الأبطال الخارقون.. بريق العدالة المختبئة تحت ظل الدعايات السياسية

في العام 2016 استحضر الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” في حوار صحفي شخصية “الجوكر” الشرير ذي النفسية المضطربة في فيلم “الرجل الخفاش” (Batman) ليشبهه بتنظيم داعش، فالجوكر -كما وصفه الرئيس الأمريكي السابق- “هو رجل أدخل الفوضى في مدينة غوثام الخيالية مثله مثل داعش، رغم أن في “غوثام” نوعا من النظام، فلكل فرد أرضه، ثم يأتي الجوكر ويشعل المدينة بأكملها. داعش هي الجوكر، فهذا التنظيم لديه القدرة على إشعال النار في المنطقة بأكملها، لهذا السبب علينا محاربته.

يعلم الرئيس الأمريكي الأسبق “باراك أوباما” جيدا في أي صف وضع نفسه وهو يبرر سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية والداخلية في محاربة الإرهاب، فهو وإدارته وحزبه صورة خالصة للرجل الخفاش، والبطل الخارق الذي حارب الجوكر المضطرب الذي لا حدود لشروره.

كما يعلم “أوباما” أيضا أن الأبطال الخارقين الذين خلقهم كُتّاب ورسامو دار النشر “دي سي كوميكس”، وأصبح بعضهم علامة لشركة الإنتاج “وولت ديزني”؛ حملوا بين أجنحتهم تقلبات المجتمع والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، فكانوا يتلونون باختلاف الحقبة التي كُتبت فيها قصصهم، فدخلوا الحروب وأقاموا الحداد مع الأمريكيين في مصائبهم وساندوا الحركة النسوية.

 

الأبطال الخارقون.. بدائل حديثة لأساطير نسل الآلهة

لم يكن لرداء الرجل الخارق (Superman) مثلا أن يعيش لمدة تقارب القرن فوق ظهور أجيال من الأطفال الذين حلموا بأن يكونوا مثل البطل الخارق، دون أن يُنسج من عمق تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية المتقلب، ولما أمكن للرجل العنكبوت (Spiderman) أن يستقر في وجدان الأمريكيين والشعوب الأخرى لو لم يكن بالقوة الخارقة والإنسانية التي جعلت “البابا فرنسيس” يقبل هدية قناع الرجل العنكبوت في أحد الاجتماعات المهمة في الفاتيكان العام الماضي.

منذ ولادتهم في فجر الحرب العالمية الثانية كان الأبطال الخارقون ينتمون دائما إلى الثقافة السائدة، وتسمى أيضا الثقافة الشعبية التي تلبي احتياجات جمهور كبير مهيمن، وفي الواقع أصبحت قصص الأبطال الخارقين مثل الرجل الخارق والرجل الخفاش والمرأة المعجزة (Wonder Woman) أساطير حديثة، وحلّت محل الأساطير القديمة والملاحم التي تروي بطولات شخصيات من نسل الآلهة.

 

منذ ذلك الحين، غزا الأبطال المقنعون الذين صنعتهم “دي سي كوميكس” كل المنازل والأذهان، وجندوا لاستنهاض قوة النساء بعد أن دعي أزواجهن وأبناؤهن للحرب في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي. وبعد الحرب، أصبحت أفلام الأبطال الخارقين القوة الناعمة التي حولت الولايات المتحدة الأمريكية إلى بلد يخلق الأبطال القادرين دون غيرهم على محاربة الشر، ودفعه بواسطة قوتهم التي تؤججها مبادئ العدل.

“كان كبيرا أكبر من الحياة، لقد كان أمريكيا”.. رجل الكساد

في شهر أبريل/نيسان من العام 1938، وُلدت شخصية الرجل الخارق، إنه الرجل ذو الرداء الأزرق الذي يحمل على صدره حرف “أس” كُتب باللون الأحمر، وكانت شخصية سوبرمان في البداية أحد التعبيرات الشخصية لصانعيه.

يقول “غرانت موريسون” كاتب سيناريو قصص الرجل الخارق الحديثة التي أصدرتها دار النشر “دي سي كوميكس” في حوار مع مجلة “فوربس”: الرجل الخارق هو من صنع “جيري سيجل” و”جو شوستر”، وهما شابان من كليفلاند ينحدران من عائلات يهودية مهاجرة، لذلك كان الرجل الخارق بطلا مهاجرا غريبا عن الأرض، لقد جاء من كوكب آخر إلى أمريكا.

