“البحر أمامكم”.. خيبة العودة من باريس إلى بيروت المثقلة بالهموم

د. أمــل الجمل

“الواحدة تروح تتعلم وتشتغل بالخارج علشان تُقش المصاري قش، لكن أنت ما عملتي فلوس، فليه سافرتِ؟”.

هكذا يسأل الخال بلهجته اللبنانية، بما يعني أن “الفتاة تسافر لتجمع الأموال جمعا”، فتنظر إليه باستياء الفتاة جيني ابنة أخته التي عادت للتو من رحلة عمل ودراسة فاشلة في باريس، تصمت جيني لحظة قبل أن تجيبه ببرود معجون بالتحدي “يمكن سافرت حتى لا أتعفن، المصاري مش كل شيء”.

ربما نجد أيضا وراء كلمات جيني -الشابة المتمردة رغم طباعها الهادئة- تفسيرا لأسباب انغماس الشباب في الرقص والحفلات الساهرة وشُرب المسكرات، وتعاطي المواد المخدرة في تلك المدينة، فهذا العفن والشعور بالاغتراب المُوحش تشي به لقطات فيلم “البحر أمامكم” بعد ذلك اللقاء العائلي المتوتر وبعده.

 

الفيلم هو الروائي الطويل الأول للمخرجة “إيلي داغر” تأليفا وإخراجا، وقد نافس على جائزة الكاميرا الذهبية ضمن برنامج نصف شهر المخرجين بمهرجان كان السينمائي الأخير، ثم عُرض بقسم “آفاق” بمهرجان كارلوفي فاري الخامس والخمسين.

الفيلم بكافة تفاصيله البعيدة عن أي افتعال، والموسومة بالبساطة والتلقائية والصدق؛ يُؤكد موهبة هذا المخرج اللبناني الذي حصد في وقت سابق السعفة الذهبية لأفضل فيلم قصير بمهرجان كان السينمائي قبل ست سنوات، ليكون أول مخرج عربي يفوز بتلك الجائزة، وهذا قبل أن يُتم عامه الثلاثين.

“العدو خلفكم والبحر أمامكم”.. هروب إلى الضفة الأخرى

يستمد فيلم “البحر أمامكم” عنوانه من الخطبة الشهيرة لطارق بن زياد الذي كان يحث بها جيشه على المخاطرة والجرأة قائلا “العدو خلفكم والبحر أمامكم”، وكأن المخرج المؤلف الشاب يقول إنه لا مفر من الهجرة والهروب من خراب تلك المدينة، ويُحرض على المخاطرة واجتياز البحر وعبوره إلى الضفة الأخرى.

جيني تمر أمام حمام سباحة خاوٍ في بيروت، وهو ما يدُلل على خراب هذه المدينة

 

يبدأ داغر فيلمه من ظلام الليل، من الطائرة ونظرة علوية على المدينة الغارقة في السواد الكالح، يزيد من بشاعتها سواد البحر بأمواجه المتقلبة. لقطة نراها بعيون البطلة اللبنانية الشابة جيني العائدة من رحلة اغتراب إلى اغتراب آخر أبشع، فهي عائدة من باريس مُحبطة مكتئبة بعد استسلامها للفشل الذي واجهته هناك، إذ لم تنجح في البقاء في أي عمل يُدرّ عليها دخلا، رغم أنها تنقلت بين عمل وآخر مثلما لم تنتظم في دراستها الجامعية، كما لم تنجح علاقاتها العاطفية هناك، فعادت بخفي حُنين.

يبدو من اللقاءات والعلاقات والتساؤلات الفضولية من الآخرين المحيطين بالفتاة -سواء الجيران أو الأصدقاء أو حتى أفراد العائلة- أن جيني كانت طموحة تتطلع لأفق مغاير، حيث كانت تتعامل بكبرياء وثقة، وربما بسخرية مع المحيطين بها، وهذا سيُضاعف من ألم الفشل ويُضخّم من آثاره، لأن عودتها ستكون بمثابة العودة إلى عالم الفاشلين الذين كانت تتكبر عليهم، هكذا يخبرها حبيبها الموسيقار الذي لم يغفر لها يوم تخلّت عنه وسافرت من أجل تحقيق حلمها في مدينة الحُب والجمال.

