البروفيسور والمجنون.. قاموس أوكسفورد الذي شارك في تدوينه مجنون

عبد الكريم قادري

صورة تجمع وليام مينور بجيمس موراي

تحتفظ الأفلام التاريخية لنفسها بالعديد من الخصائص والمُقومات التي تُسهل عملية توليد الجمال وزرعه في مكونات الفيلم وأجزائه، مما يضمن لها الحد الأدنى من الفنية التي يجب توفرها خدمة للسياق العام للعمل، خاصة أن السيرة الذاتية هي الأخرى جزء مهم من صناعة التاريخ أو إعادة اكتشافه وفقا لمُعطى موضوعي مُتبل بحيز ضيق من الخيال، كما أن هذا النمط السينمائي يمتلك شريحة واسعة من المريدين في جميع أصقاع العالم، وذلك للعديد من الأسباب أهمها أن الجمهور بات يهرب من الواقع الذي يعيش فيه -تجسده الأنماط السينمائية الأخرى- ويتجه إلى أفلام اللاواقع أو التاريخية، والذي يرى من خلالها الجذور أو ما صنعه الأجداد والأقطاب والأعلام كنوع من لعنة الحاضر والبكاء على الماضي.

وعليه بات إنتاج الأفلام التاريخية حاضرا بقوة كل سنة، ويُسيطر على حصة كبيرة من صناعة السينما العالمية وهوليود بشكل خاص، وذلك بحكم مزاوجة الأخيرة بين ما هو فني وتجاري في الوقت نفسه، للحفاظ على الاستمرارية وبقاء النوع.

من هنا جاء فيلم “البروفيسور والمجنون” (2019) للمخرج فارهاد صافينيا الذي تدور وقائعه في نهاية القرن التاسع عشر تماشيا وهذا النمط، أي فيلم تاريخي يُعيد اكتشاف وإحياء أحداث تدوين قاموس اللغة الإنجليزية، والأحداث التي صاحبت هذه الحالة.

 

من الشفوية المتوارثة إلى التدوين

يتمحور الفيلم حول شخصية الرجل العصامي “جيمس موراي” الذي تستنجد به جامعة أوكسفورد من أجل تجميع الكلمات المتباينة للطبعة الأولى من قاموس أوكسفورد الإنجليزي خلال منتصف القرن التاسع عشر، وهذا بعد أن عجز أساتذة الجامعة -رغم مكانتهم العلمية ورغم محاولاتهم العديدة- عن إنجاز هذا المشروع الأكاديمي الهام، وعليه تم الاتفاق مع جيمس موراي الذي لا يملك أي شهادة جامعية، لكن في المقابل هو خبير ألسن ويعرف معظم لغات ولهجات العالم.

وخلال المقابلة معهم تم اختباره، إذ نجح موراي في هذا الاختبار، وعَرَض عليهم خطة عمله والمدة التي يستغرقها لإنجازه، ومن بين اقتراحاته أن يرسل إعلانا في كل المقاطعات والمستعمرات الناطقة بالإنجليزية من أجل مساعدته في الوصول إلى أصول الكلمات وتطورها عبر التاريخ، وبعد فترة بدأت تصله الرسائل تباعا، أهمها وأبرزها من الدكتور وليام مينور (أدى الدور شين بن) الذي قدّم لهم أكثر من عشرة آلاف إدخال وكلمة في اللغة الإنجليزية.

الغريب في الأمر أن الدكتور مينور مصاب بالجنون، وقد أُدخل مصحّ برودمور العقلي الجنائي بعد أن ارتكب جريمة قتل بسبب جنون الارتياب، وقد كانت رسائل واقتراحات مينور بمثابة قارب النجاة الذي أنقذ موراي الذي وجد نفسه بحاجة إلى الكثير من الإمكانيات والمتطوعين، وهذا ما لم توفره الجامعة التي تنصلت من بعض التزاماتها، ناهيك عن عقبات البحث والتنقيب، وضغط الأسرة المستمر بحكم غيابه المستمر عنهم، والتركيز على هذا القاموس الذي سيكون القاموس الأول في اللغة الإنجليزية، إذ سيضمن للغة الانتقال من الشفوية المتوارثة إلى التأسيس المحكم والتدوين.