وأضاف: لقد ولد الرجل الخارق في الفترة التي تعرف بالكساد الكبير، عندما كان هناك كثير من الأشخاص الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكانوا يحاولون التكيف مع الظروف، وكانوا يواجهون مشاكل مالية ومشاكل سياسية وحواجز اجتماعية. عاش المهاجرون اليهود في أحياء في مدن ضخمة أكبر من أي شيء رأوه من قبل. أظن أنه من هذا المنطلق جاءت هذه الأسطورة، رجل قوي بما فيه الكفاية وسريع بما يكفي للعمل في مدينة مثل نيويورك التي أصبحت “متروبوليس” بشكل واضح.

أما شخصية الرجل الخارق بالنسبة لـ”موريسون”، فهي تجسد شخصية المهاجر التي دافعت عن أحلامها وآمالها، ويقول عن ذلك: لم يكن ذلك الرجل القوي الذي يطمح مبتكروه أن يصبحوا مثله فحسب، بل وقف أيضا ضد المظالم التي عاشوها في حياتهم. لذلك كان الرجل الخارق من الأوائل الذين واجهوا الفاسدين والمسؤولين الحكوميين ورؤساء البلديات. يبدو أن كل شخص في السلطة فاسد في قصص الرجل الخارق، وكان هو الشخص الذي يتدخل لمحاربة كل ذلك. لذلك صمم ليكون الرجل الخارق في عصر الكساد.

“جو شستر” و “جيري سيغل”، مخترعا شخصية سوبرمان

لقد شكل الكساد الكبير الذي بدأ في عام 1929 ضربة قوية للولايات المتحدة، ودخل معظم السكان في أزمة، حتى بدا  كما لو أن الأمريكيين لم يعودوا سادة مصيرهم، وكانت مهمة الرئيس “فرانكلين روزفلت” تحقيق وعد للأمريكيين بالخروج من الأزمة بأكثر قوة، حيث ستحمي الحكومة الشعب، وحمل الرجل الخارق هذه المهمة والوعود نفسها، ومنذ ذلك الحين لم يعد البطل الخارق الأول فحسب، بل صار أيضا الأكثر نفوذا كما يصفه المؤرخ “ويليام سافاج”، ويراه الباحث “توم دي هافن” معنى خالصا للتراث الثقافي الأمريكي والمشهد الفكري. ويقول هافن: لقد جسد قيمنا واحتفل بأعياد ميلادنا واعتز بتقاليدنا، لقد كان الرجل الخارق في ذلك الوقت ملكنا، كان كبيرا أكبر من الحياة، لقد كان أمريكيا.

حرب فيتنام.. محاولة لترميم نفسية الصنم الذي لا يقهر

كان يُنظر إلى الرجل الخارق لفترة طويلة على أنه شخصية مملة للغاية، وذلك لأنه كان يشبه “فتى الكشافة”، فهو ينزع  إلى  قيم الجناح اليميني الأمريكي بدلا من القيم اليسارية التي ابتكر من أجلها، وبدا كأنه شخصية بوليسية، أو شخصية الأب، لذلك على مر الفترات التاريخية التي تطورت فيها شخصية سوبرمان بدا أن كتاب سيناريوهات الأفلام قد بدؤوا بالتخلي شيئا فشيئا عن النزعة الأبوية التي ميزته، ونتيجة لذلك خاضت الشخصية الخارقة تقلبات ارتبطت أساسا بتقلبات الأمريكيين السياسية والاجتماعية أيضا، لكنها ما انفكت تظهر بعد كل أزمة في فيلم أو في سلسلة رسوم.

في أواخر سبعينيات القرن الماضي عانت الولايات المتحدة الأمريكية من تبعات عواصف سياسية كان بطلها الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” فيما يعرف بقضية “ووتر غيت”، وكانت حرب فيتنام بمثابة فأس كسر صنم الدولة التي لا تقهر، لذلك ظهر الرجل الخارق ليذكر الأمريكيين بأنهم أسطورة خارقة دائما، ولم تتخل الشخصية الأسطورية عن المسؤولية الاجتماعية التي حددتها النسخة الأولى من الفيلم وتواصلت إلى الآن، ومسار المسؤولية الاجتماعية في حماية سكان المدينة من الأشرار الذين يحاولون السيطرة عليها.

