“احصل على رحلة جيدة.. مغامرات في مخدر”

عبد الكريم قادري

كان بين أصدقائه حين تناول الحمض المهلوس أول مرة، وحينها نسي اسمه وتفاصيل حياته، وأصابه الذعر وخجل أن يسأل أصدقاءه فيفسد عليهم الأمسية، فأمسك بدليل الهاتف وبدأ يتصفح أوراقه علّه يجد إشارات وحروفا يمكن أن تذكّره بأي شيء، لكنه لم ينجح في ذلك المسعى، فازداد قلقه مع مرور الوقت، لأنه من الغريب أن ينسى اسمه ومهنته وعنوانه.

خطرت بباله فكرة أن يبحث في محفظة جيبه، وبعد لحظة وجد الهوية وعرف من خلالها اسمه وتفاصيل انتمائه، نظر إلى أصدقائه وعلامات الانتصار واضحة على وجهه، ثم قال لهم: “اسمي أنتوني بورداين”، فنظروا إليه مستغربين من الفرح والحماسة التي بدت عليه وهو يلفظ اسمه.

كان هذا اعترافا من الطاهي والكاتب والوجه التلفزيوني الأمريكي المعروف “أنتوني بورداين” حول تجربته في تناول الحمض المهلوس، ضمن جملة أخرى من الشهادات والتجارب في الفيلم الوثائقي “احصل على رحلة جيدة: مغامرات في مخدر” (Have a good trip: Adventures in psychedelics)، وهو من إنتاج عام 2020.

وردت هذه الشهادات على ألسنة نجوم عالميين في السينما والتلفزيون والموسيقى والكتابة والإخراج على غرار “نيك أوفمان” و”أساب روكي” و”آدم سكوت” و”هالي جول أوسمان” و”ريكي ليندوم”، و”ستينغ” و”نتاشا لوغيرو” و”آنجيلا تريمبور” و”بريت جيلمان” و”بلاك أندرسون” و”نيلسون فرنكلين” و”آدم دفين” و”بن ستيلر” وآخرين.

وقد سرد كل واحد من هؤلاء تجربته الشخصية في تناول الحمض المهلوس الذي كان مادة مخدرة رائجة في أمريكا سنوات الستينيات من القرن الماضي، وهو عقار “إل س دي” (LSD) الذي كان يستعمل كعلاج لحالات نفسية ومرضية معينة خاصة بين أفراد الجيش الأمريكي من الذين شاركوا في الحرب الفيتنامية التي سالت فيها الكثير من الدماء.

مع الوقت انتشر هذا الحمض المهلوس وأصبح منتشرا وسط الشباب والمراهقين وطلاب المدارس، إضافة إلى عقاقير أخرى كان لها تأثير قوي على مسار هؤلاء النجوم الذي تعاونوا في هذا الفيلم الوثائقي.

 

نسف الصورة النمطية.. أهل مكة أدرى بشعابها

تطرقت السينما في عدد لا يحصى من الأفلام إلى قضية الإدمان والمدمنين على العقاقير والمواد والأحماض المهلوسة، سواء كان هذا التطرق كمتن أو هامش، وبالتالي خلقت تصورا خاصا بالمتعاطي تعكسه تصرفات معينة، مثل أن تجعل العدسة المسلطة عليه محدبة ومتراقصة، وصوته أجش يخرج الكلام ببطء.

وقد فُندت هذه الصورة النمطية في الفيلم، خاصة وأن هؤلاء المتحدثين لهم تجربة في الإدمان، وقد قال أحدهم إن معظم الأفلام لم تعكس الصورة الحقيقية لما يمكن أن تكون عليه حالة المدمن أو المتعاطي، ما عدا تصورا واحدا صحيحا عكسه الممثل “جوني ديب” في أحد أفلامه كما قال أحد المتدخلين.

