“الازدهار المُقدس”.. صراع البقاء ومآلات الفناء

خالد عبد العزيز

يقول الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما “إن ما يُرضي البشر حقا ليس الوضع المادي بقدر ما يُرضيهم الاعتراف بوضعهم وكرامتهم”. ويستمد هذا القول مصداقية كبرى في ظل تعاظم آثار السياسات الاقتصادية العالمية الجديدة التي تتجه نحو الرأسمالية في مقابل انخفاض قيمة الإنسان، بما يجعل قيمة الفرد تتناسب عكسيا مع قيمة العُملة، فكلما زادت قيمة العملة انخفض قدر الإنسان، فالأهم ثم الأهم هو المال.

فيلم “الازدهار المُقدس” (Holy Boom) (2018) –وهو إنتاج مشترك بين اليونان وألبانيا وقبرص، وسيناريو وإخراج المخرجة اليونانية “ماريا لافي” وشاركتها في كتابة السيناريو “إيلينا ديميتراكوبولو”- يتطرق باستفاضة لهذه الأفكار بشكل عميق، ليبدو مضمون الفيلم يدور حول أوضاع المهاجرين في أوروبا -اليونان تحديدا– مُبرزا مُعاناتهم وحياتهم وأحلامهم التي تدور حول شيء واحد هو المال، لكنه أيضا يحوي بين طياته بعض اللمحات عن الإنسان وقدرته على تحقيق ذاته داخل عالم لا يُعنى بأي قيمة للفرد، بما يجعل الفيلم وكأنه صرخة تشقّ صمت العالم مُعلنة تضامنها الكامل مع هؤلاء المُهمشين.

في إحدى شوارع العاصمة اليونانية أثينا نرى ثلاثة مُهاجرين يقطنون البناية نفسها، وهم “أديا” المُهاجرة غير القانونية القادمة من ألبانيا، و”مانو” الشاب الأفريقي الهارب دوماً من المجهول، وأخيراً “إيجا” المراهق الفلبيني المُنسلخ عن جذوره.. كل واحد منهم تدور حياته في دائرة مُفرغة كلمة السر فيها هي “اليورو”.

ثلاثة خطوط.. ثلاث حيوات

يبدأ الفيلم بلقطات مُتتابعة سريعة على النغمات الإيقاعية التي تتصاعد وتيرتها، لنلمح من خلالها بعض الشباب -من بينهم شاب فلبيني- يسيرون ليلاً ويلهون ببعض المتفجرات “ديناميت” في أيديهم، ثم يلقون به داخل إحدى صناديق البريد. وفي اللقطة الثانية نرى “لينا” عازفة الكمان وهي تعزف إحدى المقطوعات وصديقها “مانو” يُشجعها. ثم في اللقطة الثالثة نرى “أديا” وهي تلعب مع طفلها في منزلها، ليُختتم ذلك التتابع بمشهد نرى فيه دراجتين ناريتين تتبعان الشرطة وتسيران بسرعة مُفرطة وراء دراجة أخرى مطلوب القبض عليها، وأثناء ذلك يصطدم ذلك الجمع بزوج “أديا” وهو يعبر الطريق، ليلقى حتفه في موت عبثي يليق بحياته وكرامته المُهدرة أصلاً.

يؤسس الفيلم بهذا التتابع من المشاهد لعالمه المكون من ثلاثة خطوط درامية، وكأنه قوس مفتوح يحوي بداخله ثلاث حيوات لكل منها صراعها وعالمها الذي لا يخص سواها، مصائرهما مُختلفة وإن كان يحكمها في النهاية منطق واحد وأرضية مشتركة هي البحث عن عالم أفضل.

تتقاطع حياتهم معا وإن كان ذلك نادرا، ولكن يظل الخط الدرامي الذي يمسك الخيوط الثلاثة ببعضها البعض “ثاليا” تلك المرأة اليونانية التي تقطن في البناية نفسها ونراها في مشاهد مُتعددة وهي تنظر بعين الريبة لهؤلاء المهاجرين المُختلفين كلية عنها، نظرة تبدو وكأنها تحوي من الكُره قدراً ليس هيناً، لكنها في الوقت نفسه تحوي بداخلها جرعة مُكثفة من الفضول الذي يسعى لاختراق ذلك الحاجز غير المرئي المنصوب حول هؤلاء، فتتلصص عليهم وعلى حيواتهم لُتشبع شيئا مفقودا بداخلها قد يكون إحساسا بالأنس أو الرفقة.