الدكتور مينور مصاب بالجنون، وقد أُدخل مصحّ برودمور العقلي الجنائي بعد أن ارتكب جريمة قتل بسبب جنون الارتياب

الظلّ والنور.. تضاد يولد الجمال

تُبرر الأفلام التاريخية للمخرجين اللعب المفرط بخاصيات الإضاءة التي يخلقها الظلّ والنور، بحكم وجود مُبرر سياقي لهذه الوفرة، مما يُوسع من هامش المناورة والتمكين لهذين العنصرين المُولدين للجمال عن طريق التضاد، وهذا ما استغله المخرج في فيلم “البروفيسور والمجنون”، وجعل من الظلّ والنور معادلة جمالية قوية في الفيلم خلق منها لوحات تشكيلية مستمدة بشكل واضح من أشهر اللوحات الفنية التي استعمل فيها الفحم. حيث يمكن اكتشاف هذا بوضوح من خلال حبس بعض المشاهد في أزمنة مختلفة من الفيلم، إذ يمكن صناعة لوحات فنية فوتوغرافية منها، من بينها مثلا صور الشارع ليلا، حيث إضاءة الشارع الخافتة، والحجر المصقول الموزع على الطريق، والعمارات المتداخلة والشوارع المتعرجة.

جاء هذا المشهد من خلال مطاردة مينور للشخص الذي ظن بأنه يريد به السوء لجنونه، بالإضافة إلى العديد من المشاهد الداخلية التي خلقت نوعا من الدفء والأُنس عن طريق النور المنعكس من النوافذ، أو المتسرب عن طريق الزجاج، أو الذي يولد عن طريق الشمع، حيث يعكس نصف الوجه مثلا -خاصة في اللقطات المقربة جدا- ما يبرز خبايا النفس والاهتمام والحزن والخيبة والترقب والندم والحب، إذ تنعكس بشكل واضح على قسمات الوجه وتعابير العين.

ليس الظلّ والنور وحدهما من صنعا جمال الفيلم، بل هناك العديد من العناصر الأخرى التي استطاع المخرج عكسها وتجسيدها في الفيلم، وهذا من الناحية البصرية، وهي محاكاة بيئة القرن التاسع عشر عن طريق العمران، وقاعة المحكمة والسجن والجامعة والأندية وربطات العنق والديكورات الداخلية وبعض الشوارع، بالإضافة إلى الألبسة، حيث تحسّ بأن جهدا واضحا يتجسيد في تفاصيل هذه الحقبة، وذلك لجعل المتلقي يقف على الحقيقة التاريخية للموضوع العام للفيلم، وهو رواية أحداث وتفاصيل عملية تدوين وخلق قاموس اللغة الإنجليزية وفق السياقات التاريخية الحقيقية.

أدى شون بين دور الدكتور وليام مينور، وهي شخصية مركبة ومعقدة جدا، تعتمد بالأساس على الجانب النفسي بشكل كبير

الجنون ومراتب العبقرية

قدّم ميل غيبسون دور “جيمس موراي” بكل أريحية، وهي شخصية تعكس الرجل الناضج والباحث والمحب للغة والوفيّ لعمله، وفي الوقت نفسه الصادق مع عائلته ومساعديه وكل من حوله، بمعنى أن هذه الشخصية لا لبس فيها، وقد أداها غيبسون بدون تعب واضح، لكن في الوقت نفسه مقنع.

على العكس من دور شون بين الذي أدى دور الدكتور وليام مينور، وهي شخصية مركبة ومعقدة جدا، تعتمد بالأساس على الجانب النفسي بشكل كبير، ويأتي بعدها الجانب الفيزيائي. وشون هو من أكثر الممثلين الملتزمين الذين يعشقون الأدوار المركبة والمميزة وغير المكررة، لهذا نجده في هذا الفيلم متقنا لدوره إلى حد الإقناع.

