“البحث عن رجل السكر”.. موسيقي أمريكي مغمور ألهم كفاح جنوب أفريقيا

يامن محمد

هل مات موسيقيون مشهورون مثل سيد درويش و”جون لينون” و”بوب مارلي” في جرائم قتل مدبرة، أم أن رحيلهم كان قضاء وقدرا؟ أما الأول فكان له أثره الاستثنائي في ثورة 1919 في مصر، وأما البريطاني والجمايكي فقد وحّدا ملايين البشر عبر اللحن والكلمة وهدف التحرر في سبعينيات القرن العشرين بشكل خاص.

“لينون” قتله مهوس كما قيل، وأما الآخر فقد أعلن “بيل أوكسلي” عميل الـ”سي آي إيه” (CIA) قبيل وفاته أنه هو من دبّر تصفية صاحب أغنية “أطلقتُ النار على المأمور” (I Shot The Sheriff) خدمة لبلده أمريكا. هل نكون قد أوغلنا كثيرا في نظرية المؤامرة إذا ما فكرنا باحتمالية الإنهاء المقصود لتجارب مماثلة؟

 

“لم يرد أحد الاستماع إليه رغم عظمة موسيقاه”

ربما كان أمرا غريبا بعد هذه المقدمة أن نتناول فيلم “البحث عن رجل السكر” (Searching For Sugar Man) لمخرجه مالك بن جلول، فهذا الفيلم الحائز على جائزة أوسكار أفضل فيلم تسجيلي لعام 2013، لا يتناول قصة موسيقي مات قبل أوانه أو قتل، أو أجج ثورة ما في مجتمعه.

وعلاوة على ذلك، فإن الموسيقي “سيكستو رودريغيز” الذي تدور حوله أحداث الفيلم، لا يكاد يُعرف في بلده الولايات المتحدة الامريكية، فقد أنتج ألبومين موسيقيين في بداية السبعينيات من القرن الماضي ثم اختفى.

لم يعجب أناس ذلك المجتمع، أو بالأحرى وكما يقول أحد منتجي ألبوماته في الفيلم: “لم يرد أحد الاستماع إليه رغم عظمة موسيقاه”. هذا ما يطلعنا عليه الفيلم في بدايته، ثم يتابع الباحثان “المحققان الموسيقيان” وهما من اضطلعا في تسعينيات القرن الماضي بمهمة البحث عن الموسيقي الغائب سردَ القصص الشائعة عن اختفائه، فهناك من قال إنه انتحر بعد فشله كموسيقي في بلده بإشعال النار في نفسه فوق خشبة المسرح، وهناك من قال إنه أطلق على نفسه الرصاص بعد حفلة موسيقية رديئة تذمر منها الحضور.

من خلال هذه الأجواء المحبطة للمُشاهد، يتسلل المخرج الوثائقي بن جلول لتناول واكتشاف قصة خارقة للعادة إذا جاز التعبير، مشرحا عبر تفاصيلها العديد من الحقائق التي تحكم واقعنا، ومجيبا بشكل غير مباشر عن دور الفن المحتمل، وعلاقة الفنان بجمهوره ومجتمعه.

 

أغاني “رودريغيز”.. رمز فني أبيض يلهم كفاح السود

سرعان ما ينقلنا المخرج إلى جنوب أفريقيا، نسمع قصة أخرى هناك عن “سيكستو رودريغيز” وأغانيه، فكل الناس هناك يعرفون “رودريغيز”، ليس ذلك فقط، بل إنه أصبح أحد رموزهم الفنيين في فترة الكفاح ضد نظام الفصل العنصري المتزمت.

أثرت موسيقى “رودريغيز” في جيل كامل كان يرزح تحت سطوة الديكتاتورية العنصرية، فقد جاءت أعماله في السبعينيات مع أحد المسافرين من الولايات المتحدة، ثم أحبها الناس وبدأوا أولا ينسخونها ويوزعونها فيما بينهم، لكن سرعان ما اقتنى ملايين الأشخاص في جنوب أفريقيا تلك الأغاني التي كانت في مضمونها تناهض سيطرة المؤسسات، وتدعو إلى التحرر الشخصي، ومن ثم المجتمعي.

