الإنترنت.. جناية التكنولوجيا الحديثة

الفيلم الوثائقي الثاني الذي أخرجه المخرج الألماني المرموق فيرنر هيرتزوغ خلال عام 2016 يحمل عنوانا غريبا هو (Lo and Behold Reveries of the Connected World) ويمكن ترجمته إلى “تعجب وشاهد: أوهام العالم المتصل”، والمقصود بحرفي Lo في العنوان الإشارة إلى كلمة Log التي كانت أول كلمة يستخدمها المستخدم عند اختراع الإنترنت.

يرى هيرتزوغ أن الإنترنت هو إحدى أكبر الثورات التي عرفتها البشرية. وهو يذهب إلى جامعة كاليفورنيا، وتحديدا إلى قسم الهندسة الكهربائية والحاسوب، حيث كانت المحاولة الأولى لإطلاق الإنترنت في 29 أكتوبر عام 1969، ليبدأ رحلة اكتشاف آفاق وأسرار هذا الاختراع العجيب الذي غيّر طريقة التفكير، وربما أيضا الحياة في العالم كله.

ولكن لماذا يستخدم هيرتزوغ الحرفين الأولين للكلمة فقط ويلعب بهما على كلمة “تعجب”؟ الإجابة على هذا تتضح بعد اللقطة الطويلة التي تتطلع فيها الكاميرا إلى رجل يسير نحو مقدمة الصورة في ممر طويل، ثم يدلف إلى غرفة في قسم الحاسوب بجامعة كاليفورنيا، يقول إنها الغرفة السرية التي شهدت مولد الإنترنت. هذا هو العالم الأمريكي “ليونارد كلينروك” أحد رواد الإنترنت في العالم، وهو يطلعنا على جهاز الحاسوب الذي جرت به أول تجربة لإطلاق الإنترنت عام 1969. والجهاز كما نرى عبارة عن مجموعة من الأجهزة المتصلة ببعضها البعض داخل غلاف حديدي شديد المتانة، والجهاز المركب محفوظ داخل خزانة، وتبدو بداخله مجموعة كبيرة من الوصلات والموصلات والأسلاك.

يخبرنا كلينروك أن الرسالة الأولى كانت عبارة عن كلمة Log وكانت ترسل من هذه الغرفة في جامعة كاليفورنيا إلى معهد ستانفورد للأبحاث، وكان هناك اتصال هاتفي بين الرجلين الموجودين على طرفي جهازي الحاسوب في الموقعين. كان الأول يسأل الثاني بعد إرسال الحرف الأول: هل وصلك حرف “إل”، فيجيبه بنعم، ثم يرسل الحرف الثاني، ويتأكد من وصوله، أما عندما أراد إرسال الحرف الثالث من كلمة Log التي تعني ادخل أو اتصل، فقد وقع عطل أو ما يسمى بـ”كراش” في جهاز الحاسوب، لذلك أصبحت Lo هي الرسالة الأولى التي أرسلت عبر الإنترنت.

الفصول العشرة.. اكتشاف العالم الجديد

 ما بين بداية الفيلم ونهايته يتابع هيرتزوغ من خلال عشرة فصول محددة بالأسماء على الشاشة الجوانب المتعددة لعالم الإنترنت؛ محاسنه ومزاياه وعيوبه ومخاطره، وينتقل من التقني إلى الفلسفي، ومن العملي الحاضر إلى المستقبلي الخيالي. تبدو الرحلة ممتعة ذهنيا، لكن ربما أقل متعة من الناحية البصرية، لأن هيرتزوغ يفضل الاستعانة بكثير من علماء الحاسوب والفلك والإنترنت وشخصيات أخرى كثيرة من أجل دعم فكرته، لكنه يبدو من البداية متشككا أو متشائما فيما يتعلق بدور هذا الاختراع المذهل الذي أصبح وجوده طاغيا في العالم، دون أن يتخلى هيرتزوغ عن شعوره الخفي بما قد يحمله الإنترنت في المستقبل من مفاجآت.

العالم الأمريكي كلينروك يشبّه انطلاق الإنترنت برسو سفينة كريستوفر كولومبوس على الشاطئ الأمريكي للمرة الأولى، أي باكتشاف “العالم الجديد”. والمقصود أن هذا الكشف أو الاكتشاف المذهل لم يكن أحد يعرف أو يدرك في البداية ما سيكشف عنه فيما بعد، وكيف سيتغير شكل العالم إلى الأبد بعد ظهوره، هذا التغير في عالم ما بعد ظهور الإنترنت هو ما يحاول الفيلم أن يرصده.

هيرتزوغ يعلق بصوته أحيانا لكن من خلال تساؤلات يطرحها ليترك لغيره من المتخصصين والعلماء محاولة الإجابة على تساؤلاته، وهو يستخدم الصور الفوتوغرافية وتصميمات الغرافيكس البيانية والرمزية، والمقابلات المباشرة مع الشخصيات المختلفة، والأجهزة القديمة والحديثة، والنماذج المتحركة والروبوت، ومقاطع من تقارير الأخبار التلفزيونية، ومقاطع من الأفلام الوثائقية القديمة (من وكالة ناسا مثلا)، لكن دون أن يظهر بنفسه في الصورة، كما يستعين بالموسيقى التي توحي بالغموض أكثر مما تشيع روح المغامرة.