ففي أحد المشاهد نرى ثاليا وهي تُرسل نظراتها المُستطلعة المُتلصصة نحو والد لينا وهو يُعنفها على علاقتها بصديقها الشاب الأفريقي مانو، لتبدأ في إرسال دفعة من الأسئلة إلى لينا حول والدها، ويصبح وجود هؤلاء السكان حولها رابطا قويا يربطها بالحياة وبمن حولها بعد ما كانت تُعاني من الوحدة والملل، على عكس ما كانت تعتقد في البداية بأنهم قوضوا حياتها، مثلما نراها في بداية الفيلم وهي تتذمر من وجود هذا الكم من المُهاجرين حولها.

تُمارس أديا عملها بالنهار عاملة نظافة، وتترك طفلها بمفرده بعد إعطائه جرعة منوّم
تُمارس أديا عملها بالنهار عاملة نظافة، وتترك طفلها بمفرده بعد إعطائه جرعة منوّم

أديا.. عندما تُسلب كل الحقوق

تجلس أديا بجوار طفلها تُداعبه، لينطلق جرس الهاتف المحمول مُنبئاً إياها بوفاة زوجها على نحو مفاجئ وبشكل عبثي تماما. وبهذا المدخل يُقحمنا السيناريو داخل عالم أديا بكل تفاصيله الموحية، تلك السيدة التي أتت من ألبانيا برفقة زوجها وطفلها الرضيع إلى اليونان بطريقة غير قانونية، يُصبح وجودها في عالمها الجديد على المحك، كما اختار السيناريو مكان إقامتها على نحو دقيق ومُعبر، فوجودها في طابق تحت الأرض له دلالته ورمزيته، لتبدو وكأنها مُنسحقة تماما، ليست حتى كمواطنة من الدرجة الثانية، ولكنها أشبه بالحشرة لا تملك أية حقوق.

فقد نسج السيناريو حياة أديا موسومة بالعديد من العقبات، بداية من عدم قدرتها على التعرف على جثة زوجها لعدم امتلاكها أوراقا ثبوتية، مرورا برضوخها لابتزازات زعيم العصابة الذي يُساومها على جواز سفرها لحين رد الأموال إليه بعد جلبه إياها لليونان من ألبانيا، وانتهاء بالقبض عليها للاشتباه بها كمهاجرة غير قانونية، ودون حتى تقديم كلمة اعتذار واحدة بعد مقتل زوجها بسبب المُطاردة الشرطية، لتبدو حياتها على الهامش وكأنها لا تساوي شيئا.

تُمارس أديا عملها بالنهار عاملة نظافة، وتترك طفلها بمفرده بعد إعطائه جرعة منوّم، ولا تكاد تظهر مُطلقا في الشارع أو في أي مكان خشية انكشاف أمر إقامتها غير القانونية، فقد رسم السيناريو شخصيتها لتبدو وكأنها من لحم ودم، وبشكل يجعل المتفرج يتعاطف معها ومع مأساتها، ملامحها موسومة بالقلق الممزوج بالفزع دوما، لا تملك أية أوراق تثبت هويتها بعد أن استولت العصابة على جواز سفرها، حياتها تدور في دائرة تبدو لا نهاية لها، فهي بين مطرقة تحقيق حلمها في حياة كريمة تليق بها وبحياة طفلها، وسندان حالة الهرب الدائمة من أعين الشرطة ومن إلحاح الدائنين عليها.

رسم السيناريو لمانو شخصية مرحة رغم مُعاناته
رسم السيناريو لمانو شخصية مرحة رغم مُعاناته

مانو.. المال مصدر خلاصه وفنائه

ندخل حياة مانو في هذا الجزء من الفيلم، ذلك الشاب الأفريقي المرح، ونتعمق في علاقته مع صديقته اليونانية لينا، وهي علاقة تبدو غريبة ومُستهجنة في مجتمع أوروبي مثل المجتمع اليوناني، فتاة أوروبية مع شاب أسمر، ففي أحد المشاهد نرى ثاليا السيدة اليونانية وهي تتحدث مع لينا لتفاجأ بوقوف مانو بجوار لينا، وفي مشهد آخر نجد والد لينا يُعنفها ويتشاجر معها بسبب علاقتها بمانو، ليطرق الفيلم قضية قبول الآخر. فالأب يرفض هذه العلاقة بسبب لون بشرة مانو، لنجد أن الفيلم يسخر من الدعاوى الأوروبية الغربية لقبول الآخر وادعاء المساواة بين الجميع، فكل هذه الدعوات ما هي إلا محض كذب وادعاء، كلها شعارات تُطلق في الهواء، وحين يدخل الموضوع حيز التنفيذ ونطاق الجد تنقلب الدنيا رأساً على عقب.

