“إن شئت كما في السماء”.. تأويلات اليأس والأمل والغربة

“الحياة كلعبة قاسية لن تكون ممكنة إلا حين تصبح السخرية أقوى من القدر”، هذا ما يراه الشاعر التشيكي “فلاديمير هولان”، فالسخرية انتقام بارد من برودة العالم، فهي تُعرّيه وتجرّده من تفاصيله إلى ما وراءها، وهو ما يفضّل القيام به المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، ويقدمه في فيلمه الجديد “إن شئت كما في السماء” الذي نال تنويها خاصا في مهرجان “كان” لهذا العام، وعُرض مؤخرا في القسم الرسمي خارج المسابقة في الدورة الـ41 لمهرجان القاهرة السينمائي.

شيء من لا شيء.. عزف منفرد للعالم

إن كنت تبحث عن قصة ذات أحداث كبيرة مترابطة، فإن هذا الفيلم سيأخذك بعيدا تماما عن هذه المنطقة، حيث تتسلل قصته من اللاقصة، ويتسلل المعنى مما يبدو لا شيء، حيث يعمل عالمه كمزيج من رؤية ذاتية ترتشف المذاق التسجيلي الحياتي مع تجرد من التفاصيل، ورؤية خيالية ساخرة بمذاق سيريالي كما يتلقى العالم بطله إيليا سليمان نفسه، حيث يظهر في الفيلم بشخصيته الحقيقية وحياته الواقعية، وذلك ضمن لوحات منفصلة وحوار شبه منعدم، ليكون الفيلم أقرب لسوناتا (قالب موسيقي) من عدة حركات تختص بآلة موسيقية منفردة دون أصوات بشرية.

اغتراب ووطن مُفتَقد

ينقسم الفيلم لأربعة مراحل سردية تشترك في طبيعة واحدة ورؤية تكمل بعضها بعضا، وتتيح التأمل بشخصيات محدودة، ورحابة دون زحام بصري، ككولاج (تكنيك فني يقوم على تجميع أشكال مختلفة لتكوين عمل فني جديد) يعمل كليا رغم انفصال وحداته، عبر مونتاج تلقائي بارع ولا شعوري كما يصفه مخرجه.

تتضمن مراحل السرد ثلاث مناطق تبدأ من الناصرة في فلسطين، وهي بلدة إيليا سليمان، ثم باريس وتليها نيويورك، وذلك كمغادرة تحمل نوعا من ردّ الفعل تجاه ضيق أو سخط، لكنه يجد كل ما غادره موجودا بشكل أو بآخر في أماكن سفره، كنظرة عامة للعالم الحالي، ليعود في النهاية من جديد إلى الناصرة بشكل دائري كافكاوي (نسبة إلى الكاتب كافكا صاحب النظرة الأدبية القاتمة)، يعكس حالة عبثية سودواية في حقيقتها يسودها شجن مبطن، رغم الصورة المبهجة والممتعة والحالة الطريفة عموما، وتسللات الأمل أحيانا، بينما يبدو السرد بلا حبكة محددة يعكس في جوهره قصة مواطن يملأه الاغتراب ووطن مفتقد، يهديه إيليا سليمان فيلمه، وينشغل به دائما وبقضيته بطريقته الخاصة.

كنيسة البشارة في مدينة الناصرة، والتي كانت المشهد الافتتاحي في الفيلم، حيث بُشرّت السيدة مريم العذراء بابنها المسيح

الكنيسة.. أمل سماوي وعبَث أرضي

يبدأ الفيلم بمشهد افتتاحي يسبق التتر “أفان تتر” بصلوات وترانيم عيد القيامة، وذلك داخل كنيسة أثرية بمدينة الناصرة الفلسطينية، إنها مدينة البشارة حيث بُشرّت السيدة مريم العذراء بابنها المسيح، وأيضا حيث نفَذ الكثير من الغزاة تاريخيا إلى فلسطين، حيث يصطف المصلون على الجانبين بالشموع، بينما يتوسط الكادر قسّ الكنيسة بزيّه الكهنوتي التراثي الفخيم، يتقدم مع من وراءه من الرهبان حاملين صليبا خشبيا كبيرا، وتتقدم لهم الكاميرا في لقطة مهيبة الجمال ذات تكوين مركزي وإضاءة ساخنة تُذكرنا بلوحات رامبرانت.