لقد وجد المجتمع المقموع في أغاني “رودريغيز” بُعدا جديدا وآفاقا أخرى للممكن الذي يكسر جدار المستحيل، ربما كتلك الآفاق التي تحدث عنها سابقا المناضل “مالكولم إكس”، مؤكدا دور الموسيقى المحوري في صراع السود لنيل حريتهم، إذ أنها تساعدهم على تشكيل هويتهم وصياغتها ثقافيا في مواجهة القمع المادي والاضطهاد، وهو ما فهمه “بوب مارلي”، وبكل تأكيد الأسطورة السوداء الموسيقية “نينا سيمون”، وقد دفعا أثمانا باهظة لتطبيقهما فهمهما ذاك في الفن والحياة.

لكن المفارقة هنا أن “رودريغيز” لم يكن حتى موجودا في جنوب أفريقيا، ولم يقصد كتابة أغانيه من أجل صراع مباشر ضد الاضطهاد أو العنصرية، وهو لم يكن أسود رغم أصوله المكسيكية، لقد حضر رغم غيابه في مكان بعيد جدا عن بلده، بموسيقاه وتأثيرها في جيل من الموسيقيين الشباب الذين حركوا بدورهم وعيا عاما حتى سقوط نظام الفصل العنصري.

كل الناس تعرف “رودريغيز” الأسطورة في جنوب أفريقيا، ولا أحد يعرفه في بلده أمريكا.

 

إطلالة النافذة.. عودة ثانية للنجم الغائب إلى الحياة

“ألا يوجد موسيقيون محققون؟”. هذا ما كتبه صاحب متجر صوتيات على الكتيب المرفق لأول “سي دي” نسخت عليه أعمال “رودريغيز” في التسعينيات بعد أن كانت سابقا أشرطة كاسيت، مُطالبا بفك الغموض عن أكثر الموسيقيين المثيرين للجدل، إذ أنه لا يكاد يُعرف خارج جنوب أفريقيا.

ستكون هذه العبارة نقطة انطلاق البحث لمعرفة مصير النجم الغائب، وليكمل شعب جنوب أفريقيا معرفتهم بأنفسهم وهويتهم، وقد وجد الباحثان أخيرا الحقيقة بعد جهد وطول بحث، وبالاستعانة بشبكة الإنترنت؛ إن “رودريغيز” لم يمت، إنه حي يرزق في ديترويت في أمريكا. لكن ماذا جرى؟

يُظهر لنا المخرج خلال زمن تصوير الفيلم “رودريغيز” من نافذة منزله المتواضع، إنه مجرد عامل في مشاريع البناء والترميم، العمل الذي استأنفه بعد فشل ألبومه الموسيقي الثاني في أمريكا، واستمر فيه لعشرات السنين، إنه رجل عادي يكافح لبناء أسرته كما تؤكد ابنته، حتى أنها في أحد الأيام رأته يحمل برّادا على ظهره.

تابع “رودريغيز” حياته في أمريكا مجهولا مغمورا يعيش حياة فقيرة، لكنها غنية بأشياء أخرى كثيرة غير المال كما تقول ابنته، لقد كان جاهلا جهلا مُطلقا بما يجري هناك في جنوب أفريقيا، وأنه كان أسطورة لا تقل أهمية عن أعظم الفنانين في قلوب الناس في تلك الدولة الأفريقية.

لقد جعل المخرج إطلالته من النافذة الموحية بأننا اكتشفناه للتو في الفيلم التسجيلي؛ تتقاطع مع لحظة اكتشافه في القصة المروية التي تجري أحداثها في التسعينيات، وكأن الفيلم التسجيلي يقوم بكشف جديد بدوره في مستوى آخر. ومن جهة أخرى، كأن “رودريغيز” لم يتغير بين الزمنين.

 

“شكرا لكم، لقد أحييتموني من جديد”.. رحلة خيالية

في أمريكا لم يصدق “رودريغيز” وأفراد عائلته هذه القصة الخيالية عندما أخبروهم بها، كأن هناك من يكذب عليهم أو يسخر منهم، لكنهم قالوا له: تعال إلى جنوب أفريقيا وسترى أنك أشهر من “ألفيس بريسلي”.