 

لكن تأثير حقبة الثمانينيات بدا واضحا في علاقة البطل بحبيبته الصحفية “لويس لين” التي ظهرت في البداية في مظهر المرأة الناجحة الواثقة ذات الشخصية العصرية، تماما مثل صورة المرأة في الأربعينيات التي تزامنت مع انتعاش الحركة النسوية بالتوازي مع حاجة الولايات المتحدة الأمريكية إلى دفع قوي لخروج المرأة من أسوار منزلها، لتعوض الرجل في المصانع وفي المهام بعد حملات التجنيد خلال الحرب العالمية الثانية.

لكن فيما بعد، في فيلم “الرجل الخارق” الذي أخرج في بداية الثمانينيات، انقلبت صورة “لويس لين” من الصحفية المتحررة القوية إلى امرأة سلبية تطمح إلى تكوين أسرة، وتعيد ترتيب أولوياتها بأن تسقط حياتها المهنية من اهتمامها، وكان ذلك الانقلاب في إحدى الشخصيات الرئيسية لفيلم سوبرمان هو رد عدائي على الشخصيات النسوية في السبعينيات حسب الكاتبة النسوية الأمريكية “سوزان فالودي”.

مراحل تطور شكل البطل الخارق ومظهره على شاشة السينما

“عودة الرجل الخارق”.. شرعية التجسس لصالح الحرب على الإرهاب

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بدا فيلم “عودة الرجل الخارق” (Superman Returns) الذي أخرج في العام 2006 متماهيا مع الحدث، ففي ذلك الوقت طفت على السطح مشكلة التجسس على الحياة الخاصة في إطار الحرب التي قادها بوش الابن على الإرهاب.

 

تقول الباحثة “جاين سالمينان” في دراسة بعنوان “الرجل الخارق على الشاشة الفضية: الإيديولوجيا السياسية لرجل الغد”: في فيلم “فارس الظلام” (The Dark Knight) الذي عرض بعد عامين فقط من فيلم “عودة الرجل الخارق”، واجه الرجل الخفاش معضلة أخلاقية عندما استعمل قدرته على مراقبة جميع اتصالات مدينة غوثام، في حين لم يواجه الرجل الخارق تلك المعضلة الأخلاقية حين استغل قدرته الخارقة على السمع للتنصت على محادثات حبيبته الخاصة، ولم يجد حرجا في التجسس على منزلها وعلى حياتها، وبدا أن فيلم “عودة الرجل الخارق” قد فصل في مشكلة التجسس على المواطنين وغزو خصوصياتهم، باعتبار أن له مبررا مقبولا، على العكس من الرجل الخفاش في فيلم “فارس الظلام” الذي جسد انعدام الثقة تجاه النخبة الاقتصادية والسياسية.

مشهد من فيلم فارس الظلام الذي اشتهر بالعرض المميز للممثل هيث ليدجر في دور الجوكر

لا يمكن أن توجد حدود لقوة الأبطال الخارقين، فهم أبطال خالدون بالنسبة للوعي الأمريكي، حتى أنهم أصبحوا رموزا يفخر بها الأمريكيون، غير أنهم في بعض الأحيان سرعان ما يتحولون إلى مصدر للسخط في بعض الفترات التي ينقسم فيها الأمريكيون، وهي فترات غالبا ما تقترن بحراك اجتماعي في الشارع، وهو ما حصل بالفعل مع فيلم “فارس الظلام” الذي أخرج في العام 2011، وقد واجه انتقادات بتصوير سيئ للحركات الاحتجاجية وربطها بالتنظيمات الإرهابية، في الوقت الذي اشتعلت فيه شوارع نيويورك بعشرات التحركات الاحتجاجية.

“إغواء الأبرياء”.. ضربة علمية تغير مسار الرجل الخارق

في العام 2013 عاد الرجل الخارق في فيلم “الرجل الفولاذي” (Man of Steel)، لكن ملامح شخصية الرجل الخارق بدت مختلفة عن البطل الذي تعودنا عليه سابقا، فأصبحت تعبيراته أكثر كآبة، واستبدلت مثاليته بالبراغماتية، تماما كما وقع للأمريكيين والشعوب التي استعبدتها الحسابات المصرفية ومواقع الإنترنت، وانقلبت تلك الشخصية لتصبح أيضا صورة للواقع الجديد النفسي غير الواعي للمجتمع الأمريكي.