“المسيح قام بين الأموات وداس الموت بالموت، المسيح قام من الموت ووهب الحياة للذين هم في القبور”، بداية تبدو جادّة مفعمة بالأمل، حيث الحدث عن قيامة المسيح كمعجزة يُحتفى بها، وتفتح لها الأبواب الدهرية كما يقول القِسّ في صلاته بثقة مهيبة: “ارتفعي أيتها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد”، بينما نفاجأ بباب مغلق في مواجهته لا يُفتح، لتطل الروح الساخرة بما تبطنه من إحساس باليأس، تُقلّب الموقف المهيب لحالة هزلية رمزية، فالأبواب مغلقة حتى في وجه المعجزات، أو في وجه الله كلسان حال المشهد.

يؤكد ذلك صوت خفي من وراء الباب يقول للقس “أبونا لو نزل الله مش فاتحين”، ليتحول المشهد لمشهد هزلي يتراشق فيه القِسّ لفظيا مع الصوت الخفي، لينتهي بفتح القِسّ للباب عنوة من الخلف وضربه للشخص الخفي. بداية أخذتنا من قمة الجدية والخشوع لعبث هزلي، ومن أمل سماوي لعبث أرضي، فلا معجزات إلا بفعل، ليعطي مفتاحا لروح وفلسفة الفيلم القادمة.

المخرج إيليا سليمان وهو عاقد الذراعين في الخلف صامتا يبدو كحنظلة

بطل صامت كـ”حنظلة”

يرتبط العالم السردي للفيلم بشخصية بطله إيليا سليمان الذي يتوسط الكادرات عادة، حيث يبدو دوما بهيئة واحدة وملابس ثابتة تقريبا طوال الفيلم، وقد تختلف ألوانها نسبيا لكن لا يختلف طرازها، فهي قميص ومعطف متوسط الطول وبنطلون من الجينز وقبعة من الخوص.

لا يتغير الأمر في موضوع الملابس إلا في أمريكا وفي زيارته لنيويورك، لتصبح الملابس كلها سوداء كالحداد الغاضب والإدانة الصامتة، فإيليا دائما صامت يراقب بلا تعبير، فهو مراقب سلبي للعالم، بما في ذلك من فقدان للدهشة، والذي يعكس عزلة نفسية وإحباطا عميقا، فإيليا لا يأخذ العالم بمأخذ الجد، بل يعقد يديه عادة وراء ظهره معطيا ظهره للعالم، وهي الوضعية التي يلتقطها بوستر الفيلم كلقطة رئيسية، موقف ساخر غير متورط في العالم كنوع من الرفض الهادئ له واللامبالاة اليائسة، كمن يقول هات ما عندك لم أعد أكترث، مما يذكرنا بشخصية “حنظلة” الشهيرة لفنان الكاريكاتير الفلسطيني الشهير ناجي العلي، شخصية الطفل الذي لا يكبر، بل يرفض محتجا أن يكبر حتى العودة، ابن النكبة والهزيمة عاقد الذراعين في الخلف صامتا، وكأن إيليا امتداده المعاصر.

جار إيليا سليمان الذي يقص الأشجار ويترك أدواته مبعثرة في الحديقة، والذي ظهر عدة مرات في الفيلم

الناصرة.. عبثية المشهد

في اللقطات الأولى للفيلم نتتبع إيليا سليمان بدءا من حديقة منزله في مدينته الناصرة حتى داخل المنزل، حيث نراه يقوم بأفعال روتينية كسقي النباتات وشرب قهوته الصباحية في شرفته، لكن يقاطعه صوت من الحديقة، ليُفاجأ بجاره داخل حديقته يتصرف بحريّة، يروي الشجر ويقطف ثمار الليمون، ويحدثه ببساطة مستمرا فيما يفعل، فيقابله تعجب صامت مُستسلم من إيليا، يناديه الجار بكلمة” جارنا” كما يفعل جار آخر كبير السن، دون أسماء محددة للشخصيات، وذلك بشكل محايد يُخفت الحالة التشخيصية لصالح حالة تعبيرية مجردة تسود السرد.