بيروت.. أقنعة السعادة الوهمية في مدينة محتضرة

تواجَه جيني بالشماتة والتشفي منها، لكن الأخطر أنها ستجد في انتظارها مدينة محتضرة تفتقد الرؤية، يُؤكد على ذلك ضبابية بعض اللقطات وكآبة الألوان المختارة، إنها مدينة كل ما فيها يُؤكد على الخراب والفشل، حيث يجد المُشاهد نفسه متورطا معها، فيعايش هذا الضياع واليأس اليومي للشباب والعائلات في المدينة التي تبدو وكأنها لم تعد فقط تعيش الموت، لكنها تنتظر تسونامي وشيكا جدا، فالظروف الاقتصادية والسياسية أكثر من سيئة، والجميع يشعر بالضياع حتى الكبار، فالأم ذاتها تعترف بذلك رغم ادعائها السعادة، ورغم ابتسامتها الجميلة التي تسقط كالقناع المزيف في لحظات الشرود والقلق على ابنتها، لكنها تفعل ذلك بأداء متوازن أكثر من رائع في صدقه.

البطلة جيني تُسيطر عليها كآبة ما يحدث في بلدها بيروت، وهو ما تعكسه الألون المختارة التي تعكس قتامة المشهد

 

شرع داغر في كتابة الفيلم عام 2015، وذلك من الواقع المرير الذي عاشه مثل أبناء بلده، لكن السيء لم يكن قد وقع آنذاك. حيث بدأ التصوير أواخر 2019، واستمر رغم حصار وتحديات كورونا، فخرج الفيلم السينمائي للنور عام 2021. لذلك سنشعر عبر لقطاته بمرارة أزمة اقتصادية ازدادت سوءا بفقدان الثقة في البنوك التي أعلنت لاحقا إفلاسها، مرورا بقمع الثورة، ثم جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت، ورغم أن هذين الحدثين الأخيرين غير موجودين بشكل مباشر، فإنهما محسوسان.

للدقة -وفعليا لا شيء يحدث طوال زمن الفيلم الذي يبلغ 115 دقيقة، ويقوم ببطولته منال عيسى ويارا أبو حيدر وربيع الزهر وروجيه عازار- لا شيء يتطور، فقط يُجسّد لنا المخرج الشاب حالة ذهنية لأبطاله، حيث ابتعادهم عن الواقع، بل انفصالهم عنه، فيجعلنا نعايش واقع المدينة من خلال أصوات الأخبار في الراديو أو التلفاز، أو الصور أو الكوابيس، أو في علاقات الناس ببعضهم، ومن تردي الظروف المادية لأسرة جيني (الممثلة منال عيسى)، تلك الفتاة التي تبدو نظراتها أقرب للإنسان الميت، فالأم حين تطلب مزيدا من مصروف البيت يُجيبها الزوج بأنه يجب عليها أن تقتصد وتقلل المصروفات.

كآبة العودة.. محاولات خانقة للتأقلم مع الواقع

تطلب جيني من أمها أن لا تخبر أحدا بعودتها بعد كل تلك السنوات في فرنسا، ربما لأنها تخشى المواجهة، تخشى إعادة إحياء روابط حياتها المألوفة التي أصبحت غريبة عنها بعد رحيلها إلى فرنسا، مع ذلك تسعى الأم لدمج الابنة في المجتمع، كمحاولة لإنقاذها من الاكتئاب الواضح عليها، فتستقبل بعض أقاربها أو جيرانها في البيت لتوريطها في حديث معهم، أو تصطحبها إلى مناسبة اجتماعية صاخبة.

جيني مع والدتها تُشاهدان التلفاز، وذلك في محاولة لإنقاذها من الاكتئاب الواضح عليها بعد عودتها إلى بيروت

 

تحكي لها عن أخيها الناجح والسعيد بحياته في دبي منذ عامين، تُريها صوره هناك، لكن هذا كله لن يساعد الابنة، بل سيكون بمثابة محاولة لإحكام الخناق عليها، وسيجعلها تنفجر، وتهرب إلى الشارع.

تضطر جيني أن تُساير أمها، تُحاول أن تتأقلم مع واقعها، نراها برفقة حبيبها الذي يعمل بوظيفة متواضعة نهارا، ويعزف الموسيقى ليلا. تقضي جيني معه وقتا مُبهجا، وكأنها معه قد عادت من الموت مجددا، فتضحك للمرة الأولى من قلبها، تحكي له عن حياتها في باريس، كما تستعيد أيامها الجميلة في بيروت، تسهر مع أصحابه، لكن سرعان ما يتحول كل هذا الاحتفال والصخب إلى كابوس آخر جديد، لأنه ليس احتفالا حقيقيا، إنه مجرد محاولة هروب عبثية.

رحلة الصيد.. جلسة أبوية تلامس ثنايا الروح

يُحاول الأب هو الآخر انتشال ابنته، لكن بحذر دون مضايقتها، فتستجيب له وتذهب معه في رحلة صيد، ويبدو من خلالها قوة علاقتها بأبيها. هنا تستعيد لحظات جميلة من الماضي، ثم في لحظة معينة يخطف منها البندقية ليصطاد طائرا ظهر فجأة، وحين تسأله لماذا لم يتركها تصطاده؟ يُخبرها أنها تُجيد التصويب على الأهداف الثابتة، لا المتحركة.

