“الترنيمة البوهيمية”.. فيلم تصدر الأوسكار وحاكى أشهر نجم للروك في العالم

د. أمــل الجمل

حصل فيلم "الترنيمة البوهيمية" على أربع جوائز أوسكار

        ماما.. لقد قتلت للتو رجلاً

        وضعت المسدس على رأسه

        ضغطت على الزناد.. إنه ميت الآن

        ماما.. الحياة بدأت للتو

        والآن ذهبت وألقيت بها بعيداً..

الأبيات السابقة من أغنية “الترنيمة البوهيمية” (Bohemian Rhapsody) ويُمكن تأويلها رمزياً بأنها تعبير عن اكتشاف المؤلف لميوله الجنسية الشاذة، فقد قَتل الرجل بداخله مع الاعتراف بشعور بالذنب أو ارتباك الخواطر والأفكار بداخله وربما الأحاسيس أيضاً كما يبدو جليا من بقية أبيات الأغنية الأكثر شهرة بفرقة “كوين” الموسيقية، والتي صارت عنواناً للفيلم الذي يحمل رسمياً توقيع بريان سينغر. بينما في الواقع كان المخرج ديكستر فليتشر هو الذي أكمل تصويره وأتم مونتاجه، وقام ببطولته الممثل المصري الأمريكي رامي مالك الذي حصد عنه الأوسكار لأفضل ممثل في دور أول ضمن أربع جوائز أوسكار نالها فيلم “الترنيمة البوهيمية” أو “بوهيميان رابسودي”، وهي أفضل إنجاز للمونتاج، وأفضل إنجاز للمونتاج الصوتي، وأفضل إنجاز للمكساج الصوتي.

أما مؤلف الأغنية والشخصية الرئيسية في الفيلم فهو الموهبة الاستثنائية التي لا تمتثل للتقاليد الذي وصفه كُثر بأنه “رجل يمكنه امتلاك الجمهور في راحة يده”. إنه فاروق بولسارا (وهو من أصول فارسية) الذي اختار لنفسه اسما فنيا -حمله أيضاً في جواز سفره- هو فريدي ميركوري؛ مؤسس فرقة الروك البريطانية “كوين”، والتي تُعد إحدى الفرق الأكثر نجاحا في تاريخ موسيقى الروك. إنه المغني الرئيسي للفرقة ومصمم شعارها، مثلما عزف وكتب أغاني كثيرة للفرقة من أبرزها “الترنيمة البوهيمية” نفسها، و”نحن الأبطال” (We Are the Champions) التي أصبحت النشيد المُحبب للفرق الرياضية الكبيرة ولعشاقها من الجماهير، خصوصا في لحظات النصر والتتويج، إذ يهتف الجميع “نحن الأبطال يا صديقي، وسنواصل القتال حتى النهاية”.

كان فريدي ميركوري يمتلك موهبة عظيمة هائلة في الغناء، ويُعتبر من أهم الأصوات الموسيقية عبر العصور

فريدي.. الصوت المعجزة

كان فريدي يمتلك موهبة عظيمة هائلة في الغناء، ويُعتبر من أهم الأصوات الموسيقية عبر العصور، حتى إن الكثيرين انتقدوا مجلة رولينغ ستون الأمريكية عندما وضعت ميركوري في الترتيب الـ18 بقائمة أعظم المطربين في كل العصور، لكن الأهم أن صوته الساحر ظل محيراً للكثيرين، وإن كان فريدي نفسه أرجع قوة وتميز صوته إلى بروز أسنانه، مما منحه مساحة في تجويف الفم أفادته في الغناء وجعلت له صدى لا مثيل له.

ولأجل ذلك كان فريدي يتحمل الخجل والأذى النفسي من منظر أسنانه، وربما لذلك اخترع فكرة الشارب الكثّ كي يُواري ولو قليلاً بروز الأسنان الأمامية، وظل ينأى عن فكرة تقويمها أو إجراء جراحة تصويب لها، وذلك خشية أن يُؤثر ذلك على قوة صوته وأدائه.