الفيلم يقدم نماذج لبعض من أصيبوا بالإدمان وهم الآن يتعافون من آثاره، مفضلين الابتعاد التام عن العيش في المدينة

فصول الفيلم العشرة تحمل العناوين التالية: الأيام الأولى ومجد النت، الجانب المظلم والحياة دون الإنترنت، نهاية النت والغزاة الأوائل، الإنترنت في كوكب المشتري والذكاء الاصطناعي، الإنترنت الخاص بي والمستقبل.

يعلق هيرتزوغ على مقطع من شريط تسجيلي يصور بداية رواج الإنترنت عندما استطاع أن يجذب 500 مستخدم، متسائلا عما أصبح عليه الحال اليوم بعد أن بلغ عدد المستخدمين مئات الملايين، وربما يصل قريبا كما يقول أحد العلماء إلى أربعة مليارات شخص، وأصبح الاتصال والتواصل عابرا للحدود بين الدول والقارات بشكل يتجاوز كل خيال. لقد وصل حتى إلى الفضاء بعد أن أصبح الاتصال الهاتفي بين سفن الفضاء والمركز الأرضي يتم عبر الإنترنت.

الإنترنت.. بين الخير والشر

هل سيصبح بوسع الحاسوب التحكم في قيادة السيارات؟ نشاهد في الفيلم تجربة عملية لسيارة تسير بموجب التوجيه عبر الإنترنت. أحد علماء جامعة “كارنيغي ميلون” يشرح من خلال نموذج عملي كيف أمكن تجهيز سيارة بأجهزة الحاسوب والاتصال والرادار، وأصبح من الممكن تسييرها حسب الطلب دون حاجة للتدخل من جانب السائق الذي يجلس مسترخيا أمام عجلة القيادة يتابع المسار الذي حدده للسيارة من البداية.

إن السيارة ترسل عبر الإنترنت معلومات عما تراه في الطريق، وهو ما يمكن أن يفيد سائقين آخرين، لكنها تقوم أيضا بتحميل معلومات عما يحدث في الطريق قبل أن تصل مثلا الى منطقة حادث أو اختناق مروري. لقد وضعوا مجموعة من الأجهزة الإلكترونية مع أربعة من أجهزة الحاسوب في حقيبة السيارة الخلفية يمكنها القيام بالعمل، هذه الأجهزة التي تستعين بأشعة الليزر لتغذية السيارة ببعض المعلومات والنقاط ذات الدلالة التي تقرأها بواسطة عقول الحاسوب، تجعلها قادرة على التحكم في المسارات تماما مثل الإنسان أي السائق، أما السؤال الفلسفي الذي يطرحه هيرتزوغ هنا فهو “ومن الذي يتحمل المسؤولية في حالة وقوع حادث؛ الإنترنت أم السائق”؟

العالِم الأمريكي “ليونارد كلينروك” أستاذ علوم الحاسب الآلي في جامعة كاليفورنيا

من هنا ننتقل إلى عرض حي لنماذج متحركة مجهزة بطريقة مشابهة تثبت أن بالإمكان مستقبلا، ربما عام 2050 كما يقول أحد العلماء الشباب في جامعة “كارنيغي ميلون”، أن يلعب فريق مكون من الإنسان الآلي أو الروبوت ضد فريق كرة قدم يضم أعظم اللاعبين المحترفين في العالم ويهزمه.

وفي فصل بعنوان “الجانب المظلم” يتوقف هيرتزوغ أمام أسرة مكونة من أب وأم وثلاث بنات يرتدين جميعا ملابس الحداد، فقد فقدت الأسرة ابنتها الرابعة التي كانت تعاني من ورم بالمخ بعد أن قادت سيارة والدها وتعمدت الاصطدام بغرض الانتحار، وفقدت بالفعل حياتها في الحادث. وبعد الحادث مباشرة فوجئت الأسرة بنشر صورة على شبكة الإنترنت لرأس الفتاة المنفصل عن جسدها، ويقول هيرتزوغ إن مئات الآلاف بل وربما ملايين الأشخاص شاهدوا هذه الصورة، ثم تلقى الأب رسائل مجهولة المصدر مصحوبة بالصورة، ومليئة بالكثير من الشتائم والكلمات البذيئة ضد الأسرة وابنتها الراحلة. ولا غرابة في أن تصف الأم الإنترنت بأنه “روح الشر”. المشكلة أن الأسرة فشلت في الحصول على أي حق أو تعويض كما لم يتم ملاحقة الشخص الذي يكمن وراء هذه الرسائل، لأنه لا يوجد قانون يحمي البشر من مثل هذه الرسائل المهينة القاسية.

