الأفلام العربية القصيرة.. بين وفائها للطويل ودورة حياتها القصيرة

محمد علال

النجمة التونسية هند صبري شاركت في فيلم قصير بعنوان "الببغاء" للمخرجين الشابين دارين سلّام وأمجد الرشيد

“انظر بعيدا، ابدأ صغيرا وامضِ بسرعة”.. مقولة لأغنى رجل في الجزائر الملياردير أسعد ربراب، وهي تختزل المسافات في حديثنا عن البدايات وأشكالها في كل المجالات ومنها عالم السينما، فعندما نشير إلى التجارب الأولى لكل مخرج فنحن نسلط الضوء بشكل أو بآخر على أهمية الفيلم القصير، وهذا الأخير لا يزال يعتبر أصل الحكايات في السينما منذ التجارب الأولى لتوماس أديسون والأخوين لوميير.

وبعيدا عن الجدل الفرنسي الأمريكي الذي يقوده سؤال قديم “من هو صاحب أول فيلم سينمائي في التاريخ؟”، ترسو جميع الآراء في ميناء الاتفاق على أن الخطوات القصيرة لحصان أديسون أمام عدسة جهاز “كينتوسكوب” غيّرت مجرى التاريخ عام 1888، وأكدت أهمية الفيلم القصير في كل زمان ومكان، كما تشير شهادة ميلاد المخرجين الكبار من طينة مارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبرغ، وتحيلنا إلى أسماء المخرجين العرب الذين ولدوا في كنف الفيلم القصير.

تزخر الساحة السينمائية العربية بأسماء لا تزال تعيش في حضن الأفلام القصيرة، ومن بين تلك الأسماء نجد المخرجة التونسية كوثر بن هنية التي لا تزال تؤمن بأهمية الأفلام القصيرة رغم تألقها في تقديم تجارب روائية طويلة. فبعد أن دخلت مسابقة “نظرة ما” لمهرجان كان بفيلم “على كف عفريت”؛ عادت إلى حضن الفيلم القصير وقدمت فيلم “بطيخ الشيخ” عام 2018، والذي قدم قراءة ساخرة لمنطق رجال الدين والأدعياء والمزيفين، وقد حاز الفيلم على برونزية “الجونة السينمائي”.

هكذا تخلق الأفلام القصيرة مناخا مثيرا يعكس أهمية هذه الصناعة السينمائية، حيث تقف في الصف نفسه المخرجة العراقية عشتار الخرسان وفيلمها “عبد الله وليلى” والذي تناول غربة العديد من العراقيين ليمتد بعضها لأكثر من أربعين عاما.

ونجد من بين أهم الأفلام العربية القصيرة الجادة العمل الذي قدمه المخرج السوري أنس خلف رفقة زوجته رنا كزكز بعنوان “ماريه نوستروم”، والذي تناول قصة هروب السوريين من جحيم الحرب.

قدم المخرج الجزائري بلقاسم حجاج فيلما قصيرا بعنوان "خلوني نهوى" بطولة المغنية ليلى بورسالي

الأفلام القصيرة.. تألق في المهرجانات الكبيرة

تؤكد خارطة المهرجانات العالمية والعربية تألق الأفلام القصيرة العربية في السنوات الأخيرة، وهو ما يعكسه النجاح الذي حققه الفيلم الفرنكو جزائري القصير “يوم زفاف” للمخرج إلياس بلقادر، والذي عرض في إطار “أسبوع النقاد” في دورة عام 2018 لمهرجان كان السينمائي.

وبإعلان قائمة الأفلام المشاركة في الدورة الـ26 لمهرجان “فيسباكو السينمائي” 2019، يزداد اليقين بأن الأفلام القصيرة هي أقوى ما لدى السينما الجزائرية، فالمهرجان الذي ينظم من 26 فبراير/شباط الحالي وحتى الثالث من مارس/آذار 2019 في عاصمة بوركينا فاسو واغادوغو؛ وجد صعوبة كبيرة في العثور على أفلام روائية جزائرية طويلة جديرة بدخول مسابقة هذا الموعد السينمائي الأقدم في القارة السمراء.