يتكرر المشهد صباح كل يوم مع تزايد تمادي الجار الذي يقص الأشجار ويترك أدواته مبعثرة في الحديقة، لتكون أولى ثورات إيليا، لملمة تبدو غاضبة لهذه الفوضى التي طالت منزله أمام عينيه، وفي الشارع نرى الحجاج الأفارقة يُصلّون أمام إحدى الكنائس، وأشخاص يركضون وراء شخص لضربه بصمت، ليعود من جديد في مشهد يتبوّل فيه بجوار طيور الحمام أمام الشرطة الإسرائيلية التي تهتم بالمراقبة الغبية، بينما يمر الحجاج الأفارقة من جديد مع سماع أغنية عبد الحليم حافظ التي يسمعها البطل في مقهى شارع في المشهد السابق، لنعرف أنه في الجوار.

اللقطات المنفصلة ترتبط بطرافة بشكل ما، فتظهر الشخصيات العابرة في مشاهد سابقة بظهور عابر من جديد، في مطاردات صامتة طريفة تتكرر كلعبة القط والفأر يسودها الظهور والاختفاء، ضمن عبثية تُذكرنا بمسرحية “انتظار جودو” لبيكيت، حيث يبدو الناس كالسائرين نياما، حتى أن الجار الكبير يتبول تحت المطر ظانا أن بوله هو سبب المياه حوله لا المطر.

المناضلة الفلسطينية الشابة “عهد التميمي” في إحدى المحاكم الإسرائيلية، والتي ظهرت في الفيلم

عهد التميمي.. المُكبلة الحرة

تُطلّ الشرطة الإسرائيلية من جديد بصورة تهكمية في مشهد من أفضل مشاهد الفيلم، وذلك أثناء قيادة إيليا سليمان لسيارته في بداية طريق مغادرته وسفره لباريس، كثاني ثوراته البسيطة، وذلك حين تمر بجواره سيارة بيضاء يقودها شرطي إسرائيلي بجواره شرطي آخر بنفس الملابس ونفس الحركات، فيتبادلان نظارات الشمس السوداء المتشابهة بلا فروق تستدعي التبادل، ضمن حالة مثيرة للسخرية، مع دلالات النظارات السوداء من انعدام الرؤية وفقد البصر.

ثم نرى في الأريكة الخلفية للسيارة فتاة شقراء مكبلة اليدين معصوبة العينين بعصابة بيضاء تتضاد مع لون نظارتيهما، رغم اتفاقها معهما في تورية العينين، بما يوحي بتناقضها مع حالتهما الإبصارية، كما لو كانت هي من ترى، تبدو شامخة العنق غير خائفة في وضع يظهر تحديا، حيث تتوسط الأريكة الخلفية بسيطرة تثقل كفتها إزاء الشرطيين الباديين كأبلهين رغم أنهما في صدارة السيارة، ورغم ملابسهما وسلاحيهما الواضحين، توحي هيئتها بأنها “عهد التميمي” المناضلة الفلسطينية الشابة، وذلك في مشهد تحية لها تُطل من جنباته القضية بشكل هادىء، يراقبهم إيليا من سيارته بنظارته الشفافة، فالكل مشتركون في وجود قيد ما، خف أو ثقل، أو اختلف معناه.

