الأم الأرمنية وشجرة الجوز

الأم ديدرو

محمد موسى 
من دون عجلة أو صرامة سردية، ومثل جدات شرقيات يسردن حكايات قديمة في ليالي شتوية باردة، يتنقل المخرج التركي “سردار أونال” بين أحداث قصة فيلمه “الأم ديردو وشجرة الجوز”، والذي فاز بجائزة أفضل فيلم تسجيلي تركي في الدورة الأخيرة لمهرجان إسطنبول السينمائي. ذلك أن السرد الذي يبدأ عن الحاضر المعاش لشخصياته، سرعان ما يعود إلى الماضي، ويبقى لزمن طويل يدور حول الحادثة المفصلية المؤسسة في حياة عائلة الفيلم دون أن يسميها، وكأنه يخشى تقليب أوجاعها، وعندما يفعل ذلك، يتبيًّن أنها مثل الكثير الذي حَدَثَ ويحدث في تلك المنطقة من العالم: مأساوية، وجراحها مازالت غائرة ومفتوحة، وثقلها يُخيم ويُقيد حياة أصحابها.

على صعيد الجغرفيا، ينطلق الفيلم التسجيلي من المكان الروحي الأول لشخصيته الرئيسية: الأُمّ والجدة التركية الأرمنية “ديردو”، والتي سيفتتح الفيلم زمنه بمشاهد لها وهي تجلس في كوخ صخري فقير للغاية بُنيَّ على أرض مفتوحة. تبدو السيدة السبعينية سعيدة وراضية كثيرًا رغم التقشف الذي يقترب من القسوة لمحيطها، فهي تقضي إجازتها السنوية الطويلة في القرية التي ولدت فيها، برفقة قريباتها، وفي تلك البقعة تشعر “ديردو” بالانتماء الحقيقي والوحيد. هي أرضها التي أجبرت على تركها بعد أن استحوذ عليها جيرانها الأتراك لسنوات طويلة، وبعد حادث مقتل زوجها قبل أربعة عقود تقريبًا وفرارها بعدها مع أبنائها الثمانية إلى مدينة إسطنبول.

يقضي الفيلم ربعه الأول في القرية، ويُرافق “ديردو” في حياتها اليومية البسيطة هناك، باحثًا عن مشهديات جميلة تفسر تعلق شخصيته بتلك الأرض. فيسجل الفيلم في هذا الاتجاه في مشهد طويل الدرب المتعرج عبر الصخور الجبلية الذي تقطعه شخصيته إلى نبع الماء القريب، وفي مشاهد أخرى ستدور الكاميرا حولها وهي تقف بجوار شجرة جوز كبيرة كانت موجودة قبل أن تولد، وستبقى على الأرجح لسنين عديدة بعد رحيلها عن العالم، ذلك أن المرأة التركية لا تخطط لبيع أرضها، ولن تتخلى بالتحديد عن شجرة الجوز تلك حتى لو عرض عليها الملايين كما تحدت بعناد، كما أن جذورها مثل جذور الشجرة تلك غائرة في الأرض.

تعود المرأة الريفية إلى الحوادث التي غيرت مسّار حياتها، فتفتح بحذر حادث مقتل الزوج، وتستعيد التفاصيل التي طبعت في ذاكرتها من يوم الحادث نفسه، وما جرى بعدها من هروبهم من القرية، وتخاذل القضاء التركي بإطلاق سراح القتلة رغم معرفته لهم –كما تدعي- ثم الاستيلاء على بيتها وأرضها لسنوات طويلة، حتى نجحت في استعادتها منهم بعد معركة قضائية طويلة ومجهدة ساعدها فيها صديق تركي سنراه في الفيلم- عندما تزوره “ديردو” في بيته- وسيستعيدان مثل مقاتلين خاضا حربًا مضى عليها زمن طويل ذكريات من الأيام تلك.