ورغم وفاة ميركوري عام 1991 بسبب الإيدز، فإن معجبيه وعشاقه المتجددين لا يزالوا يُعبرون عن إعجابهم بصوته، وهو ما يتضح بقوة من عودة ارتفاع مشاهدات أغانيه على موقع يوتيوب -وكذلك أغانيه بحفل المساعدات الخيرية لصالح ضحايا المجاعة بأفريقيا “مساعدات حية” (Live aid) عام 1985- خصوصاً عقب بدء العرض الجماهيري لفيلم “بوهيميان رابسودي” الذي تُوج بالعديد من الجوائز أهمها بافتا وغولدن غلوب وأخيراً أوسكار.

ولا يزال ذلك الصوت الأسطوري يخضع للدراسات، حتى إن فريقاً من الباحثين في علوم الصوت من النمسا والسويد والتشيك لجؤا إلى التسجيلات الأرشيفية -ليس فقط لأغانيه ولكن أيض لمحاضرة له وست مقابلات حوارية معه- لمحاولة معرفة الخصائص التي ينفرد بها الصوت الرائع للمغني الشهير، وذلك في محاولة للتحقق من الشائعات القائلة إن فريدي كان يتمتع بمجال صوتي أسطوري يعادل أربعة أوكتافات كاملة (طبقات صوتية)، لكنهم لم ينجحوا في التحقق من ذلك قائلين “لا نستطيع النفي أو الإثبات”، وإن كانوا قد أثبتوا أن صوته المميز جدا كان “باريتون” (وتعني في اللغة الإغريقية “عميق”، وتعني في الموسيقى أن صوته يحتل نطاقاً في المجال الصوتي بين باس وتينور)، وأثبت العلماء أن صوت ميركوري الفائق لم يكن تينوراً، وأنه كان يتحكم في صوته بمهارة بالغة، وكان موهوباً بما يكفي للقفز من نطاق قاعدته ليُغنّي كمغني تينور.  

 

“الترنيمة البوهيمية”.. هجوم النقاد

حقق فيلم “الترنيمة البوهيمية” إيرادات مُبهرة تكاد تقترب من حاجز الـ900 مليون دولار، وذلك بميزانية إنتاج تُقدر بنحو 52 مليون دولار فقط، وكان الفيلم الوحيد من أفضل 15 فيلماً الأعلى بشباك التذاكر في جميع أنحاء العالم عام 2018 الذي تقل ميزانيته عن 100 مليون دولار.

لكن منذ صدوره لم يلق فيلم “الترنيمة البوهيمية” ترحيب النقاد، بل هاجمه كثير منهم واعتبروه شريطا سينمائيا سطحيا وتقليديا ونمطيا، وأن صُناع الفيلم اختاروا “طُرق السرد الآمنة المحافظة” والأكثر اعتيادية لسرد قصة حياته التي هي أبعد ما تكون عن المعتاد، وأنهم قدموا سيناريو لم يسبر أغوار شخصية فريدي ميركوري، مُرجعين ذلك الضعف إلى خيارات الشركة المنتجة فوكس القرن العشرين، وهم في ذلك أيضاً يحيلون أسباب الضعف والسطحية إلى تخلي الشركة المنتجة عن بعض أفراد الفريق مثل المرشح الأول للقيام بدور البطولة الممثل البريطاني الكوميدي ساشا بارون كوهين الذي كان متحمساً للدور منذ حوالي عقد من الزمان.