إيليا سليمان أمام متحف اللوفر في باريس في يوم بدا فارغا فيه من السيّاح

الناصرة وباريس ونيويورك.. ملامح المدن

تكون باريس أولى محطات سفر إيليا، حيث عاش فيها فترة من عمره، ثم ارتحل إلى نيويورك التي عاش فيها فترة من عمره أيضا، ربما بحثا عن جنة من رائحة الوطن، كغريب دائم أو “غريب مثالي” كما نعته بطريقة مستفسرة أستاذ في إحدى مدارس نيويورك التي استضافته في محاضرة.

تبدو ملامح شخصية كل مدينة من المدن الثلاث كالطبيعة الدافئة والأزقة ذات الأحجار القديمة في الناصرة، والأغاني العربية سواء أغنية “خمرة الحب” لصباح فخري، أو “بحلم معاك” لنجاة، أو “شغلوني” لعبد الحليم حافظ، ثم نرى أناقة باريس التي تقدَم كمدينة من الحلم بحركة بطيئة حالمة لخطوات الناس شديدي الأناقة في الشوارع، والنساء الأنيقات الجميلات بأحدث موضات الملابس، تصاحبهم أغنية بلحن فرنسي فاخر، حيث الأغاني بشخصية أماكنها تشكل الموسيقى التصويرية للفيلم.

يبدو إيليا مأخوذا في باريس بهذا الجمال كجنة وصل إليها أخيرا، كل شيء فيها فاخر دقيق النظام بتعامل شديد الأناقة، حتى من شركة الإنتاج التي رفضت فيلمه بمقدمة طويلة انتهت بأن فيلمه “ليس فلسطينيا بما يكفي”.

تسود عروض الأزياء، وتبدو تلاحقه حتى أمام شرفته، تعقب مشاهد لاستعراض السلاح والمارشات العسكرية، وظهور الدبابات وطائرات الهليكوبتر في السماء، ومن جديد يتم السخرية من الشرطة التي نراها تستخدم “الاسكوتر” في المطاردات، وتبدو مشغولة بتوافه الأمور تاركة الأهم والأخطر، كاقتيادهم سيارة مخالفة، بينما نجد تحتها لفافة قد ألقاها أحد الأشخاص في مشهد سابق أثناء مطاردتهم له.

فتاة تلبس علم فلسطين تتوسط بنايات نيويورك

نيويورك.. سيريالية المشهد

ينتقل إيليا إلى نيويورك فتبدو ناطحات السحاب كرمز لنيويورك التي لا يُظهرها جميلة، وفيها تأتي كلمتاه الوحيدتان اللتان رد بهما على سائق التاكسي الذي يسأله من أي بلد هو؟ فيجيب أنه من الناصرة وأنه فلسطيني، ليجن جنون السائق فرحا كمن عثر على كائن أسطوري.

تبدأ زيارة إيليا لنيويورك ليلًا بعكس وصوله نهارا لباريس، وذلك بإعلان مباشر عن هويته الفلسطينية بمجرد وصوله لها كتحد يوازي ناطحاتها، نرى ملابسه قد تبدلت للأثقل من جهة، وللون الأسود بالكامل من جهة أخرى ، لنستشعر موقفا مضادا من أول وهلة.

نبدأ بسماع أغاني البوب الأمريكية ذات الإيقاع السريع ترسم ملامح هذه المدينة التي نرى فيها المدنيين مسلحين، فيبدو الجميع حاملين للأسلحة بشكل يبدو طبيعيا اعتياديا في الشوارع وفي السوبر ماركت، نساء ورجالا، كإشارة لإدانة كل شيء حتى الشعب، وإشارة أيضا لكونها مدينة غير آمنة، فنيوريورك عاصمة أمريكا الاقتصادية أكبر مصدر للسلاح والضلع الأساسي في حروب العالم الحديث وتوتره.

تظهر من جديد طائرات الهليكوبتر في سمائها ببساطة أثناء الممارسات الحياتية، لتطل القضية من جديد خلال مشهد في حديقة عامة يبدو سيرياليا، حيث تظهر فتاة ترتدي ثيابا بيضاء بجناحين أبيضين، تلف باستدارة ميكانيكية ليبدو على صدرها في مواجهتنا علم فلسطين، فتطاردها الشرطة بملابسهم السوداء بعكس ملابسها، وتحلق فوقها طائرات الهليكوبتر، كما لو كان مجرد ظهور العلم كارثة تستحق الاستنفار، حتى يحاصروها بمفارش سوداء كأنهم يصطادونها، فتختفي لا يبقى منها سوى جناحيها على الأرض.