بطلة فيلم منال عيسى التي قامت بدور جيني مع مخرج الفيلم إيلي داغر أثناء مشاهدتهما ما تم تصويره من مشاهد

 

تأتي جملة الأب قصيرة مكثفة، لكنها بليغة مغروسة بمهارة وتلقائية شديدة ضمن متن المشهد، والأهم أنها تحمل معنى دلاليا قويا، فأحد أخطر مشاكل الابنة أنها تفتقد المرونة في التعامل مع الظروف المتغيرة، سواء في باريس أو في بيروت، ومن غير المستبعد أن جملة أبيها لاقت صدى في نفسها، ولاحقا ستضيئ لها بصيرتها، لتتخذ قراراها الحازم قرب نهاية الفيلم.

لذلك كله نتفهم -كمشاهدين- كيف ولماذا يتحول الحب إلى قيد يُكبل حريتها، إذ يرفض حبيبها أن تعود لاستكمال دراستها بالخارج، ويُسخف لها ذلك مؤكدا على أن عودتها للدراسة مضيعة للوقت، وكأنها تفعل شيئا ذا قيمة بهذا البلد المحطم، تصمت جيني، لا تعترض ظاهريا، لكنها تكون قد اتخذت قرارها بالهروب الذي لن يتحقق إلا بفعل القتل، فهل تنجح في الإفلات؟ وإن نجحت هل سيكون إفلاتا من الماضي، أم الحاضر، أم كليهما معا؟

إطار بيروت في الخلف.. مشهد مأساوي بديع على نغم حزين

يقول المخرج إيلي داغر بأحد حواراته: إن الفيلم مبني على مستويات سردية عدة، ويسلط الضوء على الحاضر المعلق الذي لم يستطع التحرر من رواسب ماض مثقل بالهموم والصعاب، إن الحاضر لم يستطع السير نحو مستقبل أفضل، لأن المستقبل في هذه البلاد المجبولة على الحروب والصراعات غير مضمون، ولم يقتصر الأمر على الحروب والصراعات، بل سوء الإدارة والسرقة والنهب لكل الموارد الطبيعية وغير الطبيعية التي أدت إلى استنزاف الدولة والوصول بها إلى الحضيض.

المخرج “إيلي داغر” الحاصلة على سعفة كان والمخرج الأفريقي عبد الرحمن سيسكو

 

تكتمل صورة المدينة بلقطات كابوسية تعيشها البطلة في البحر حيث ترى نفسها في المياه الملوثة بأوراق وغصون السعف وزجاجات المياه الفارغة، إلي جانب صورها القديمة تطفو أمام ناظريها، ثم يتكرر الكابوس قرب نهاية الفيلم، لكن حينئذ تُصبح جيني برفقة آخرين يتزايد عددهم كلما اتسع الإطار، بلقطة جميلة ومؤلمة إذ نراهم جميعا متشحين بالسواد، ويُعطون ظهرهم للمدينة في مشهد مأساوي بديع، يُذكرنا بشخصية حنظلة في رسومات الفنان الفلسطيني ناجي العلي، لكن الفارق أنهم لا يطلعون على بيروت، وإنما يُؤكد وضعهم على أنهم سيفرّون من تلك المدينة، وهى لقطات يصاحبها العزف على آلات وترية، خصوصا آلة الكمان بأنغامها الشجية الحزينة.

“البحر أمامكم”.. جوائز دعم وعروض في المحافل الكبرى

بقي أن نشير إلى أن فيلم “البحر أمامكم” شاركت قطر في إنتاجه مع لبنان وفرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة، وكان مشروع الفيلم قد حصد عددا من جوائز الدعم، منها أفضل فيلم في ورشة “فاينال كات” لمرحلة ما بعد الإنتاج بمهرجان البندقية السينمائي الدولي، كما فاز بمنحة من صندوق البحر الأحمر لدعم الأفلام، وغيرها من منح الدعم، وتقوم بتوزيعه في أنحاء الوطن العربي شركة “ماد سوليوشنز” التي يديرها الفنان ماهر دياب والمحلل السينمائي علاء كاركوتي.

الأهم أن فيلم “البحر أمامكم” كان من أبرز سبعة أفلام حملت اسم قطر ضمن شركات الإنتاج، وهذه الأفلام السبعة استقبلها مهرجان كارلوفي فاري الأخير بترحاب، حيث عُرض أغلبها في قسم “آفاق”، باستثناء فيلم “الامتحان” بتوقيع المخرج الكردي شوكت كوركي الذي شارك بالمسابقة الرسمية، ويدور حول مافيا الغش وتسريب الامتحانات والأجوبة للطلاب في عراق الزمن الحاضر.