“البريق”.. بين غموض “ستانلي كوبريك” وحميمية “ستيفن كينغ”

إسراء إمام

بينما يجلس جاك تورانس الصغير هو وإخوته وأبوه وأمه على طاولة الطعام، وبعدما كان أبوه شبه غاف، يستفيق العجوز فجأة بعينين متقدتين بالغُل والمناكدة، ويفتح فمه ليتساءل عن شيء يخص القهوة، فيتذكر جاك جيدا أنه تحدث عن شيء ما يخص القهوة، لكنه يتذكر أيضا أنه بمجرد محاولة والدته التفوه لكي تجيبه، انهال عليها العجوز بحركة من عصاه على فمها، وبينما كانت تنزف ضربها مرة أخرى على رأسها فشق فروة رأسها، وبعدما انهارت على الأرض دنا منها ورفع عصاه عليها مجددا وهو يقول “يحق لكِ الآن أيتها اللعينة أن تتناولي دواءك”، ثم هوى على دماغها ووجهها بسبع ضربات.

هكذا يتذكر جاك تورانس كيف تحولت عاطفته تجاه والده، وهكذا صاغ الروائي ستيفن كينغ العلاقة بين تورانس ووالده في روايته الشهيرة “البريق” (the shining)، تلك العلاقة المعقدة المؤلمة التي يضطر فيها ولد صغير إجبار نفسه على أن يبغض أبوه، لأنه لا يملك خيارا آخر أمام شعوره بالخزي إزاء تصرفه الشنيع مع أمه.

ولكن عاطفة تعلقه وحبه لأبيه ظلت بداخله تربكه، وتُحوله مع مرور الوقت إلى نسخة قميئة من الصورة التي كان والده عليها.

سار جاك على خطا والده فأدمن الكحول مثله تماما، ثم باتت تواتيه نوبات متباعدة من فقدان السيطرة على أعصابه، لدرجة أنه خلع كتف ابنه الصغير في واحدة منها، أما في الأخرى فقد تهكم بالضرب على طالب عنده، ومن ثم فقد عمله في التدريس.

ولهذا، كان جاك في رواية ستيفن ينادي زوجته ويقول “ويندي.. تعالي الآن أيتها اللعينة، لقد حان موعد دوائك” حينما كان يطاردها ليقتلها بعدما عادت نوبة من نوبات فقدانه لأعصابه، ولكن في صورة انفلات عقلي تام هذه المرة. كذلك كان يصرخ على ولده الصغير “داني” مرارا وتكرارا “لقد حان الآن موعد دوائك أيها الشيطان الصغير”.

صحيح أن الفندق الملعون هو من خرب عقل جاك بعدما تسلم فيه وظيفة حراسته الشتوية، مقيما فيه هو وعائلته حتى موعد افتتاحه في الصيف، لكن كيانات الفندق لم تفعل سوى استحضار التاريخ النفسي السيئ لـجاك والذي تعد فيه علاقته بوالده هي الشبح الأكثر رعبا، بما فيها رعبه الدائم من منظر أبيه المتنمر على طاولة الطعام وهو يمد عصاه ليهشم بها وجه أمه.

 

“بريق” كينغ و”بريق” كوبريك

أما في فيلم المخرج ستانلي كوبريك الذي أُنتج عام 1980 والمأخوذ عن الرواية نفسها ويحمل اسمها، لن تستمع إلى جاك وهو ينادي زوجته ولا ابنه بهذا الشكل، ستنصت إليه وهو ينذرهما ويتوعدهما بكلمات تقليدية عشوائية، منها جملة ارتجلها بطل الفيلم جاك نيكلسون حينما قال وكان قد نجح في تحطيم الباب الذي تحتمي زوجته خلفه “ويندي.. إنه جوني”، في إشارة لواقعة تخص المطرب جوني كاش هو وفرقته.