وقد استطاعت الأفلام القصيرة الجزائرية فكّ شفرة “فيسباكو”، حيث يدخل المسابقة الرسمية فيلم “الصفحة البيضاء” (la page blanche) للمخرج الجزائري الشاب نجيب لعموري، ويرافقه في رحلة البحث عن “حصان ينينغا الذهبي” الفيلم الجزائري القصير “النقطة صفر” (point zero) للمخرج الجزائري نسيم بومعيزة، وهي تجارب فتية أعلنت عن ميلاد مخرجين جزائريين جدد.

 

العودة إلى القصير بعد تجارب طويلة ناجحة

يظلّ الفيلم القصير محطة تغري المخرجين بأشكالهم وألوانهم، فقد حنّت إليه أسماء كبيرة من وزن يوسف شاهين الذي ختم مسيرته الإخراجية بأفلام قصيرة، وذلك بعد 50 عاما من العطاء السينمائي قدّم فيها شاهين عددا من الأعمال الروائية الطويلة المتميزة، منها “ابن النيل” عام 1951، مرورا بفيلم “صراع في الوادي” عام 1954 و”باب الحديد” 1958 و”المصير” عام 1997.

ونجد في أرشيف شاهين عددا من الأفلام القصيرة التي أنجزها في عزّ نجاحه، منها فيلم “كلها خطوة” الذي قدمه عام 1998، أي بعد عام فقط من تكريمه بالسعفة الذهبية عن مجمل أعماله في الذكرى الـ50 لـمهرجان كان السينمائي.

ولا يزال حنين المخرجين إلى الفيلم القصير مستمرا، ومنهم المخرج الجزائري بلقاسم حجاج (68 سنة) الذي عاد إلى حضن الأفلام القصيرة بعد أن سجّل اسمه في تاريخ السينما الجزائرية بأعمال روائية طويلة بارزة منها “المنارة”، وحاز على جوائز هامة منها “الحصان الذهبي” لمهرجان فيسباكو عن فيلمه الروائي الطويل “فاطمة نسومر”، وقد قدم السنة الماضية فيلما قصيرا بعنوان “خلوني نهوى” بطولة المغنية ليلى بورسالي.

على هذا النحو عاد المخرج إلياس سالم إلى الفيلم القصير، وذلك بعد أن اشتهر عربيا بفيلمه الروائي الطويل “مسخرة”، وحاز من خلاله على عدة جوائز منها الجائزة الكبرى لمهرجان القاهرة عام 2008، فإلياس سالم لم ينسَ فضل الأفلام القصيرة عليه وكيف قدمته للعالمية عندما أخرج الفيلم القصير “أبناء العم”، والذي خطف به جائزة “سيزار” أفضل فيلم قصير عام 2005، ليعود لاحقا ليقدم تجربة روائية قصيرة بعنوان “لم يرَ ولم يعلم” التي عُرضت في إطار برنامج “المواهب” في مهرجان كان السينمائي، وذلك بعد أن تألق في تجارب الأفلام الروائية الطويلة وصنع الجدل بفيلمه “الوهراني” عام 2016.

العودة إلى حضن الأفلام القصيرة هو أمر لا نجده فقط عند المخرجين، فالاعتراف بأهمية الأفلام القصيرة يأتي أيضا بشهادة ممثلين سطع نجمهم في أعمال كبيرة، وهو ما يتجسد في تجربة النجمة التونسية هند صبري، حيث شاركت في فيلم قصير بعنوان “الببغاء” للمخرجين الشابين دارين سلّام وأمجد الرشيد، ولم تكن تلك التجربة الأولى لها في دعم تجارب الشباب، حيث شاركت من قبل في الفيلم القصير “صباح الفل” للمخرج المصري شريف البنداري، وهو ما يعكس حجم المتعة التي يجدها النجوم عند مشاركتهم في صناعة الأفلام القصيرة.

 

الأفلام القصيرة بين التجارب الفتية والمحترفة

في العالم العربي تنقسم الأفلام القصيرة إلى ثلاث فئات، أبسطها تلك التي يقدمها طلبة المعاهد السمعية البصرية، وهي في الأغلب أفلام متواضعة جدا ولا تحجز لها أيّ مكان في المهرجانات الكبرى، كما هو شأن معظم أفلام طلبة معهد فنون العرض والسمعي البصري ببرج الكيفان بالجزائر، وهو الوحيد التابع للدولة. ويتجه الطلبة إلى التصوير بإمكانيات بسيطة وأفكار تصبّ في معظمها في خانة الوعظ والنصح، والتطرق إلى المواضيع الاجتماعية بطريقة مباشرة، وهو ما يجعلها أقرب إلى الإعلانات والحملات التوعوية.

