“البغل”.. ثمانيني يجتاز القِفار لتهريب المخدرات

كلينت إيستوود الرائع تُشاهد لأجله أي فيلم يحمل بصماته سواء أكان مخرجا أم ممثلا، فهو بعد سنوات يعود إلى الوقوف أمام الكاميرا وقد بات على مشارف التسعين، ما زال نحيفا، وما زالت نظرته عميقة معبّرة. إنه بطل الشاشة دون منازع، يسيطر عليها مهما تواجد أمامه من ممثلين، ويخترقها بحضوره، ويفرض على العين النظر إليه، فهو يجذبها فلا ترى غيره، حتى تلك العين التي تعشق التجول في أنحاء المشهد لالتقاط كل تفصيل فيه، فإنها تجد نفسها وقد تركزت على زاوية فيه، الزاوية التي يقف فيها كلينت إيستوود بطل فيلم “من أجل حفنة من الدولارات”.

إنه البطل الذي لا يُهزم والمحارب الشجاع، الكاوبوي الشرير عديم الرحمة والرجل الشهم منقذ المستضعفين والنساء، ها هو اليوم في دور جديد ما زال فيه شقيا، لكنه بات أكثر مرحا وتسامحا وظرافة، دور هو فيه أيضا أب فظيع وزوج فظيع، ورجل نادم مرتبك ومُعذَّب أمام تقصير أدركه متأخرا، متأمل في حياته وقد أوشكت على الانتهاء.

كلينت إيستوود من أساطير السينما سواء وقف أمام الكاميرا أو خلفها، ففي فيلمه الأخير “البغل” أو “ذا ميول” (The Mule)، والوصف ترجمة حرفية لمن ينقل بضائع، أو “الساعي” كساعي البريد الذي ينقل طرودا من مكان إلى مكان، لكنها هنا طرود من نوع آخر.

يعود كلينت إيستوود إلى التمثيل والإخراج معا، فهو منذ عام 2012 حيث أخرج فيلمه “فرصة جديدة” ولم يقف فيه أمام الكاميرا، ومنذ عام 2008 وفيلمه “غران تورينو” لم يكن مخرجا وممثلا معا، لكن شخصية إيرل ستون المثيرة أقنعته بالعودة.

 

البغل الثمانيني المُهرِّب

إيرل ستون رجل تجاوز الثمانين، فهو محارب قديم لكنه في وضع مقلق اليوم، إنه مفلس ووحيد، فقد أضاع كل شيء؛ شركته الصغيرة لزراعة وتسويق أزهار السوسن مرهونة، وكذلك بيته، فالإنترنت كسح كل شيء وبات سيّد التجارة، وكل شيء صار يمرّ عبره، والعجوز لا يعجبه هذا القادم الجديد، أفلس تدريجيا وهو رابح الجوائز لابتكاراته في صنع أزهار ملونة وموشّحة، أزهار جميلة أخذت كل حياته وأنسته العائلة.

العائلة؟ فطن لها عند المصيبة، لكن زوجته السابقة ديان ويست ناقمة عليه، وابنته إليسون إيستوود قاطعته منذ 12 عاما لأنه لم يحضر زواجها بسبب العمل، فهما رفضتا عودته على خلاف حفيدته الشابة التي تكنّ له حبا كبيرا. لكنه غادرهم وقبل عملا عُرض عليه بالصدفة ولا يتطلب منه الكثير، ما عليه -وهو الذي يحب قيادة السيارات وقطع المسافات الشاسعة نتيجة عمله السابق- سوى نقل حقيبة صغيرة برّا في سيارته.

لن يثير أي شبهات هذا العجوز بسيارته المتداعية، فالعمولة الكبيرة التي يحصل عليها من العصابة المكسيكية لتهريب المخدرات قادته لأن يصبح “البغل” الذي ينقل حمولات أكبر فأكبر “بكل براءة”، فحتى المحقق برادلي كوبر المنهمك بالبحث عن الملقب بـ”تاتا” (بابا بالإسبانية)، لم يشكّ بهذا الجديد في عالم العصابات.

من تكساس إلى شيكاغو يقود ستون سيارته مع حمولتها دون أن ينتبه له أحد، فهو يتخلص من المآزق بذكاء وهدوء. والفيلم بعيد من أن يكون مجرد فيلم مغامرات عادي أو فيلم طريق، إنه فيلم إنساني عن الحياة وإعادة النظر باختياراتنا، والندم الذي قد يأتي بعد فوات الأوان عن تصرفات مضت.

ستون يهرب من ملاحقة الشرطة ومن عتاب العائلة، وبهذه المسافات الطويلة التي يقطعها يُعيد النظر في حياته وعلاقاته مع العائلة، لكنه يتابع مسيرته مستمتعا بهذه الثروة، حيث يوزعها ليُشيع البهجة من حوله على أصدقائه، ولزواج حفيدته، ولفك الرهن، ولإعادة افتتاح ناديه المفضل للمحاربين القدماء.

 

رجل المواقف الصعبة

كلينت إيستوود يمنح كثافة وعمقا لأي دور يقوم به، فلا يمكن تخيل أحد آخر مكانه، فهو يبقى دائما في كادر المشهد، وفي هذا الفيلم يظلّ الرجل القوي، رجل المواقف الصعبة، الشجاع رغم عمره الطويل، فأين الشخصيات الأخرى من خبراته؟

في مشهد من الفيلم يخاطب إيرل ستون مساعد رئيس العصابة الشاب، ويقول له بحنان “يا صغير”، وحين يهاجمه ويهدده أشرس من في العصابة وأعنفهم ويحاولون تخويفه يقول بلا مبالاة “خضت حروبا، لن تنفع معي حركاتك هذه”، ويتابع طريقه دون أدنى اهتزاز ظاهري، لكنه يترك بكل ذكاء نظرة فيها شيء من قلق تعبر عيناه.. هذا لزوم الموقف حتى للشجعان.