جاك تورانس في نسخة رواية ستيفن كينغ؛ كان متخم الذهن، دسم المخزون، يمكنك أن ترى من خلال عقله جعبة من الاضطرابات والذكريات والأفكار والمشاعر، أما جاك تورانس في فيلم كوبريك فيبدو غريبا، غامضا وفوضويا، سطحيا، لكنه لا يخلو من مسحة ريبة ملفتة.

وهذا هو بالضبط الفرق بين نسخة “البريق” في رواية ستيفن كينغ ونسخة “البريق” في فيلم ستانلي كوبريك، فالأولى تمتلك تفصيلا دراميا محكما، يتخلله شخصيات، كل منها تنطق بأدلة وجودها الإنسانية والنفسية، إنها ملحمة آدمية بحق.

وعلى العكس تماما يأتي فيلم “البريق” لدى ستانلي كوبريك متعمدا تجنب هذا العمق الأدبي الذي تتسم به الرواية، ومكثفا جهوده على الشق المقبض ومجسدا إياه بغرابة أطوار معتمة لا شروح فيها ولا تفاسير، ويمكننا أن نتكهن الآن بالسبب الذي دفع “ستيفن كينغ” لأن يشبّه فيلم كوبريك بأنه سيارة مذهلة، ولكن من دون محرك.

عندما اعتزم كوبريك اقتباس رواية كينغ، تطوع الأخير بكتابة السيناريو الملائم والملم بجوهر الرواية، بما لا يتنافى مع الطبيعة السينمائية للفيلم، ولكن كوبريك لم يستخدم سيناريو كينغ، وآثر أن ينتزع الطابع الأدبي للقصة. وبما أنه كان يحب فن الرعب، اختار أن يقدم تصورا سيرياليا مرعبا عن تلك الحكاية، ويجعل سر نبضها القاتم يتأتى من بساطتها إلى حد الهشاشة.

كينغ لم يحب الفيلم أبدا، والكثيرون ممن قرؤوا الرواية التي تمت ترجمتها إلى مختلف اللغات ومنها العربية، باتوا يكرهون الفيلم أيضا على الرغم من حبهم له على مدار سنوات ماضية. ولا تتسرع عزيزي القارئ بالحكم عليهم واتهامهم بإثم المقارنة، فالأمر مربك للغاية، وإن قرأت الرواية التي ترجَمتها مؤخرا “إيمان حرز الله” عن دار “المحروسة”، ستعي تماما ما أتحدث عنه.

بعد قراءتي للرواية وإعادة مشاهدتي للفيلم، استغرقتُ وقتا كي أجيد الفصل وأفقه التعامل مع وجهة نظر كوبريك المجردة تلك، فبعد مشاهدة للفيلم عقب قراءة الرواية، يراودك شعور كما لو أن الفيلم مجرد مشهد واحد من مشاهد الرواية؛ جانب مختزل جدا من رواية “البريق” الكاملة.

لكنني في النهاية حسمت أمري، واستطعت أن أحب كل نسخة على حدة، وعلى الرغم من أنني كنت قبلا واقعة في غرام فيلم كوبريك الشهير، فإنني بعد قراءتي لأصله الأدبي أحببته حبا آخر، حبا يختلف عما كان من قبل، وكأنني بالكاد أبني معه علاقة ود وذكرى جديدة.

لكن هذا لا يعني أنني أزحت فيلم “كوبريك” تماما من خانة الاتهامات، وإن ما أقصده أنني ما زلت أراه أكبر من كل مواطن ضعفه. ولكي تكون الرؤية أكثر قربا لك عزيزي القارئ، دعنا نستعرض في هذا المقال أهم نقاط التباين بين الرواية والفيلم، ليس بغرض المقارنة، وإنما بهدف البحث خلف المعضلة التي ستشعر بها حتما يوما ما إذا قررت قراءة الرواية.