أما الفئة الثانية فهي التي تولد بإرادة الهواة الذين لم يدرسوا في المعاهد، ويعتمد معظمهم على التأهيل الذاتي من خلال البحث في الإنترنت، والمفاجأة تكون عندما تولد بعض الأعمال كبيرة وتحجز لها مكانا في المهرجانات العربية بفضل الإرادة القوية.

فبالنسبة للمخرج الجزائري الشاب بن عبد الله محمد الذي اختار أن يشقّ طريقه في عالم الإخراج السينمائي عبر بوابة الأفلام القصيرة بفيلم “الدهنيز”عام 2015؛ فإن الرهان الأكبر أمام مخرجي الأفلام القصيرة الشباب يبقى في كيفية فرض أنفسهم في المواعيد السينمائية الكبيرة، فكما قال في تصريح لـ”الجزيرة الوثائقية” إن “الهدف الأساسي بالنسبة للمخرجين الشباب هو إبراز رؤيتهم في الإخراج في جوّ مزدحم بالتنافس”.

ويرى المخرج الشاب أن إخراج أيّ فيلم قصير ليست عملية سهلة كما يتخيل البعض، بل تحتاج إلى ذكاء في التعامل مع الوقت، وأضاف “أصعب ما في عملية إخراج الفيلم القصير هو عدم وجود متسع من الوقت لسرد القصة بالتفصيل، ما يحتاج إلى التركيز والدقة واختزال الزمن للوصول إلى العمق الدرامي للقصة”.

أما الفئة الثالثة فيمكن وصف عمليتها الإنتاجية بالمحترفة مقارنة بحجم الدعم الذي تتلقاه، وهي تلك التي تقف خلفها مؤسسات السينما المعروفة، وهنا نجد تجارب واعدة مثل فيلم “غدا الجزائر” للمخرج أمين سيدي بومدين، والذي فتح شهيته لخوض تجربة الفيلم الروائي الطويل، كما هو شأن المخرج الشاب كريم موساوي الذي قدم فيلما قصيرا بعنوان “تلك الأيام”، واتجه بعد النجاح الذي حققه إلى خوض تجربة الروائي الطويل، وقدم فيلم “في انتظار السنونوات”.

في العالم العربي تنقسم الأفلام القصيرة إلى ثلاث فئات، أبسطها تلك التي يقدمها طلبة المعاهد السمعية البصرية

ثورة في الإنتاج ومعاناة مع التسويق

رغم كل ذلك فإن دورة حياة الأفلام القصيرة تبقى قصيرة جدا، وقد لا تتعدى المشاركة في هذا المهرجان أو ذاك، وتتوقف عادة بعد تقديم مخرج جديد إلى الساحة السينمائية العربية، لكنها لا تصل إلى الجمهور العريض، خاصة في ظلّ تراجع عدد قاعات السينما. وفي الوقت الذي لا يوجد فيه موزعون يهتمون بالترويج للأفلام القصيرة؛ يجد مخرجو الأفلام القصيرة أنفسهم في رحلة شاقة ومتعبة ومعقدة للبحث عن فرصة لعرض أفلامهم.

أما بالنسبة للناقد العراقي كاظم السلوم فالأمر يرجع إلى العملية الإنتاجية بشكل عام، وكما قال في تصريح لـ”الجزيرة الوثائقية” فإن الفيلم القصير يعيش رهن “الكلفة الإنتاجية البسيطة التي يتطلبها إنتاج الأفلام القصيرة، مقارنة بكلفة إنتاج الفيلم الطويل الذي يحتاج إلى رأس مال مال كبير وميزانية ضخمة تتكلفها شركات إنتاج كبيرة وداعمون آخرون”.

ويخلص الناقد العراقي إلى أن أهمية الفيلم القصير الوثائقي أو الروائي؛ تكمن في التكثيف الذي يتميز به، فكما قال “هذا التكثيف يعد العامل الأصعب في صناعة هذا النوع من الأفلام، لأنه يعني تكثيفا في استخدام كافة عناصر اللغة السينمائية، وذلك لإيصال ثيمة الفيلم إلى المتلقي خلال وقت لا يتجاوز أحيانا بضع دقائق فقط، وهو أمر ليس بالهيّن على من يتصدى لصناعة هكذا أفلام”.