“الأصليين”.. قراءة وعدد من التساؤلات

إسراء إمام

يقول عالم النفس السويسري “كارل غوستاف يونغ” أنه كلما قلت القدرة على التكيف نمت العاطفة وتكثف وجودها. وللمفارقة، العبارة السابقة يمكن أن تعبر عن ملابسات صنع فيلم الأصليين، وحبكته أيضًا.  
 وبالحديث عن ملابسات الصنع أولاً، ففي عام 2014 تم إنتاج فيلم “الفيل الأزرق” وهو التعاون الأول بين الكاتب “أحمد مراد” والمخرج “مروان حامد”، ومن بعد النجاح الملحوظ الذي حققه هذا التعاون على المستوى التجاري، كان من المتوقع أن تتكرر التجربة مرة أخرى. وبالفعل تم إنتاج فيلم “الأصليين” لهذا العام، ليكن واحدًا من أفلام عيد الفطر، تَحَفَز الجميع بلا استثناء، بينما سنَ جمهور “أحمد مراد” أنيابهم لمتاهة مُشوقة جديدة، خلطة معهودة، معروف مكوناتها، تجيد التعبير عن أسلوب “أحمد مراد” الغامض والذي لا ينزاح عن خط سيره الهين في الوصول لشريحة عريضة من الجمهور، ببساطة وخبث كاتب تغويه فكرة التحقق على مستوى السوق الأدبي أولاً ومن ثم السينمائي مؤخرًا. ولكن…

رمزية مفتوحة التأويل

الأفكار الرمزية مفتوحة التأويل، هي الأصعب في التأثير على الجمهور، فما بالك بجمهور “أحمد مراد” الذي سبق وأن بنى العلاقة معه وفقًا لتصنيفه ككاتب سلس، صاحب قلم شيق، ألغازه مضمون حلها في النهاية، ومفاجآته جاهزة تنتظر لتضفي ألقًا على نهايات حواديته. ولكن “مراد” في هذه المرة اختار أن يخوض منطقة ملغومة، لن تنال رضا السواد الأعظم من الجمهور، وقد صدقت توقعاتي بخصوص هذه المسألة، وانتشرت على الفيس بوك العديد من القصص التي تصف مدى خيبة أمل الكثيرين بخصوص حبكة الفيلم، منهم” بوست” طويل يختلف عن البقية، في كونه يعي جيدًا قيمة الفيلم الفنية بل ويعمل على تفنيدها، مؤكدًا أنه يجيد تمييزها لكنها تظل لا تعنيه في شيء، مقارنة بقصة ممسوكة مفهومة التفاصيل، ومحكمة الإيضاح. إذا فالفلسفية التي انتهجها “مراد” هذه المرة، وأفرغ من حولها مساحة جدلية، يتخبط فيها عقل المشاهد دون أن يرى جلياً، وبغير يقين تقريبًا من المعنى الحقيقي، هي سلعة لا تواقع هوى الناس، ولا تبلغ مكانًا يستحق في قلوبهم. والسؤال هنا، هل بالمحاولة سيتم تقليص الفجوة بين المتفرج وبين مثل هذه الأفكار؟ خاصة وإن أتت هذه المحاولة من كتاب لهم قاعدة عريضة من المتابعين مثل “مراد”، أم سيحدث العكس، سينسحق قلم “مراد” تحت قدم رغبة الجمهور، وإما سينصاع الأخير أو يغادر حلبة المنافسة تمامًا وهو الذي كان يومًا فوق قمتها. سؤال آخر، هل ردة الفعل المغالية لرفض رمزية الفيلم المكثفة كانت ستبدو بمثل هذه الحدة إن لم يكن الكاتب “أحمد مراد”؟
وأغلب الظن أن إجابات هذه الأسئلة ستكون مفتوحة أيضًا.