 

تقول الباحثة “جاين سالمينان” إنه من خلال دراسة أفلام الرجل الخارق ضمن المشهد الثقافي للولايات المتحدة الأمريكية يمكن تفسير تقلب الشخصية على أنه تعبيرات فكرية، فأفلام الرجل الخارق التي عرضت بين العامين 1978-2013 لقي بعضها نجاحا والآخر فشلا، وارتبط ذلك نوعا ما بالمواقف الجنسية والتقدمية التي ما إن تظهر في أي نسخة حتى تهبط أسهم الفيلم في شبابيك التذاكر، بينما تحصد نجاحا أكبر النسخة التي يبدو فيها الرجل القوي والحامي للجميع، بما في ذلك حبيبته.

ذلك ما تستنتجه “سالمينان” في بحثها، وذلك الارتباط العضوي بين المواقف التقدمية والفشل عززه استنتاج المتخصص في علم النفس “فريدريك ويرثام” سنة 1954 في كتابه “إغواء الأبرياء”، إذ ذكر أن الأبطال الخارقين يفسدون المجتمع، فالرجل الخارق يضع قوانين خاصة به، وله تأثير سيئ على الأطفال، لأنه يعزز فيهم عقدة نقص مرضية. وذهب إلى القول إن الرجل الخفاش مثلا هو رجل مثلي تربطه علاقة بصديقه الحميم.

أحدث “ويرثام” ضجة، وكان ذلك القول كفيلا بأن تفرض العائلات الأمريكية رقابة على القصص المصورة للرجل الخارق خوفا على أطفالهم، لذلك ففي حقبة حكم الرئيس “رونالد ريغان” بدا الرجل الخارق أكثر صلابة، وتوضح ما يسمى بالمبادئ الأمريكية الاجتماعية التي تدافع عن مؤسسة العائلة بقوة.

“الرجل الخفاش”.. بطل خارق يحارب النازية وقوات المحور

هناك شخصية أخرى ظهرت في العام 1939 في أوج الانتشار النازي في العالم، وهي شخصية الرجل الخفاش (Batman)، وكان جنديا أمريكيا ذا قوة خارقة، حارب النازيين واضطلع بمهمة دعائية واضحة قبل دخول الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحرب العالمية الثانية، حتى أنه ظهر وهو يلكم “أدولف هتلر” في لقطة مشابهة لرجل خارق آخر وهو “كابتن أمريكا”، فكان أحد الأذرع التي جهزت الرأي العام الأمريكي لدخول بلادهم إلى الحرب، واختفت الشخصية لتعود في بداية الستينيات، وهي فترة خاضت فيها أمريكا حرب فيتنام.

في العام 1943 أخرج المخرج “لامبيرت هيلر” أول فيلم للرجل الخفاش، وكان ذلك في أوج الحرب العالمية الثانية، لذلك ظهر الرجل الخفاش وأصدقاؤه في دور عملاء سريين عقب الهجوم الياباني على بيرل هاربور يتابعون مجموعة من المجرمين اليابانيين يعملون على زعزعة مدينة “غوثام”، وقد استند الفيلم على سلسلة القصص المصورة لهذه الشخصية الخارقة التي ظهرت في العام 1939.

شخصية باتمان في مشهد من مجلات الكوميكس تحارب الجنود النازيين

اضطلع الرجل الخارق الجديد بمهام دعائية لمعاضدة الولايات المتحدة الأمريكية في مجهودها في الحرب ضد قوات المحور، وكانت سلسلة “باتمان” مثل بقية الأعمال الخيالية الشعبية تروج لعداوة قوات المحور، وقد وصلت حد العنصرية والتهكم على العرق الآسيوي وعلى لون بشرتهم.

في الواقع لم يكن الدور الدعائي الذي قام به الرجل الخفاش ليقف عند نشر العداوة ضد النازيين وحلفائهم، بل دخل إلى منازل الجنود الذين حزموا حقائبهم وتوجهوا نحو ميادين القتال، ليكون سلوانا لأطفالهم وزوجاتهم.