رسم السيناريو لمانو شخصية مرحة رغم مُعاناته، فحياته مُهددة بعد أن استدان مبلغا ماليا كبيرا من أحد الخارجين على القانون، لتمنعه ظروفه الصعبة من الوفاء بدينه، فنراه طوال الفيلم وهو مُطارد من هؤلاء المُجرمين، ليتسم هذا الجزء من الفيلم بالإيقاع السريع والحركة التي تُميز أفلام المُغامرات التي تتسم بنقاط الحبكة والصراع الدائم، والصراع هنا على المال، صراع شرِهٌ مجنون، فالجميع يحوم حوله ويسعى للاستحواذ عليه دون النظر للأسلوب والطريقة، فالمهم هو جمعه، ليصور الفيلم كيف تكون قرارات الإنسان عندما يكون تحت ضغط الأزمات، هل سيلتزم بمبادئه وأخلاقه أم ستدفعه الظروف نحو تغيير قناعاته؟

ويصبح أمر الحصول على المال عسيرا بعد أن تُسد جميع المنافذ، فيتفتق ذهن لينا ومانو على فكرة تجعلهما ثريين ولو ليوم واحد، وذلك عبر سرقة صندوق نذور الكنيسة الذي يمتلئ يوميا بالعديد من الأموال. وليلا أثناء القداس يقتحم مانو الكنيسة فيسرق أموال النذور ويركض بعيدا، لكنه يُعاجَل بضربة سكين في بطنه من زعيم العصابة ترديه قتيلاً على الفور، لتذهب حياته هباء منثورا، وتتناثر أموال النذور حول جسده المسجى والدماء تنز منه ببطء، ورواد الكنيسة يُحاصرونه في دائرة، لينغلق قوس حياته المفتوح في مشهد بديع رغم مأساويته، فالمال الذي يُفترض أنه مصدر خلاصه يُصبح هو مصدر فنائه.

في أحد المشاهد نرى إيجا ووالده يعنفه لأنه لا يتحدث الفلبينية
في أحد المشاهد نرى إيجا ووالده يعنفه لأنه لا يتحدث الفلبينية

إيجا.. لعب بالنار فأحرقته

في الخط الدرامي الثالث يُدخلنا الفيلم في عالم إيجا المراهق الفلبيني الذي يعيش برفقة والديه، لكنه يبدو مُنسلخا عن جذوره وحياته الأصليه لدرجة أنه يتناول طعامه بأدوات المائدة الأوروبية الشوكة والسكين ولا يستخدم أعواد الأكل ولا يتحدث الفلبينية في المنزل مثل أهله.

في أحد المشاهد نرى إيجا ووالده يعنفه لأنه لا يتحدث الفلبينية، فالسيناريو نسج حياة ذلك المراهق وكأنه يُعاني من أزمة هوية داخلية رغم عدم إدراكه لها. ملامحه الآسيوية وإتقانه للغة اليونانية، أصدقاؤه اليونانيون، كل هذا يُمثل جزءا هاما من حياته، لكنه على الصعيد الآخر يُكنّ نوعا من الكراهية لأهل البلد، فنراه من ناحية يسعى للتودد بغلظة وبشكل فج نحو زميلته في المدرسة، وفي الوقت نفسه يُمارس ألعابة النارية ويُلقي بها باستهتار وبشكل يؤدي إلى كوارث في بعض الأحيان.

قد تبدو هذه الأفعال صبيانية لكنها تحوي بداخلها دلالة ورمزاً لأزمة ما تُعانيها الشخصية، فهو يبدو حائرا بين تقبل ذلك المجتمع الذي أصبح ينتمي له، وبين الاستسلام لتاريخه وأصوله، فتمرده ليس إلا محاولة للبحث عن الذات وتعبيرا عن نفسه.