شخصية ستون هنا تتفاعل معها وتتعلق بها من البداية، ساحرة بمواقفها الطريفة، بظرافتها، بمشيتها، بانفتاحها على معرفة ما يحيط بها، بعلاقتها مع الآخرين، حتى تلك السيئة مع العائلة، وهنا سر إبداع كلينت إيستوود في إضافته للشخصية.

الثمانيني “إيرل ستون” في نقاش حاد مع عائلته التي لطالما فضّل عمله وأصدقاءه عليها

العائلة.. بعد فوات الأوان

في العلاقة مع العائلة تتبدى نقطة ضعف ستون، وهو الذي فضّل دائما عمله وأصدقاءه عليها، لقد هنئ بالحياة ثم فجأة عند ضياع كل شيء فطن للعائلة. فهل فات الأوان؟

قيادة عائلته لم تكن بنفس سهولة قيادته لسيارته، فقد كان وهو يجوب الطرقات يفكر مسكونا بأخطاء ارتكبها في الماضي وبأخرى يرتكبها في الحاضر آملا بأن يُسامَح عليها في المستقبل، وكان هاجس المسامحة يسيطر عليه، فيخاطب نفسه “أنت أب فظيع، وزوج فظيع، لا تستحق المسامحة، هذه آخر مرة، ساعدني يارب”، ويتابع “أنا آسف على كل شيء”.

يُعرف ستون بأنه لم يتصرف كما ينبغي مع عائلته، ولكنه هنا يدرك أنهم ربما لن يسامحوه أبدا، “وهذه ضربة قاتلة له” كما يقول إيستوود في حديث عن الشخصية، ويتابع “نظن دائما بأن الوقت كله أمامنا، لكنه قد يكون لدينا وقد لا يكون”.

كانت هذه خشية البطل الأولى، ولذلك حين تخابره حفيدته للقول بأن الجدة على سرير الموت، ويقول لها “لا أستطيع حرف طريقي”، فالحمولة الأهم كانت بحوزته مستقرة في صندوق السيارة، وهو تحت المراقبة ولا يستطيع بالطبع الاعتراف بالسبب للحفيدة، لكنه في لحظة يقرر المغامرة بكل شيء من أجل العائلة، وذلك قبل أن يفوت الأوان تماما.

أمريكا.. لعنات العالم المعاصر

يرسم السيناريو الذي كتبه نيك شينك (وهو كاتب فيلم غران تورينو أيضا) بدقة وكثافة صورة لأمريكا اليوم، ولعصابات المخدرات المكسيكية أو الكارتل (كلمة لها معان عدة واتخذت في المكسيك وكولومبيا معنى محددا كتعبير عن الجريمة المنظّمة في مجال المخدرات)، وتعاملها وعيشها، قسوتها وعنفها مع نفسها ومع الآخرين، وتمتعها بالملذات.

كما يرسم شينك صورة لطبقتها الوسطى التي تعاني، ولهذه المناطق التي تحطّ عليها لعنات العالم المعاصر، فتغلَق مصانعها ويهجرها سكانها، لهؤلاء العجائز الذين ينهِكون أنفسهم في العمل وبين ليلة وضحاها يفقدون كل شيء، للعنصرية تجاه المكسيكيين والأفرو أمريكيين (الأمريكيين من أصول أفريقية)، وهذه الأشياء التي تختفي تدريجيا من حياتنا؛ البهجة البسيطة والنوادي والمحال التجارية الصغيرة، الناس الذين يتغيرون، وحتى العصابة نفسها تتغير وتصبح أكثر عنفا وتسلطا.

فالفيلم مناسبة لكلينت إيستوود ليبدي من خلال الشخصية نظرته إلى بلد لم يعد يعرفه.

فيلم بإيقاع متفاوت، فهو عصبي سريع أحيانا، ومتمهل أحيانا أخرى. فمثلا في مشاهد كتلك التي يقطع بها ستون صحراء تكساس بسيارته وهو يستمع للموسيقى، لقد كان أحدها من أمتع مشاهد الفيلم وأظرفها، فالحمولة كانت بمليوني دولار، ورئيس الكارتل طلب من مساعدَين له مراقبة ستون من بعيد فوضعا له ميكروفونا في سيارته، وهكذا اضطرا وهما يلاحقانه بسيارتهما إلى سماع شريط أغنيات كان يستمع لها ويرددها، ويرونها هم خارج العصر، لقد اغتاظوا وسخروا منه في البدء إلى أن خضعوا لسحرها شيئا فشيئا، فبدؤوا يتنغمون بها ضاحكين.

 

حنين إلى الماضي

فيلم مؤثر مبني على هذه الشخصية الظريفة المنفتحة على الآخرين وعلى كل جديد، لا نحكم عليها إلا بالحب، حتى إن المُشاهد من درجة تعاطفه معها يخشى عليها مع كل اقتراب للمحقق من وضع اليد على “البغل”، ويتمنى في قرارته ألا يقع في يدهم.

فيلم لا ينجو المرء معه من مسحة حزن وشعور بحنين إلى زمن مضى وإلى أيام لن تعود، وإلى كلينت إيستوود نفسه وهو ما زال بيننا عجوزا رائعا.