كذلك تم استبعاد آخرين من الفريق لاحقاً، منهم كاتب السيناريو بيتر مورغان، وأخيراً مخرج العمل بريان سينغر الذي قِيل إنه طُرد بعد ثلاثة أشهر من التصوير، واختلفت الشائعات بشأن أسباب طرده، فالبعض أرجعها لمزاعم عن وقائع تحرش تورط فيها، وآخرون أرجعوها لاعتراض الشركة على أفكاره في تنفيذ الفيلم، وفريق ثالث تحدث عن عدم التزام سينغر بمواعيد التصوير وغيابه أكثر من مرة لدرجة أن مدير التصوير نيوتن توماس سيغل اضطر لإخراج وتصوير عدد من المشاهد بنفسه، إضافة إلى سوء معاملة سينغر للممثل رامي مالك والتشاجر معه وإلقاء أشياء عليه مما جعل رامي يتقدم بشكوى ضده، فقررت الشركة المنتجة استبعاد سينغر واختيار المخرج والممثل ديكستر فليتشر ليستكمل التصوير ومرحلة المونتاج، لكن لم يوضع اسمه كمخرج على التترات وإنما كمنتج منفذ، لأن نقابة المخرجين الأمريكيين رفضت إدراج اسمه كمخرج، معتبرة أن الفيلم يحمل توقيع سينغر بمفرده، بينما رُفع اسم بريان سينغر من الإنتاج.

 

الخطة الأولى.. فيلم فضائحي

أما فكرة فيلم ساشا بارون كوهين -الذي لم يخرج للنور- فبدأت من السيناريست بيتر مورغان الذي نقرأ اسمه على الفيلم المعروض حاليا كشريك في القصة فقط، والذي بدأ العمل على السيناريو عام 2010 بالكتابة عن فرقة “كوين” ورحلة صعودها، وحتى أداءها الأسطوري بحفل “لايف إيد” (Live Aid) عام 1985.

وأثناء ذلك كان ساشا -بعد أن اقترح فكرة الفيلم على اثنين من المخرجين- قد استقر على اختياره الثالث وهو المخرج ستيفن فريرز صاحب أفلام “ذا كوين” و”ذا تاج”، والذي جذبه مشروع الفيلم عن سيرة فريدي ميركوري، لكن مشروع ساشا توقف، فلماذا؟

يمكن تفهم الأسباب وراء ذلك من تصريحات ستيفن فريرز بأن “رؤية كوهين كانت صريحة وصحيحة لسيرة وروح شخصية فريدي ميركوري، فقد أراد ساشا أن يصنع فيلماً شائنًا وفاضحاً للغاية، فيلما فضائحياً بمقاييس الشذوذ الجنسي عند ميركوري، ومن حيث مشاهد العُري التي لا حدود لها، لقد أحب ساشا كل ذلك، وأعتقد أن فريدي كان سيوافق على ذلك أيضاً”.

فهل حقاً كان ميركوري سيقبل بذلك؟ وهل غياب الفضائحية ومشاهد العُري غير المحدودة هو ما أغضب النقاد والصحفيين؟ وهل لذلك السبب اعتبروا الفيلم تقليدياً منحازاً للخيارات الآمنة المحافظة؟ هل توقعاتهم ورغباتهم في رؤية الجانب الذي كان ميركوري يحاول عدم التركيز عليه أو الخوض فيه هو ما جعلهم يعجزون عن فهم وإدراك القيمة الفنية والإنسانية لفيلم “الترنيمية البوهيمية”؟

صحيح أن ما خرج للعلن من كتب ومذكرات شخصية وقعها أفراد كانوا شديدي القرب من فريدي تقول إن حياته الشخصية كانت شديدة الصخب والإثارة وغارقة في الملذات التي تفوق الخيال، لدرجة أنه أحياناً أقام علاقات ليلية مع أشخاص لم يعرف أسماءهم، وأنه كان يجلب الأقزام ليحملوا صواني المخدرات فوق رؤسهم لتقديمها لضيوفه بالحفلات الضخمة المثيرة شديدة البذخ والثراء، وأنه كان يستحضر الراقصات العاريات لإمتاع ضيوفه.. لكن التساؤل الذي يطرح نفسه: هل الأكثر أهمية أن تتحدث عن إبداع هذا الفنان الذي ألهم الملايين وألهب حماسهم –ولا يزال- وتتأمل رحلته وكيف تحدى الصعاب، فيمكن أن يكون مصدر إلهام جديد للآخرين، أم تتحدث عن حياته الخاصة وتنقب عن التفاصيل الخصوصية التي تُدينه وتحط من شأنه وتأخذنا بعيدا عن إبداعه؟