يقوم “رودريغيز” بتلك الرحلة عام 1998 مع عائلته، وقد تجنبوا سيارات الليموزين التي صادفوها بعيد نزولهم من الطائرة، ظنا منهم أنها ليست لهم، بل لأناس مهمين، أما السجاد الأبيض فكان الأغرب، إذ كيف سيمشون عليه خاصة وهم يرتدون أحذيتهم؟ تقول ابنته وتضحك.

التفاصيل التي نعاينها على وجهي ابنتي “رودريغيز” أثناء روايتهما للأحداث، ومن خلال كلامهما؛ تعزز المفارقة الكبرى التي يريد الفيلم إبرازها، لكن على المستوى الشخصي هنا. تصف ابنته الأخرى الحشود والمصورين بقولها: كأن “مادونا” هي من جاء، لقد أصبحوا وكأنهم في عالم آخر، فالمعجبون يهرعون لأخذ تواقيع من “النجم”.

في الحفلة التي يقيمها “رودريغيز” هناك يأتي الآلاف لرؤيته في الملعب الضخم الذي امتلأ عن آخره، وجميعهم يرددون معه كلمات أغانيه التي يحفظونها عن ظهر قلب، وفي النهاية يقول “رودريغيز” لجمهوره وهو على خشبة المسرح: شكرا لكم، لقد أحييتموني من جديد.

يعودون إلى بلدهم ويروون هذا الخيال لمعارفهم فهل من مصدق؟ قدم “رودريغيز” بعد ذلك عدة حفلات أعاد أثناءها هويته كموسيقي، لكن يا ترى ماذا يفعل اليوم (زمن تصوير الفيلم) في عام 2012؟

ترد ابنته على هذا السؤال بأنه يعمل في البناء كما هي العادة ليلبي احتياجاتهم، لا يزال متقشفا وفقيرا. ثم يقولون: لكنه أصبح مشهورا وهناك نسخ من تسجيلاته الموسيقية. تجيب ابنته: لا يصلنا شيء، ربما هناك أناس آخرون أغنياء. ملمحة إلى أعمال القرصنة والمستفيدين.

مخرج فيلم “البحث عن رجل السكر” مالك بن جلول الذي توفي انتحارا بعد عام من نيله جائزة الأوسكار

 

“أنا حزين لموت الرجل الذي أحياني”.. بداية ونهاية

رغم إعادة الاعتبار له فإنه بقي غير مسموع في أمريكا ولم تتغير حاله، لكن إعادة اكتشافه من خلال هذا الفيلم التسجيلي تحديدا، حققت له بداية أخرى جديدة واعترافا جديد، وكأن الفيلم قد تنبأ بذلك لنفسه، أي أنه أتاح لـ”رودريغيز” الرواج أخيرا والشهرة الحقيقية في بلده أمريكا وفي العالم، لذلك قال “رودريغيز” عندما سمع بنبأ انتحار المخرج مالك بن جلول بعد عام من نيله جائزة الأوسكار: أنا حزين لموت الرجل الذي أحياني من جديد.

وكما غاب “رودريغيز” وحضر بموسيقاه في جنوب أفريقيا، فإن بن جلول بعد رحيله يحضر في ما تركه لنا في هذا الفيلم الذي يقول الكثير عن الدور الأساسي للموسيقى في التغيير، من خلال ما تختزنه من زخم وجداني وفكري، بل وحسي يخدم في خلق معايير جديدة على الدوام، فإذا افتقرت حركة تغيير لموسيقاها وأغنياتها الخاصة، فإنها ستخلقها أو تستحضرها كما فعل شعب جنوب أفريقيا عندما تشرّب أغاني “رودريغيز” الذي يجهلون من يكون.

كما يثبت لنا الفيلم أنه قد يكون للموسيقى والغناء دور يفوق أدوار الأحزاب السياسية في تأثيرها، وأنه من الوارد جدا أن يُقتل فنان لخطورة فنه، أو يُنحّى جانبا، أو يُهمّش بما يشبه القتل.