تحت المعلن.

وهو أمر في مجمله كان خارج سيطرة صانعي الفيلم، إذ ما زال أبطال القضية في مواقعهم نفسها من الأزمة، وبالخصوص “إليان” وعائلته، فما زالوا يعيشون في كوبا، البلد الذي لا يزال -على رغم أنه اليوم أقل انغلاقا عما كان عليه قبل عشرين عاما- يخيف مواطنيه ويمنعهم من الحديث بحرية للإعلام الأجنبي.