وإذا كان الأمر كذلك، فماذا سيستفيد المشاهد من رؤية تلك المشاهد المبالغة في العُري؟ هل من أجل أن يفهم لماذا كان ميركوري يفعل ذلك، أم من أجل إدراك رغبته في التغطية على شعور الوحدة القاتل والاغتراب الذي كان يعانيه، ويبدو جليا بعدد من كلمات أغانيه، حتى إنه في بعضها يقول “أوجد لي أحداً لأحبه”؟ إذا كان هذا هو النتيجة التي كان يرغب في تحقيقها تصوّر شاسا وفريرز فهذا متحقق بالفيلم المُنجز فعلا.

أما إن كان الهدف هو اللعب على الإثارة بكافة أشكالها من أجل جذب جماهير وإيرادات الشباك، فالفيلم المعروض حاليا حقق إيرادات مذهلة لم يكن التصور المُجهض قادرا على تحقيقها، وإن كان الأمر مرجعه التضامن مع حقوق الشواذ بإثبات أن عدداً لا يُستهان به من أعظم الفنانين بالعالم كان ينتمي إليهم، فالمشاهد التي تضمنت شذوذا جنسيا في الفيلم كافية جداً ولا حاجة للمزيد. أما إن كان الأمر يرجع للحط من شأن ميركوري والخوض في حياته الجنسية، أو حتى لو كان الأمر مجرد شغف أو ربما هوس ممثل -مثل ساشا كوهين- بأداء أدوار جريئة ساخنة تجلبه إلى قلب الأضواء؛ فهذا أمر آخر.

فيلم "بوهيميان رابسودي" كتب له القصة والسيناريو أنتوني مكارتن، وهو مؤلف وكاتب سيناريو "نظرية كل شيء"، و"الساعة الأكثر حلكة"

تمرد على المجتمع والعصر

نعم، كان ميركوري رغم خجله صاخباً واستعراضياً بطريقة مبهرة وفاقعة أحياناً، لكن هذا كله كان جزءاً من تركيبته الشخصية، جزءاً لا يمكن فصله عن موهبته وعن تمرده على مجتمعه وعلى عصره. إنه عديم الامتثال للمجتمع وتقاليده وسلطاته، وهذا بدوره لا ينفصل عن تصرفه ورد فعله عند اكتشاف مرضه، إذ أخبر أصدقاءه بالفرقة مبكراً قائلاً “ليس لدي وقت لأكون ضحيتهم، ليس لدي وقت كي يتعاملوا معي كرجل مصاب بالإيدز. لا، أنا أقرر مَنْ أكون، سأكون ما ولدت لأكون عليه.. مُغنيا يعطي الناس ما يريدونه”.

وهذا كله بالمناسبة موجود بالفيلم لكن بشكل هامس ورقيق جداً أحياناً، وبصورة حادة انفعالية وفنية أيضاً مرات أخرى، إذ تجتمع المتناقضات التي تسم الشخصية الرئيسية في حلقة مشهدية دائرية لاهثة، تبدأ من حفل لايف إيد وتنتهي به، ويُساهم في ذلك بقوة اختيارات الأغاني، ومنها “بوهيميان رابسودي” بكل ما فيها من مشاعر الخوف والارتباك والرغبة في الحياة والاستعداد للرحيل، والكوابيس ثم مناداة المسيح ليخلصه من كوابيسه، إضافة لأغنيته المعبرة عن هواجس الحيرة والوحدة “أريد أن أتحرر” (I Want To Break Free)، وكذلك “نحن الأبطال يا صديقي”، و”سوف نجعلك ترقص روك”.

اللافت هنا قدرة السيناريو على توظيف الأغاني لصنع دراما ومواقف إنسانية تشي بمأزق البطل الوحيد، وذلك في لقطات متفرقة مشحونة بالانفعالات المكتومة، لكن مع تراكم اللقطات على مدار الفيلم يُصبح الأمر بالغ التأثير عاطفياً لمن يُريد أن يشاهد الفيلم كما هو، لكن مَنْ يبحث عن الفيلم الذي كان في خياله بكل ما فيه من توقعات عن لقطات لفضائح جنسية فربما لن يستطيع التجاوب مع الفيلم الذي قام ببطولته رامي مالك، والذي تلبس روح شخصية قائد فرقة “كوين” بمهارة فائقة.