تتعقد الأحداث حتى تصل للذروة، لنرى إيجا وهو يرقد في المستشفى بعد فقدانه عينه اليسرى أثناء تركيب إحدى المتفجرات داخل الدراجة النارية الخاصة بصديق زميلته انتقاما منه ومنها، ثم تخبره أمه أنه سيعود إلى بلده الفلبين ولن يَقدر أحد على إيذائه، لينظر لها بعينه الواحدة وتعبيرات وجهه تشي بالرفض، فنجد أنه لا يزال يُعاني من الأزمة نفسها وهي عدم تقبله لماضيه وتاريخه وفي الوقت نفسه تخبطه وكرهه للواقع الحالي.

جاءت زوايا التصوير المُقربة للوجوه كاشفة عما يدور داخل نفوسهم من مُعاناة وألم
جاءت زوايا التصوير المُقربة للوجوه كاشفة عما يدور داخل نفوسهم من مُعاناة وألم

مصائر متقاطعة

تتجمع الخيوط الدرامية الثلاثة في مكان واحد هو البناية التي يقطنون بها، لتصبح البطولة هنا للمكان وليس للشخصيات، ذلك المكان الذي يُمثل بداية جديدة بالنسبة لهم. لكن الأحداث تسير عكس توقعاتهم، فالجميع يلهث وراء المال أو وراء تحقيق الذات، فالحصار يُحكم قبضته عليهم سواء أكان حصارا ماديا أم نفسيا، ففي أحد المشاهد نرى المُهاجرة الألبانية أديا وهي تجلس داخل قسم الشرطة، وتلتقطها الكاميرا وهي مُحاصرة بين إطار الباب، وذلك تعبيرا عن أزمتها وحصارها النفسي.

كما جاءت زوايا التصوير المُقربة للوجوه كاشفة عما يدور داخل نفوسهم من مُعاناة وألم، وتحديدا شخصية أديا، فأغلب مشاهدها من زاوية مُقربة تكشف عن تعبيرات وجهها المليئة بالأسى والعذاب، وبالتالي توافقت الإضاءة مع الصورة التي جاءت شاحبة هي الأخرى لتعبر عن هذا الحزن والبؤس اللانهائي الذي تُعاني منه الشخصيات.

يبدو اعتناء المخرجة “ماريا لافي” بالعناصر الفنية الموحية والدالة على ما تُعانيه الشخصيات مُلفت ومُعبر للغاية، ففي أحد المشاهد بعد مقتل مانو وقيام الشرطة برش الرمل لإزالة أثار الدماء من الشارع، نلتقي في المشهد التالي أثناء موكب عيد الفصح والمارة المحتفلين يدهسون تلك الأثار بأقدامهم، لتبدو الصورة مُعبرة عن عدم اكتراثهم، فينتقد المشهد العقلية الأوروبية التي لا يهمها أي دماء تسيل طالما أنها ليست دماءهم.

تلتقي المصائر الثلاثة عشية عيد الفصح، البداية مع أديا التي يتم ترحيلها إلى ألبانيا، ثم مانو الذي يرحل عن الدنيا، وأخيراً إيجا وهو راقد على فراشه في المستشفى بعد إصابته، لينتهي الفيلم مثلما يبدأ بهذا التتابع بين الشخصيات الثلاث، فإن كانت البداية معهم وهم داخل اليونان، فالنهاية معهم أيضاً ولكن وهم يرحلون عنها سواء بالسفر بعيدا أو الرحيل عن العالم.

وفي المشاهد الأخيرة نرى أديا وهي تنظر من نافذة الأوتوبيس الذي يُقلها إلى المطار وتنظر إلى السماء التي تزخر بالألعاب النارية وتفكر في طفلها الذي تركته مع جارتها اليونانية ليبدو هذا الطفل وكأنه يرمز إلى المستقبل.

وننتقل لمشهد إيجا وهو داخل المستشفى ينظر من النافذة أيضا بعينه الواحدة نحو السماء التي تتزين بالألعاب النارية، وأخيراً مع لينا وهي تسير فوق الجسر حزينة على وفاة صديقها، لتبدو هذه الاحتفالات ليست بعيد الفصح وحسب ولكنها إحتفالات برحيل هؤلاء الغرباء المُهمشين عنهم، ولينغلق قوس حيواتهم المُعذبة فجأة مثلما افتتحت فجأة على متوالية من الكبوات والأزمات التي لا تظهر لها نهاية.