ثورة الداجن المُتكيف

سنعود لذات المفارقة التي بدأنا بها المقال، فيما يخص النقطة الثانية وهي حبكة الفيلم، فالبطل “سمير”، يتجه لتحول مشابه لما قام به كاتبه “أحمد مراد”، يتمرد على التكيف، ويثور على فكرة اعتباره كائن داجن.  “داجن” توصيف شرحه راوي الفيلم تفصيلاً في بدايته، أشار لكونه يطلق على أي كائن مستأنس، لا يقوى على الخروج عن السياج المُحاوط له، مكتفي بالحيز المحدد له في التحرك.
“سمير” يظل نموذجًا مثاليًا للكائن الداجن، حتى تظهر له شخصية غامضة، تمد يدها لتساعده في ظروفه المعقدة، بشكل مريب، هذه الشخصية تتحدث بلسان “الأصليين” وتعرف نفسها على كونها واحدة من مجموعات خفية، تنتظم لحماية الوطن في الخفاء، عن طريق مراقبة المواطنين وابتزازهم. شخصية “رشدي أباظة” أو تلك الشخصية التي تراءت لـ “سمير”، المثير للفضول فيها لم يكن مجرد جهلنا بها فقط، وإنما تعمد “مراد” كتابتها بما يدعم غرابتها، وخلفياتها غير الطبيعية، وقدراتها التي تكاد تبدو وكأنها خارقة. فهي شخصية تعرف كل شيء عن “سمير”، تملك فعليًا هي ومجموعتها أدوات مراقبة الجميع في أي وقت وفى كل مكان. عند هذه النقطة توقف “مراد” عن توضيح أو كشف أية معلومات أخرى، اكتفى برسم الخلفية بهذه الصورة عن “جماعة الأصليين”، وتحور الأمر من نهم المعرفة أكثر عن هؤلاء، إلى وتأمل رمز ظهورهم، وتفكيك تصرفاتهم والدأب على مراقبتها، بالتوازي مع تطور خيوط حدوتة تورط “سمير” معهم. ماذا تعنى الهزلية الواضحة في كلماتهم، طريقة لبسهم، والتي تتناقض تمامًا مع هيبة قدراتهم، وسلطاتهم؟ وماذا تعنى هذه الصبغة الدينية في حديث “رشدي”، وامتلاكه لأداة إلهية كمراقبة الجميع، في كل الأوقات والأيام والأماكن!

“الأصليين” وجه لابد وأن يكون خفيًا

ظهور “الأصليين” في حياة “سمير”، حضه على التطور، على البحث عن قيمة وجوده، واكتشاف ذاته، مما أنعش قدرته على التخيل، وبالتالي على الخلق والإنتاج بما يساهم في رقي منظومة المعيشة المجتمعية، أي بما يُقّوم الحضارة كاملة. “رشدي أباظة” هو من دل “سمير” على شخصية “ثريا”، الشخصية التي حركت ذكائه الوجداني، وأثرت على يقظة تكوينه من جديد، “رشدي” طلب من “سمير” مراقبة “ثريا” وحرم عليه الاقتراب منها، وأخذ يشدد على حرمانية هذا الفعل، وكأنه يدفعه دفعًا إليه.  كل تصرفات “رشدي” ظاهريًا تدعو “سمير” إلى التشبث بسياج الدواجن المنصوب حوله، ولكنها في الحقيقة كانت تدفعه خارجه.
ولهذا في رأيي، وجب التعتيم على مجموعة “الأصليين” والاكتفاء بحصرها داخل هذه المنطقة المظلمة المربكة، التي لا تُقدم معرفة واضحة ممسوكة، بل تصب في مصلحة التخبط حول حقيقة نواياها تجاه “سمير” وغيره من الداجنين. فكلما كان يزيد رعب “سمير” من ردة فعل “رشدي” بالتبعية كانت تزيد رغبته فى اكتشاف “ثريا”، وفى اللحظة التى تضاعف فيها عقاب “رشدى” لـ “سمير” بخصوص هذا النهم، وحينما كاد “سمير” يتراجع من فرط الاضطراب والمهانة، تظهر جبهة غامضة جديدة، تدعى معرفتها بـ “رشدي” وتحدد سلطاته، وتطمئن “سمير” وتحضه على حرية استخدام خياله، دون أن يشغل بالا بـ “رشدي”.
وكأن كل هذه الجهات تعمل مع بعضها، تعرف متى تشد ومتى ترخي، فى سبيل القدرة على قلب قرارات أحدهم حيال حياته رأسًا على عقب، فالعمل على تنظيف رواسب الكائن الداجن الأصيل تستدعي كل هذه اللعبة وأكثر. هذا وإلا دعنا نتخيل، أن “رشدي أباظة” ظهر لـ “سمير” فجأة وأخذ يقنعه بتصرفات عادية، أن يعيد تدوير الواحة التي يملكها، ويخرج من سيطرة انتهازية زوجته وأولاًده، ويدرك إلى أي مدى تتحدث إليه ابنته بلهجة تخلو من الاحترام وتمتلأ لآخرها بالسخرية والتهاون، وكأنها اعتادت أن ترى والدها مجرد تجويف فارغ لهيكل إنسان. هل وقتها سيكون لـ “رشدى” أي تأثير على شخصية وحياة “سمير”؟