لم يكن "ستيفن كينغ" متوافقا أبدا مع ترشيح "جاك نيكلسون" للدور
لم يكن “ستيفن كينغ” متوافقا أبدا مع ترشيح “جاك نيكلسون” للدور

 

الفيلم والرواية المقتبس منها

في “فيلم” البريق، أنت ترى رب عائلة يذهب لتسلم وظيفته في فندق قديم ضخم، ويصطحب معه زوجته وابنه، لأن مهمته تتطلب إبقاء الفندق آمنا نظيفا طوال الشتاء، ولكن الأب يصيبه الجنون بسهولة، ويسعى بوحشية لقتل زوجته وابنه، ليكرر مأساة نظيره الذي تسلم الوظيفة نفسها في الشتاء الماضي وقام بقتل زوجته وابنتيه.. هكذا تروي القصة وقد تمركزت قوتها حول شر هذا الفندق، فهو المحرّض الأوحد والحتمي.

لكن في “رواية” البريق، أنت في وقت من الأوقات تتشكك إزاء مدى قدرة هذا الفندق على إيذاء كل الناس بنفس القدر، فماذا لو لم تكن لهذا الفندق سلطة إلا على من يعانون؟!

فإضافة لما ذكرته عن تاريخ جاك تورانس النفسي مع والده، نجده في الرواية متورطا أيضا مع واقعة ملتبسة تخص تلميذا عنده يُكِنّ له “جاك” مجموعة من المشاعر المتضاربة ما بين غيرة وشفقة، فنراه يغش ويُنهي وقت هذا الطالب مبكرا بدقائق عن موعده أثناء اختبارٍ للمناظرة بدافع متناقض، فمن جهة هو نوع من الرثاء على هذا الطالب لأنه يتلعثم أثناء الحديث، وفي الوقت نفسه هو انتقام من ارستقراطيته ومركز والده النافذ. هذه الحادثة مهمة أيضا لمعرفة جاك عن قرب وكشف وجهيه المتضادين من رقة بالغة، وقدرة سريعة في الوقت نفسه على الأذى.

“ويندي” زوجته أيضا، لديها في الرواية علاقة مشوّهة للغاية مع والدتها التي تنتقدها دوما وتلقي على كاهلها اللوم بخصوص كل شيء، مما أوجد في داخلها بالتراكم رهابا من كونها تليق بأي مسؤولية جادة، ودفعها أيضا لكي تشك في قدراتها كـأم، وبالتالى نما في قلبها شيء من الغيرة بسبب تعلق ابنها “داني” بوالده أكثر منها.

تم توظيف هذه المشاعر فيما بعد لتأجيج جنون جاك، وتدريج الخراب العقلي الذي سينتهي به للإذعان لرغبات كيانات الفندق، والعمل بنية جدية على مطاردة زوجته وابنه لقتلهما.

في الرواية، يصعب تصديق أن جاك تورانس سينوي في وقت ما التخلص من زوجته وابنه، فهو من البداية يحمل لهما الكثير من الحب، ويعمل من أجل إصلاح كافة أخطائه التي يدفعون ثمنها، ولهذا السبب يصف “ستيفن كينغ” روايته بأنها رواية عائلية في الأساس قبل أن تكون مرعبة. أما في فيلم “كوبريك” فعلى العكس تماما، فأنت لا تأمن جانب الأب قبل أن يحدث أي شيء، ويراودك شعور غريب بأنك تتوقع منه الأسوأ.

لم يكن "ستيفن كينغ" متوافقا أبدا مع ترشيح "جاك نيكلسون" للدور
لم يكن “ستيفن كينغ” متوافقا أبدا مع ترشيح “جاك نيكلسون” للدور

 

مهزلة تسكين الأدوار

لم يكن “ستيفن كينغ” متوافقا أبدا مع ترشيح “جاك نيكلسون” للدور، لأن ملامحه تميل بطبيعتها إلى تدوين انطباع أولي بعدم الأمان، ولهذا فإن “كينغ” كان يرغب بتغييره، وقد رشّح بالفعل ممثلين آخرين يمتلكون ملامح محايدة.