عاصر الرجل الخفاش أكثر الأحداث عصبية التي عاشتها الولايات المتحدة الأمريكية والعالم من شرقه إلى غربه، بداية من الحرب العالمية الثانية وصولا إلى الحرب الباردة، وقد طبعت تلك الأحداث قصص الأبطال الخارقين بما في ذلك قصة الرجل الخفاش، فكان دوره السياسي والاجتماعي واضحا في تلك الحقبة.

لكن شخصية الرجل الخفاش أيضا وقعت تحت طائل النقد اللاذع للمتخصص في علم النفس “فريدريك ويرثام” الذي شرح شخصية البطل الخارق وعلاقاته بالقريبين منه، مستخلصا ضربا آخر للقيم الأمريكية،  حيث يقول: “قد يحفز نوع قصص الرجل الخفاش الأطفال على التخيلات الجنسية المثلية”، محيلا إلى ما يراه علاقة مريبة بين الرجل الخفاش وصديقه “روبن”، وهو ما قد يفسر ظهور شخصيات أنثوية قريبة من الرجل الخارق، من شأنها أن تمحو صورة المثلية التي روج لها “ويرثام”.

“رأس الغول”.. عدو سياسي جديد لأبطال أمريكا الخارقين

في العام 1966 أخرج “ليسلي مارتينسون” فيلم “الرجل الخفاش.. الفيلم” (Batman: The Movie)، وكان الفيلم مستلهما كليا من السلسلة التي عرضت في العام 1943، حتى أنه اعتمد على كل الشخصيات التي مثلت في تلك السلسلة، وكانت الأحداث بسيطة القراءة والمغزى، أما نسخة العام 1989 التي أخرجها “تيم بورتون” فقد ناقشت مجالا أكثر عمقا، وهو الجانب النفسي والقيمي للعدالة والخير الذي فرضه السياق الاجتماعي في كل الغرب، والذي سبق دخول عصر متوحش جديد.

يصف “بورتون” في كتاب “بورتون في بورتون” ذلك التغيير الذي شهدته شخصية الرجل الخفاش بالقول: إن الفيلم بأكمله والأساطير التي تحوم حول الشخصية هي مبارزة كاملة بين النزوات، إنها معركة بين شخصين مضطربين.

ثم قال: الجوكر شخصية مبهرة لأن له حرية كاملة، كل شخصية تعمل خارج قوانين المجتمع وتعتبر مهوسة ومنبوذة لها الحرية في فعل ما تريده. هنا يناقش الفيلم الجوانب الأكثر قتامة من الحرية.

قبل خروج فيلم “بداية الرجل الخفاش” خلقت السلسلة المصورة للرجل الخفاش عدوا يسمى “رأس الغول”، حيث ظهرت تلك الشخصية الشريرة في العام 1971، وهي من اختراع “جوليوس شوارتز” ذي الأصل اليهودي، وكانت شخصية رأس الغول تمثل رجلا ولد في إحدى قبائل بدو رحل من الصين سكنوا شمال أفريقيا، ويُفسر “كريستوفر نولان” مخرج ثلاثية “الرجل الخارق فارس الظلام” ظهور شخصية “رأس الغول” الذي يُنطق اسمه بالعربية إلى عدوين محتملين للولايات المتحدة الأمريكية قد يكونان ليبيا والصين، مجتمعتين في شخصية الشرير الذي يواجهه الرجل الخارق.

 

يبدو أن الرجل الخفاش قد مارس السياسة فعلا، وروج لموقف الولايات المتحدة الأمريكية من بعض الدول بشكل أو بآخر مثلما فعل الرجل الخارق.

ملاعب السياسة المحلية.. مواجهة الأبطال الخارقين بين الحزبين

حددت صحيفة “ذا نيويوركر” بوضوح توجه البطلين الخارقين الرجل الخارق والرجل الخفاش من خلال لوني عيونهما، وتقول: تمتع الرجل الخارق والرجل الخفاش بعيون تتوهج بقوة خارقة، وكانت عينا الرجل الخارق حمراوين، أما الرجل الخفاش فزرقاوين. في الواقع، يبدو أن الرجل الخارق هو البطل الجمهوري، ويقف في المقابل الرجل الخفاش في صف الديمقراطيين.