أدى شون العديد من المستويات التمثيلية في شخص واحد، إذ رأيناه ضابطا في الجيش الأمريكي، وطبيبا ومجنونا وباحثا وعاشقا ونادما وشخصا متخشبا وإنسانيا ومتقلبا، كل هذه الحالات أتت حسب سياق الفيلم، لكنك تحسّ بتلك الطاقة غير العادية في كل دور يؤديه، وهو ما يُفصح عن حب هذا الممثل لعمله وتقديسه له، حيث لا نجد أي تعارض أو زلات في هذه الإحالات، وهذا ما خلق تكاملا واضحا بينه وبين ميل غيبسون.

أُنصف وليام مينور الذي لعب دورا محوريا في هذا الكتاب رغم حالته الصحية المتدهورة

موازنة بين عالمين

تم الاعتماد في الفيلم على البناء الكلاسيكي المحض، حيث نجد عالمين موازيين واحد بطله جيمس موراي الذي يسعى لتقديم القاموس، حيث تم تقديمه وعرض قصته وتوفير حبكة وعقدة لهذا العالم، وهذا ما حدث بالضبط في العالم الثاني وبطله وليام مينور الذي كان يعمل ضابطا في الجيش الأمريكي، وكان قاسي القلب يُعاقب كل من يهرب من الخدمة بكيّ وجهه بوسم حديدي، ومن هنا سكنه جنون الارتياب، وأصبح يرى أن هناك من يتبعه ويحاول قتله، لهذا قتل شخصا بريئا، لكنه كفر على فعلته وقدّم راتبه الشهري لزوجة المغدور، ليدخل في قصة حب معها مليئة بالتفاصيل.

من هنا يقوم المخرج بخلق موازنة بين العالمين، وكل مرة ينقل جانبا منها عن طريق المزج، ليلتقي خط كل منها من خلال قاموس اللغة الإنجليزية وهي القصة الأشمل، وبعد نشر الجزء الأول من القاموس استطاعت الصحافة أن تعرف أن من اشترك في هذا القاموس هو شخص مجنون مُدان بجريمة قتل، وتجمع بين العالمين من خلال نقطة التقاء، من هنا تتصاعد الأحداث وتتكاثر، لينتهي الأمر بالإفراج عن المسجون وليام الذي تحسنت حالته الصحية ثم أُرسل إلى بلده أمريكا، أما جيمس الذي تم استبعاده من القاموس بعد هذه الفضيحة فقد تلقى الرعاية الكاملة من الملكة لهذا القاموس، لهذا تم تثبيته كمشرف دائم على القاموس.

فيلم "البروفيسور والمجنون" عمل ذكي نقل أحداث عملية التدوين الكبرى لأهم كتاب في اللغة الإنجليزية

وجبة تاريخية

فيلم “البروفيسور والمجنون” عمل ذكي نقل أحداث عملية التدوين الكبرى لأهم كتاب في اللغة الإنجليزية، وهي وجبة تاريخية كان قرّاء ومحبو هذه اللغة العالمية بحاجة إلى معرفتها، بحكم أن السينما باتت أكثر وأسهل الطرق التي تقدم المعلومة خاصة الموثقة تاريخيا.

نجح المخرج في تقديم هذا العمل دون التورط في التفاصيل الكثيرة، وفي الوقت نفسه أُنصف وليام مينور الذي لعب دورا محوريا في هذا الكتاب رغم حالته الصحية المتدهورة ووضعه العام الذي جاء وفق سياق حياتي معين، ليخرج بنتيجة بأن المرء لا يستطيع أن يطلق أحكاما شاملة ويقدم محاكمات أخلاقية دون معرفة التفاصيل والسياقات التي حدثت من خلالها.