الإنترنت.. حفاظات يلبسها مدمنوه

ينتقل الفيلم في جزء مثير منه إلى منطقة أكثر مدعاة للاهتمام من الجوانب التقنية المعقدة التي شغلت هيرتزوغ في الثلث الأول، وذلك عندما يتطرق إلى البحث في مخاطر الإنترنت، فيذهب أولا للاطلاع على تجارب الإدمان؛ إدمان التعامل مع الإنترنت وما أدى إليه، فنعرف مثلا أن البعض في كوريا الجنوبية أدمنوا الإنترنت لدرجة أنهم كانوا يرتدون ما يسمى بـ”الحفاظات” يتبرزون فيها كي يتجنبوا الذهاب إلى دورات المياه، حتى لا يفقدوا اتصالهم بالشبكة الجهنمية.

يقدم الفيلم نماذج لبعض من أصيبوا بالإدمان وهم الآن يتعافون من آثاره، مفضلين الابتعاد التام عن العيش في المدينة، لا يقتربون من التكنولوجيا الحديثة بما في ذلك السيارات، وتقول إحدى النساء إنها تفضل حتى الجلوس على الأرض مثل الحيوانات أو الإنسان البدائي وتجد في الأمر راحة أكثر، ويقول شاب إنه أصبح الآن يفضل العزلة بعد أن تسبب إدمانه الإنترنت في فقدان عمله وصديقته ومنزله، وتقول امرأة أخرى إنها أصيبت بأضرار خطيرة نتجت عن الإشعاع بفعل رسائل معينة من الرسائل التي وصلتها عبر الإنترنت.

ومع ذلك ورغم المخاطر التي تنتج عن شيوع الإنترنت وبالتالي غياب معرفة مع من يمكن أن تتخاطب، أي شيوع حرية الاتصال والتغلب على أشكال الرقابة (يبالغ هيرتزوغ بالقول إنه من الممكن مستقبلا أن يتخاطب المرء مع كلب دون أن يدري أن على الطرف الآخر كلبا)، إلا أن علماء الفضاء يرون أن الإنترنت سيلعب دورا هائلا في اكتشاف الكواكب الأخرى مثل المشتري، بل إن هذا الدور بدأ بالفعل كما نرى.

مستقبل الإنترنت والعالم.. رؤية تشاؤمية

استولى الإنترنت تماما على عقول الكثير من البشر، لذلك يخشى هيرتزوغ -وهو ما يعبر عنه في فيلمه- من ضياع أو اختفاء فكرة التواصل المباشر بين البشر متسائلا “هل يمكن أن يأتي يوم يتم التعامل فيه مع الإنترنت ببساطة عبر التخاطر العقلي؟”، يجيب أحد العلماء في الفيلم على هذا السؤال بالقول: إنه إذا كنا قد أصبحنا قادرين ولو على نطاق ضيق ومن خلال مسافة صغيرة أن نفهم ما يدور في عقول بعضنا البعض، فقد يأتي يوم يسمح بأن يكتب المرء خواطره وما يجول في ذهنه عبر موقع مثل تويتر دون حاجة إلى تدوينها بيده، بل بمجرد أن يقرأها الحاسوب المتصل بالشبكة من أفكار المرء مباشرة. ويضيف مستدركا: مَن يعلم، ومن أنا كي أقطع بشيء؟!

وهي العبارة التي ينتهي بها الفيلم، وتبقى المشكلة أن بعض الفصول مثل “مستقبل الإنترنت” على سبيل المثال، وهو مجال مفتوح لم يتم سبر أغواره كما ينبغي، ولم يكن ممكنا أن يتحقق ذلك من خلال فصل في فيلم، فلا شك في أن الموضوع يستحق فيلما قائما بذاته، كما هو الأمر بالنسبة للفصل الخاص بالغزاة الجدد الذي يستجوب فيه هيرتزوغ بعض أوائل الذين اقتحموا الشبكة وقاموا بسرقة المعلومات أو دمروا أنظمة الاتصال في بعض المنشآت الحيوية، ومنهم من قضى سنوات في السجن بعد أن تمكن من اختراق موقع وكالة المباحث الفدرالية (إف بي آي)، وكان يتابع الضباط المسؤولين عن مراقبته ومراقبة ما يقوم به من اختراقات، لدرجة أنه نجح في التخلص من كل أجهزة الحاسوب وغيرها من الأجهزة بما في ذلك الهواتف قبل أن يأتوا للقبض عليه، ووضعها لدى أحد أصدقائه، ثم وضع بعض الحلوى في ثلاجة المنزل بعد أن كتب على كل قطعة منها “حلوى الإف بي آي”، وعندما جاؤوا لاعتقاله ولم يجدوا شيئا جُنّ جنون الضابط قائد الفريق عندما فتح الثلاجة ووجد هذه الحلوى.

على الرغم من الطرافة وروح المرح وبعض التساؤلات الساخرة، فإن الفيلم يعكس بشكل عام وجهة النظر الفلسفية التي يعبر عنها هيرزوغ في الكثير من أفلامه المشبعة بالتشاؤم بالنسبة لمستقبل الإنسان ومستقبل علاقة الإنسان مع العالم، وهي رؤية ترى أن الإنسان يتجه أكثر فأكثر نحو كارثة كبرى لا ينتبه لها، بل ولا يملك لها دفعا بسبب ما يرتكبه هو في حق نفسه وفي حق كوكبه.