وقد جاء فيلم “احصل على رحلة جيدة: مغامرات في مخدر” -الذي كتبه وأخرجه “دونيك كاري”- ليصحح هذه المنطلقات الخاطئة في فيلم سينمائي قدم فيه معالجة مبتكرة لظاهرة عالم العقاقير المهلوسة والإدمان والتعاطي، سواء من ناحية تقديم المعلومات والمعطيات الصحيحة أو من خلال خلق الجمالية التي تنعكس في طريقة بناء العمل والسرد وتوليد اللغة والدلالة الفنية، رغم أن الموضوع بالغ الأهمية والحساسية في الآن معا.

وأكثر من هذا فقد استطاع المخرج “دونيك كاري” أن يقنع عددا كبيرا من نجوم صنّاع الفن لتقديم شهادات حول تجاربهم في الإدمان لتوظيفها في فيلمه، وقد جاءت هذه الموافقة نظرا للسمعة الطيبة التي يتمتع بها المخرج في الوسط الفني، إضافة إلى النجاح الذي يمكن أن يحققه في أي تجربة يخوضها، وقد كلل مساره الفني بالعديد من الإنجازات والتتويجات أهمها جائزة “إيمي” العريقة والمهمة.

الكاتب والممثل والمنتج نيك كرول تخيل نفسه شجرة عندما تناول الحمض المهلوس لأول مرة

 

شهادات في قالب هزلي.. منطلقات المعالجة الفنية

خلق المخرج “دونيك كاري” قيمة فيلمية وسينمائية من خلال معطيين أساسيين، وينعكس الأول في كيفية تناول موضوع التعاطي وزاوية المعالجة، والابتعاد عن الشيطنة أو التناول المباشر والنصائح التي تقدم عادة في الأفلام، أو من خلال ذكر مصير المتعاطي والجنون الذي يمكن أن يحدث له مع إظهار الندم والخوف وذكر النتائج الكارثية.

كان المخرج يدرك جيدا بأن هذه الطريقة لم تعد تجدي في ظل التغير الكبير في ذهنية المتلقي، لذا اعتمد على خاصية الهزل، أي أن الضيف الذي يقدم تجربته في التعاطي يقدمها بطريقة هزلية، حيث يسرد بالتفصيل أول مرة تعاطى فيها الحمض المهلوس، وهي على الأغلب كلها شهادات مضحكة، فيروي كيف كان ينظر إلى الواقع، وما الذي حدث له بالضبط.

كانت كل قصة من تلك القصص المروية فيها عناصر مهمة للقصة من بداية وعرض ووصف ونهاية، إضافة إلى الطريقة الذكية في روايتها، ويعود هذا إلى خبرة المتدخل في الفن ومواجهة الجمهور، فكل ضيف يقدم قصة مختلفة، وهي الكارثة أو المصيبة التي حدثت له أثناء التعاطي، ليعيد مرة أخرى رواية المصيبة الكبيرة التي حدثت له أثناء تناوله جرعة زائدة أو تجربة عقار أو صنف جديد، مثل ما حدث مع الطاهي والكاتب “أنتوني بورداين”.

بوستر فيلم “احصل على رحلة جيدة” الذي استعمل فيه المخرج الألوان والرسومات الإيحائية التي تعكس الحالة الذهنية للمتعاطي

 

توظيف الرسوم المتحركة.. لغة سينمائية خالية من الأحكام

إضافة إلى الأسلوب الهزلي اعتمد المخرج على معطى آخر أساسي، وهو إعادة تمثيل تلك القصص المروية من الضيوف عن طريق مشاهد عادية أو كرسوم متحركة، والرسوم المتحركة هي الشكل الفني الغالب، إذ يحوّل الحوار إلى لغة سينمائية يعود من خلالها إلى ماضي المتدخل، سواء في تجربته الأولى في التعاطي أو الكارثة التي ارتكبها.