فيلم “بوهيميان رابسودي” كتب له القصة والسيناريو أنتوني مكارتن، وهو مؤلف وكاتب سيناريو “نظرية كل شيء”، و”الساعة الأكثر حلكة”. يبلغ طول الفيلم 134 دقيقة، يتناول خلالها نحو 15 عاماً من حياة ميركوري، وأبرز المحطات الفنية والذروات الدرامية في حياته خصوصا في علاقته مع أعضاء فرقته “كوين، وذلك منذ لقائه بهم وتأسيسها ونجاحها ثم انفصاله عنها وعودته.

شارك في خروج الفيلم للنور ثلاث شخصيات كانت مقربة من فريدي ميركوري، فقد شارك جيم بيتش المدير الفني السابق للفرقة في إنتاج الفيلم كلٌ من العازفين وأعضاء الفرقة بريان ماي وكان سعيدا بأداء رامي مالك وتوقع حصوله على الأوسكار، وروجر تيلور. وكان الاثنان مستشارَين في فيلم “بوهيميان رابسودي”، وحتى لو كان غرض فوكس من إشراكهما تفادي المشاكل والحصول على حقوق عرض الأغاني بشكل قانوني، فإنه لا يمكن إنكار أنهما لعبا دورا في عدم تحقق فيلم ساشا كوهين، إذ لم يكونا يرغبان في التركيز على مرض فريدي أو حياته الجنسية، وكان رأيهما أنه لم يكن ليوافق على التركيز على تلك الأمور في الواقع أيضاً، وهو ما يتضح جلياً من الفيلم، خصوصاً في مشهدين أحدهما ذكرناه سابقاً، والآخر يتمثل في حصار الصحفيين ومطاردتهم له في المؤتمر الصحفي للفرقة، حيث لم يسأل أحدهم سؤالا عن الألبوم والموسيقي، وظلوا ينقبون في حياته الجنسية وتصرفاته بعيدا عن الفن، بينما ظل هو يرد عليهم بسخرية واستهزاء وهجوم عنيف بلغ حدود العجرفة في بعض اللحظات، لكنه في الوقت نفسه كان يكشف توتره الشديد وسطحية وابتذال الصحفيين ولهاثهم وراء الفرقعات والحكايات الصفراء التي من الممكن أن تدمر الفنان ولا تدفعه للأمام، وهو مشهد يُدين الصحافة بوضوح.

ورغم كل ما سبق من محاولات للخوض في حياة ميركوري -سواء في الواقع أو في الفيلم- فقد أثبت للعالم بأنّه واحد من أكثر مغني حقبة موسيقى الروك إبداعاً وموهبةً. تلك الموهبة المعجونة بالجسارة والجرأة المتوهجة، وهو ما يفسر لماذا نجح ميركوري في أن يبقي يقظاً حارساً لموهبته، وكيف ظل قادراً على حمايتها حتى آخر لحظة، وكيف تجاوز كل الأوقات الصعبة بما فيها الشذوذ والجنس المفرط غير الآمن، وتلك العلاقات التي أدت لإصابته بالإيدز، وكيف تجاوز تلك الخيانات التي مر بها خصوصا من اثنين من عشّاقه، فقد كانا يضربانه بعنف، وأحدهما خرج للصحف للتشهير به بشكل مشين وحقير، ولماذا لم يعلن ميركوري عن مكان مدفنه، وطلب من حبيبته الأبدية -أو حب حياته كما كان يناديها، ووفق عنوان الأغنية التي كتبها لها ماري أوستن- ألاّ تُعلن أبدا عن ذلك المكان ليظل سرياً لأنه يُريد أن يرقد في سلام.