يمكننا بالطبع أن نتعاطف مع رغبة “كينغ” في الحفاظ على تفاصيل شخصيته الروائية، ولكننا لا يمكن أن ننكر ملاءمة “نيكلسون” لنسخة “جاك” التي أراد “كوبريك” تقديمها في صورتها المخبولة غريبة الأطوار.

أما “ويندي” فلن يسعنا تفهم اختيار “كوبريك” للممثلة “شيرلي دوفال” كي تلعب هذا الدور، فهي -بغض النظر عن كونها ممثلة جيدة- لم تظهر في الدور إلا كما وصفها “كينغ” مفرطة الانفعال لدرجة السذاجة والغباء، ولا يوجد ما يدفعنا هذه المرة لكي نجد عذرا لكوبريك بشأن هذا التصور عن “ويندي” فهو لا يطابق حتى خطته الممنهجة لتعزيز حالة الغربة والغرابة.

وبالمناسبة، لقد كنت أتحفظ على الصورة الحمقاء التي تظهر عليها شخصية “ويندي” قبل قراءتي للرواية، لدرجة أنني في مشاهدها الأولى كنت أشعر وكأنها تردد جمل الحوار كببغاءة بليدة الفهم.

جانب الديكور القيم للفندق، والذي كان لائقا بما فيه الكفاية لاستيعاب الأحداث
جانب الديكور القيم للفندق، والذي كان لائقا بما فيه الكفاية لاستيعاب الأحداث

 

نقاط تُحسب للفيلم

على الرغم من بعض التفاصيل التي ستظل من سقطات الفيلم، كحركة إصبع “داني” التي ترمز لموهبته الخاصة في قراءة الأفكار والمستقبل، فإن ثمة تفاصيل أخرى تحسب له، والتي وُفِق فيها للغاية حينما استقل بها عن نظيرتها في الرواية.

ومن ذلك مشهد لعب داني بدراجة صغيرة وهو يقطع بها أروقة الفندق والكاميرا تركض من خلفه، وكذلك فكرة موت شخصية “هللوران” الطاهي الذي يستغيث به داني حينما يُجن والده، فموته في الفيلم ساهم في زيادة الفزع والإحساس بالوحشة والقلق، على عكس وجوده حتى النهاية في الرواية إلى جانب “داني” وأمه. هذا إلى جانب تنفيذ كوبريك لمشاهد غرفة 217 في الرواية بشكل مختلف تماما عما هو في الفيلم، والحقيقة أن مشاهد “كوبريك” تفوقت على مخيلة “كينغ” في تلك الجزئية.

وعلى الرغم من أن كوبريك لجأ لحل بناء المتاهة الشجرية مضطرا ليستعيض بها عن الحيوانات الشجرية التي ستتحرك وتهاجم الأبطال في النهاية نظرا لفارق الكلفة، فإن هذا الخيار كان أكثر سحرا وغموضا من فكرة كينغ الأصلية بخصوص تلك الحيوانات.

ناهيك عن التفاصيل الأخرى التي تميز بها الفيلم وستظل عالقة أبد الدهر في مخيلتك، كتلك الافتتاحية الكئيبة التي تظهر فيها مشاهد الطريق المقفر للفندق بين الجبال من زاوية عليا على موسيقى شديدة الجنائزية والترقب.

وحركة الكاميرا الخاصة التي حرص عليها كوبريك في مشاهد كسر جاك للأبواب التي كانت تحتمي خلفها زوجته، لنرى الكاميرا تقف مع كل ضربة وأخرى من البلطة لخشب الباب، بشكل يوحي بثقلها وخطورة التلويحة الواحدة منها.

إضافة إلى الخيالات المتتالية التي كانت تراها “ويندي” بعدما استيقظت كيانات الفندق تماما وأصبحت مرئية، هكذا تباعا ودون أي تفسير أو تقديم لشخصية تلك الأشباح التي تقابلها أثناء ركضها مفزوعة باحثة عن ابنها.

هذا بالطبع إلى جانب الديكور القيم للفندق، والذي كان لائقا بما فيه الكفاية لاستيعاب الأحداث.