ينتقل الفيلم في نصفه الثاني انتقالة مفاجئة على صعيد المشهديات، فمن بيت “ديردو” الشديد الفقر في القرية، إلى شقة أنيقة حيث تعيش الشخصية الرئيسية في مدينة إسطنبول محاطة بالأبناء والأحفاد. والذين كانوا عندما يصل إليهم الفيلم يحتفلون بأعياد الميلاد، لتبدو حينها أيام العائلة الصعبة بعيدة كثيرًا، بيد أن اجتماعهم معًا سيهيج ذكريات عن سنواتهم الأولى في إسطنبول، والتي طبعها الفقر والعازة، فالعائلة عاشت شهريها الأولين بعد وصولها إلى إسطنبول في مبنى تابع للكنيسة وقتها، وانتقلت بعدها إلى شقة صغيرة للغاية، كانت مساحتها لا تكفي لنومهم جميعًا بشكل متواز في الوقت نفسه. 

الأم ديردو مع أبنلئها وأحفادها

بعد القرية وإسطنبول، يسافر الفيلم إلى أرمينيا، الوجهة الجغرافية والتاريخية المهمة كثيرًا لشخصيتها الرئيسية، والتي أصبحت بعد انتقال أحد أبنائها إليها تملك أهمية مضاعفة. تحاط “ديردو” في أرمينيا كما في إسطنبول بالحب من أقربائها هناك، لكنها ومثل أولئك الأقارب الذين تركوا تركيا في أوقات سابقة ولظروف مختلفة، مازالوا معلقين نفسيًا بالبلد الأول الذي ولدوا فيه، فما أن يتطلعوا من المدينة الأرمنية الحدودية إلى الجبل التركي الذي تغطي الثلوج قمتة، والذي كانوا يعيشون من حوله في طفولتهم وشبابهم، حتى تمتليء قلوبهم بالحزن والحنين كما وصفوا.

يبقى الفيلم قريبًا كثيرًا من “ديردو” التي لم تتخلّ عن ابتسامتها وتسامحها على طوال زمن الفيلم، وستتسلل روحها ورجاحة عقلها إلى العمل التسجيلي، الذي رُغم خوضه في قضايا صعبة وشديدة الجدليّة في تركيا، إلا أنه يفعل ذلك بسلاسة لافتة. يُعيد العمل التسجيلي قضية الأتراك الأرمن المشحونة والتي يقترب الحديث فيها من التابو العام في تركيا إلى أصلها الإنساني، وستكون “ديردو” ذاتها وجهًا حديثًا لقضية تاريخية عمرها عشرات السنوات. إذ إنها وبتمسكها بحقوقها الإنسانية البديهية، وعدم تخليها عن بلدها تركيا وأرضها الخاصة، تفتح النقاش العام بطريقتها عما حدث لأتراك أرمن مثلها، كانوا ضحية وقتها لظلم السلطات الرسمية والمجتمع على حد سواء.

يُبقي المخرج، وفي خطوة أسلوبية جريئة، على مشاهد تبين ارتباك “ديردو” والشخصيات المحيطة بها، وبشكل خاص النساء المتقدمات في العمر في القرية، من حضور الكاميرا وفريق تصوير الفيلم. كما تُظهر تلك المشاهد الحوارات بين الشخصيات، أو بينها وبين المخرج وفريق التصوير لتسأل عما يجب أن تفعله أمام الكاميرا أو تنظر باندهاش مُحبب إلى الكاميرا. هذه التفاصيل التي تخلو منها أي عمليات تسجيلية والتي يتم اقتطاعها في عمليات التوليف، يحتفظ بها المخرج لتشكل جزءًا من هوية الفيلم الخاصة، وتكريسًا لعفوية شخصيته الرئيسية المحببة.

ينتقل الفيلم عدة انتقالات جغرافية ومناخية عبر زمنه، والتي تعكس على نحو ما محطات من الرحلات التاريخية التي قطعها أتراك أرمن في الخمسين عامًا الأخيرة الذين اختاروا البقاء في بلدهم وعدم الهجرة. يحجز الفيلم، وبابتعاده عن الخطابية السياسية أو العاطفية، وتمسكه بالقصص والتجارب الذاتية لشخصياته، مكانة مهمة على صعيد الأعمال التي قدمت قضية الأتراك الأرمن، وبالخصوص تلك التي أنتجت في تركيا. ليشكل بالتالي عرض الفيلم وفوزه بالجائزة الأولى في مهرجان إسطنبول السينمائي، خطوة مهمة على صعيد فتح هذه القضية الإشكاليّة سينمائيًا.