إيليا سليمان في باريس مدينة الموضة

شخصيات شبحية.. عالم آلي في المدن الثلاث

يبدو للناس في المدن الثلاث سمات متقاربة، كأنها تجمع العالم شرقه وغربه، ضحايا وجلادين، فهم جميعا يبدون افتراضيين كالأشباح الغريبة، متآلفين على اللامنطق، فالعبث يُمارس بجدية وطبيعية، جيرانه في الناصرة يثرثرون بلا طائل، لكنهم يحملون وُدا دافئا رغم كل شيء كطبيعة العرب، يعتدون على بعضهم كما يُعتدى عليهم.

وفي باريس ينشغلون بالموضة والأزياء كالأشباح الجميلة البعيدة، حتى رقتهم تبدو آلية، وفي نيويورك يكثر الأطفال الرضع في عربات تجرها أمهاتهم بشكل آلي، ويتنكر الناس في أقنعة مرحة تخفي أرواحهم مبررة بعيد الهالوين، لكنها تخدم رؤية سيريالية ساخرة للواقع، ليتجاور ذلك ببساطة مع ظهور السلاح، مع تطابق يسود التكوينات عادة ويرافق ظهور الشخصيات، كظهور شخصيتين متماثلتين أو أكثر يفعلون نفس الأفعال، بشكل يذكرنا بشخصيتي المحققين الفاشلين تيك وتاك، التوأم المتماثل في قصص تان تان قديما، والمثيرين للضحك بتماثلهما الشديد في الهيئة والأفعال، بشكل يُفرّغ المواقف من جديتها.

إيليا.. الخائف الوحيد الصامت

يظهر إيليا سليمان في كل هذه الأحداث كصامت لا يعترض، كغريب وسط نيام يغزو جاره حديقته أمامه صامتا، ونراه في الطائرة الوحيد الذي يشعر بالمطبات الهوائية الشديدة خائفا وسط أناس لا مبالين، فلا يجِد غير تغييب وعيه بالخمر كي يصبح مثلهم.

وفي مترو باريس يشاركه تذكرته عنوة أحد الأشخاص، ثم يتبعه في العربة محدقا فيه بتحدٍّ وقح، فيكتفي إيليا بتعجب صامت، ويمر في باريس بمشهد هزلي يعبر عن حالة قهر عابرة بشكل طريف، لامرأة مقعدة تقود كرسيها الإلكتروني بسرعة، بينما يركض خلفها كلبها محلول السلسلة، ليبدوان هزليين كأسير يركض وراء أسير ليأسره.

ثلاثة إخوة يجلسون في أحد مطاعم مدينة الناصرة، فبينما يشرب الإخوان الخمر إلا أن أختهم في المنتصف مُحرّم عليها

القضية في ومضات

تُطلّ القضية الفلسطينية بشكل أو بآخر بتلقائية سلسة، كتكرار ملفت لكلمة “اتفاقية” كاسم لإحدى محطات المترو في باريس، بما يستدعي اتفاقية “وارسو” التي عارضها إيليا سليمان بشدة، والتي تضمنت اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل.

نراه أيضا في نهاية رحلته لنيويورك لدى عرّاف يقرأ ورق التاروت، حيث يخبره أنه سيكون هناك فلسطين لكن ليس في حياة أيّ منهما، كما لو كانت فلسطين غير موجودة ووجودها يحتاج عرّافا يتنبأ به، ونراه يمر في طريق مغادرته لمدينته وطريق عودته إليها بأشجار الصبّار وأشجار الزيتون المرتبطة بالنكبة، يطيل تأمله فيها كمن يؤدي صلاة، ليعقب هذا المشهد دوما في الذهاب أو الإياب مشهد يبدو شاعريا كالحلم، يتتبع فيه بشغف بين الشجر بدوية فلسطينية بالزي التقليدي، تمشي شامخة تحمل جرار الحليب فوق رأسها لبيعها، ليلتقي بأخرى مثلها في العودة وقد أفرغت الجرار بعد بيعها.