“رشدي” بكل اغواءاته التي قدمت الحل لمشكلة “سمير” المادية، وسلطاته فى وضع “سمير” تحت سيطرته، وانهاءاته المتوالية لـ “سمير” بخصوص تعلقه بـ “ثريا”، بل و”ثريا” نفسها. تلك الفتاة الحرة، التى تنبش الماضي لتعيد اكتشاف معنى البشر، والتي تنذر ذاتها فى سبيل عهد حقيقي تسعى فيه إلى الكمال. كل هذه المفردات السابقة الخاصة بـ “رشدي” و”ثريا” وحالة حدوتة دخول كل منهما فى حياة “سمير”، تعد بمثابة زهرة اللوتس الزرقاء التى تحدثت عنها “ثريا” فى محاضرتها عن الحضارة المصرية القديمة، والتي كانت تمنح المصري القديم، مساحة دسمة من الخيال وتوعز إليه إبداعيًا. ظهور “رشدى” فى النهاية، وهو يتابع “سمير” بعدما ظن الأخير أنه تخلص من كونه داجن إلى الأبد، يبرهن كون “رشدى” أعلم بأن الداجن السابق يمكنه ببساطة أن يعود لأصله فى أي وقت، لذا فهو يراقب من بعيد، منتظرا لحظة الانتكاس، والتى يمكنها أن تحدث فى حياة كل داجن سابق مع اتخاذ قرارات جديدة تخص طريقة عيشه، حينها سيتدخل ويعيده إلى مساره، بحيلة مماثلة، واختبار آخر. 

عن الصورة والتمثيل

ثمة طفرة حقيقية بصريا حققها “مروان حامد” فى هذا الفيلم، ليس بخصوص مدى جمالية ومناسبة الكادرات، والعمل على رسم أجواء لونية مغايرة ومتماشية تمامًا مع مشاهد بعينها (مثل المشهد الذي يتسلم فيه سمير عمله فى غرفة سرية يغرقها اللون الأحمر). وإنما الموضوع تعدى هذه التقليديات المتقنة، وامتد لاستخدام أسلوبًا مونتاجيًا فريدًا من نوعه، توالت فيه لقطات لا تنتمي إلى بعضها إثر بعضها فى إلحاح، يجيد تمامًا تعرية الشخصيات والقول بخصوصها أشياء لن تفصح عنها إلا الصورة.  وقد تكرر هذا التكنيك، أكثر من مرة بحرص، منهم فيما يخص شخصية “سمير” وشخصية “ثريا”. وقد كان عاملاً قويا فى كشف الخواء الذي يعيشه “سمير” –مثل لقطات وقوفه البائس أمام طاولة البينغ بونغ تزاحمًا مع لقطات أخرى لنومه وانتظاره وتفكره- والثراء الموجود بداخل “ثريا” -مثل لقطات الرقص والسير فى المعابد والتأمل-. هذا إلى جانب إصرار “مروان” على تجسيد كل ما يُحكَى بالصورة، وبذل المجهود الخرافي فى الجزء الخاص بحضارة المصري القديم، على مستوى اللون والتكوين.

آخر كلمتين:

 “خالد الصاوي” ممثل خصب، يستحضر الشخصية من نفسه ويحبسها فيه، لدرجة تأخذ فيها شكل ملامحه، فقسمات “رشدي أباظة” تختلف تمامًا عن قسمات “الصاوي”، هذا إضافة إلى شكل حكيه، وإيماءات إنصاته، وخطوات مشيته.