ومن هنا تحولت عملية تقديم المعلومة الصحية والنفسية والمادية والروحية إلى حقيقة تتراقص أمام المشاهد، فيقف أمامها دون أن يتلقى أي حكم سلبي أو إيجابي من المخرج وضيوفه، وبين المحطتين الأساسيتين هناك تلاعب واضح اعتمد عليه المخرج من خلال تقسيم تلك الحكايات المروية إلى قطع متداخلة تتلاعب بها خيوط المونتاج حتى لا يحس الملتقي بوقعها، وقد عمد المخرج على الدخول في ذهن المتعاطي وأخرج ما فيه من صور ثم أعاد تركيبها على الواقع.

ساهمت هذه الصور الهزلية في الوقوف على حالة المتعاطي، وفي نفس الوقت فككت شعوره أمام المادة التي يتعاطاها، وأكثر من هذا اعتمد أيضا على البرامج التي تخلقها أجهزة الحاسوب، وتعكسها تلك التموجات المتنوعة والمتناغمة بالألوان والحركة الواحدة عندما يكون الحاسوب في حالة سكون، لكن المخرج أضاف عليها الكثير من الألوان والوجوه في نقاط معينة، وكأنه يشير إلى عملية تحرك مخ المتعاطي والصورة الذهنية التي يكون عليها.

كما أن هذا المزج المثالي بين الجانب المادي والمعنوي ساهم بشكل كبير في استبيان صورة أوسع لعملية التعاطي والإحساس الذي يمكن أن يكون عليه، وفي نفس الوقت ينسف الصورة المكرسة التي رسمتها هوليود عبر عقود من الزمن حول الحمض المهلوس والمتعاطي ومنطلقاته الذهنية، وكأن المخرج “دونيك كاري” يعيد رسم معطيات جديدة عن المتعاطي من خلال الاستعانة بنجوم الفن الذين سبق لزملائهم أن قدموها بصورة خاطئة للمتلقي.

شهادات نجوم عالميين في السينما والتلفزيون نقلوا تجارب التعاطي مثل “بن ستيلر” و”ستينغ”

 

“لا تنظر إلى المرآة منتشيا”.. عبقرية الإخراج التي تتلاعب بالأحداث

كان فيلم “احصل على رحلة جيدة: مغامرات في مخدر” ذكيا ومتلاعبا ومشكلا بطريقة جيدة، وقد وظف عدة وثائق علمية وفنية وتاريخية مهمة، خاصة من خلال استعانته بوثائق سمعية بصرية واستعمالها فيه بطريقة مبررة ومنطقية، وكأنه هو من أعاد تركيب هذا الأرشيف، إضافة إلى التركيز الجيد على موضوع الحمض المهلوس والتعاطي، حتى إنّ المخرج بوصفه كاتب السيناريو أيضا لم يخلق قصص ثانوية تعين الخط الرئيسي للفيلم، وكأنه كان يعرف بأن الطريقة التي سيعتمد عليها في العمل ستكون كافية لجلب انتباه المشاهد والسيطرة عليه.

وبالتالي فقد قدم الفيلم معلومات أوسع، ورسم تصورا أوضح لهذه الظاهرة، وهذا ما يدل على أن المخرج درس جيدا موضوع التعاطي وبحث في جميع جوانبه، لهذا ذهب مباشرة إلى الزوايا التي لم يذهب إليها غيره، وعمل على تكسير الصور النمطية الموروثة التي وفرتها المعطيات السابقة عن طريق السينما، حتى إنّ المشاهد يمكن أن يقف ويحس بالأريحية التي كان عليها الضيوف وهم يقدمون تجاربهم.

كما يمكننا بسهولة التقاط العديد من النقاط المشتركة التي صرح بها الضيوف مثل تلك النصيحة الموجهة للمتعاطي، وهي “لا تنظر إلى المرآة منتشيا”، وهذه النصيحة -وإن جاءت في ثوب هزلي- تحمل أهمية كبيرة في حياة المتعاطي، ويمكن أن تكون مفتاحا سحريا يقف على تفاصيل الفيلم، وربما سيحظى بانتباهه من خلالها، خاصة أن المخرج قدمها بشكل متتابع على ألسنة معظم المتدخلين في الفيلم.