سرد نقي ومونتاج بارع

مزج سرد الفيلم بين الذاتية والموضوعية، وبين الواقع والخيال الواقعي بطريقة التداعي الحر، التي تفسح المجال لتدفق تلقائي للأفكار والمشاعر واللاوعي، وتذيب الخطوط المنطقية الصارمة لحقيقة أكثر صدقا، وذلك بعد تعريتها من المنطق الشكلي لتبدو لامنطقيتها، التي قدّمها متماسكة مونتاج بارع، في سرد يمكن وصفه بالنقي أو البريء كالجريان، ضمن حالة فنية خالصة تسود خلالها اللقطات الطويلة الثابتة، بينما يتحرك الأشخاص في الكادر، أو تتقدم الكاميرا بالمكان نفسه.

كما تظهر بشكل متوارٍ الروابط الزمانية والمكانية بين اللوحات والمشاهد التي تبدو منفصلة، كاختيار السماء لتكون رابطا سلسا متكررا في النقلات الكبرى بين البلاد.

المخرج إيليا سليمان الصامت في أحد مطاعم مدينة الناصرة يجلس على طاولة ويفكر بما يجول حوله

“خَمرَةَ الحُب”.. حين يشرب الفلسطيني ليتذكر

يسيطر الإحساس السيزيفي (نسبة إلى الأسطورة اليونانية سيزيف) على البطل بعودة في النهاية لمشهد البداية، حيث يجلس في حديقته ليلا متطلعا للسماء، كما نجده دائما ينظر إليها ويتطلع من شرفته في كل البلاد كمنفَذَي أمل وحلم.

تتكرر في الفيلم حالة تعاقبية بين طرفين، الليل والنهار، أو البدء والانتهاء، ونلاحظ تكرارا لثيمات سردية، منها تكرار صوت أجراس الكنائس وصوت سيارات الإسعاف في كثير من الأماكن، وذلك كحالة تنبيهية واستغاثية، ويكثر أيضا ظهور الماء بأشكال مختلفة، سواء بسكبه في سقي النباتات والتبول وهطول المطر كحالات تنفيسية، أو احتسائه خاصة من خلال الخمر كحالة تغييبية، لتأتي جملة مؤثرة هامة على لسان رفيق سُكر له مع نغمات أغنية “خَمرَةَ الحُب” لصباح فخري “أنتم الفلسطينيون غريبون، العالم كله يسكر لينسى، لكنكم الشعب الوحيد الذي يسكر ليتذكر”، ليرقص بعدها على أنغام الأغنية رقصة ثملة كالذبيح.

“عربيّ أنا”.. تمازج الأمل ويأس

تأتي نهاية الفيلم بجلوس إيليا في ملهى ليلي في مدينته يحتسي شرابه، بينما يرقص الشباب في إضاءات ملوّنة على أغنية “عربيّ أنا” للمطرب يوري مرقدي، يرددونها معها، فيطالعهم إيليا بنظرات تجمع بين الشجن المرير والبسمة الخافتة، فربما كانت هذه الحالة نوعا من المقاومة التي تحمل أملا، لكن من المثير لليأس أيضا أن تكون هي كل المقاومة.

هذا المزيج المتضارب يُحيلنا للعنوان الذي يحوي من الأمل ما يحتويه من اليأس بتأويلات متعددة، فـ”إن شئت كما في السماء” قد يعني تحقق الجنة على الأرض، أو قد يعني وعدا مؤجلا إلى عالم السماء، وقد تكون الجنة هي ما يترقبها على الأرض، أو تكون الجنة تلك التي لن تكون إلا في السماء.