غير أن فيلم “الرجل الخفاش ضد الرجل الخارق.. فجر العدالة” (Batman v Superman Dawn Of Justice) يقدم فكرة واضحة، وهي أن الرغبة في العثور على بطل خارق مستقل تولد إذا لم يقم السياسيون بوظائفهم بكفاءة وحساسية، وتبدو تلك الفكرة من خلال ما يعرضه الفيلم من سلوك متردد للسياسيين بشكل أساسي.

يعيش الأبطال الخارقون داخل عصرهم، ومن المستحيل فصلهم عن سياقهم الاجتماعي والسياسي، لذلك فإنهم غالبا ما يتقلبون من صورة إلى أخرى قد تكون معاكسة للصورة التي سبقتها، ومن مهمة إلى أخرى، فالرجل العنكبوت ظهر في العام 1962، وأصبح خارقا بسبب لسعة عنكبوت ملوثة بإشعاعات نووية، وهي الحقبة التي تأججت فيها الحرب الباردة والسباق نحو التسلح النووي.

ميثاق القصص المصورة.. لجام يكبح جماح الأبطال الخارقين

بعد الوقوف على تأثير الأبطال الخارقين البالغ، وضع ميثاق للقصص المصورة في العام 1954، بعد زوبعة كتاب “إغواء الأبرياء”، وهو بمثابة اللجام الذي روض به السياسيون تلك الشخصيات، وقد نص الميثاق على فصول من أجل استرجاع المبادئ الاجتماعية الأمريكية، وجاء في بعضها: يجب تصوير جميع الشخصيات في لباس مقبول في المجتمع، وأن ترسم الإناث بشكل واقعي دون المبالغة في أي صفات جسدية، كما لا يجوز التعامل مع الطلاق بأسلوب فكاهي، أو تقديمه على أنه مرغوب فيه، ويجب تعزيز احترام الوالدين والأخلاق والسلوك الشريف. ويجب أن تؤكد معالجة قصص الحب والرومانسية على قيمة المنزل وحرمة الزواج.

شخصية المرأة المعجزة في الكوميكس وتطور شكلها وأسلحتها مع الزمن

لقد شملت القيود المنصوص عليها في الميثاق زجرا للبطلات الخارقات، ولا سيما “المرأة المعجزة” (Wonder Woman) التي ابتكرها في أربعينيات القرن الماضي “ويليام مولتون مارستون”، وهو طبيب نفسي يؤمن بالمبادئ النسوية، وكانت البطلة الخارقة انعكاسا لصورة زوجته وحبيبته اللتين يتقاسم معهما المنزل ذاته.

“المرأة المعجزة”.. فشل البطلة الخارقة المُروّجة للمثلية

ابتكر “وليام مولتون ماستون” المرأة المعجزة من عصارة مواقفه التقدمية تجاه المرأة، ويفصح عنها في أحد حواراته الصحفية في بداية الأربعينيات بالقول: إن المستقبل ينتمي إلى المرأة، وإن النساء سيقدن العالم.

في بداية الأربعينيات ظهرت “المرأة المعجزة”، وهي بطلة خارقة جاءت من جزيرة أمازونية، ورفض مبتكر المرأة الخارقة أن يجعل ملامح بطلته أنثوية بقدر كبير، أو أن تكون صورة مثالية لما يتخيله الرجال للمرأة، واتهمت سلسلة “المرأة المعجزة” بالترويج للمثلية، تماما كما حدث مع الرجل الخفاش والرجل الخارق وأصدقائه المتحولين.

 

حوصر الأبطال الخارقون بسبب حملة عالم النفس “بيرثام” التي أدت إلى سن ميثاق يقيد مواضيع الرسوم المصورة التي كانت أساس أفلام الأبطال الخارقين، وأجبر هؤلاء الأبطال على الزواج، كما فرض على كتاب قصصهم نشر القيم المحافظة وحظر موضوعات معينة.

وقبرت قصة “المرأة العجوز” إلى أن استفاقت عقب موجة التحرر التي اجتاحت دولا غربية في أواخر الستينيات، وأصبحت صورة للمرأة القوية والمتحررة، لكنها لم تلق نجاحا مماثلا لأفلام الرجل الخارق والرجل الخفاش والرجل العنكبوت، فقد عاش هؤلاء الأبطال الثلاثة أكثر من غيرهم من الأبطال الخارقين، وما زالت أفلامهم التجارية تغزو قاعات السينما وعقول الأطفال وحتى العرب منهم.