فريدي ميركوري يؤكد التمرد بالقول "نحن أربعة أشخاص غريبو الأطوار، مختلفون عن المجتمع بشكل مستفز له، نحن منشقون متمردون"

منبوذون غريبو الأطوار

صحيح أن كاتب السيناريو أنتوني مكارتن لم يُركز على أعضاء الفرقة لأن الفيلم أساسا عن شخصية فريدي وصعوده وعلاقته بأعضاء الفرقة، لكن يُحسب له أنه لم يرسم شخصياتهم بشكل مثالي، وكتب لهم مشاهد تكشف بعض الأخطاء والخلافات الداخلية والمشاحنات والغيرة أحياناً، وإن كان مكارتن قد اختصر علاقة فريدي بعائلته إلى مشاهد قليلة لكنها لم تكن مبتورة أبداً، فقد وظفها السيناريست بحنكة وإحساس عالٍ يخدم البناء الدرامي المتصاعد للشخصية.

ففي أحد المشاهد مثلا نرى البطل الشاب اليافع يرد على والده بتحدٍ وإن كان مهذبا، لكنه يمنحنا الشعور القوي بأنهما ليسا على وفاق، خصوصا عبر نظرات العيون المتبادلة، فالأب يحتج على مساعي ابنه ليكون مغنيا، وعلى تصرفاته وذهابه للقاء أصدقائه بأحد البارات قائلاً “إن الحياة أفكار جيدة تقود إلى كلمات جيدة، ثم تنتهي بالأفعال الصالحة”، فيرد عليه فريدي “وماذا استفدت أنت من ذلك، ماذا حققت أنت؟”، فيصمت الأب ولا ينطق، بينما ينطلق الابن من باب البيت.

هنا بمشهد التمرد على سلطة الأب -وإن بدا سريعاً لكنه شديد الأهمية- لا يكتفي بتذكيرنا بمشهد الختام في مسرحية “بيت الدمية” للكاتب النرويجي هنريك إبسن عندما تتمرد نورا على بيت الزوجية وتقرر البحث عن ذاتها فتخرج وتصفع الباب خلفها. علاوة على ذلك فإن المشهد الفيلمي يصبّ في نفس المجرى الذي كان فريدي يحفره ليصنع مشروع حياته، فالأمر يتجاوز الأب إلى السلطة البطريركية السائدة في المجتمع بكل أشكالها، سواء في الموسيقى أو الغناء أو التصرفات أو العلاقات الجنسية، وهويته الإنسانية في السلم الاجتماعي، والملابس الغريبة اللافتة بقوة.

ما سبق يجعلنا نستدعي من الفيلم مشهد اللقاء الأول مع المدير الفني جون ريد عندما سأله “أخبرني، ما الذي يجعل من فرقة كوين مختلفة، وبأي درجة عن كل نجوم الروك الآخرين الذين قابلتهم؟”، فيجيبه فريدي ميركوري ببساطة تؤكد هذا التمرد “نحن أربعة أشخاص غريبو الأطوار، مختلفون عن المجتمع بشكل مستفز له، نحن منشقون متمردون، نحن عائلة لكننا لا ننتمي إلى بعضنا البعض. إننا نعزف لمجموعة من غريبي الأطوار والمنشقين أيضاً، إنهم منبوذون، وفي الجزء الخلفي من المسرح مباشرة، لكننا على يقين أنهم لا ينتمون لبعضهم البعض أيضا، أما نحن فننتمي إليهم”.

نجح رامي مالك الذي تمتع بجاذبية خاصة في تجسيد شخصية فاروق بولسارا أو فريدي ميركوري

البناء السردي.. الواقع والخيال

“افتح عيناك، وانظر لأعلى السماء وتأمل”.. تحوّل ذلك المقطع من أغنية “الترنيمة البوهيمية” إلى اللقطة البصرية الأولى التي يفتتح بها الفيلم، حيث نرى البطل قبيل افتتاح حفل “لايف إيد” ثم تتبعه الكاميرا من الخلف وهو ينهض، ثم أثناء سيره في الطريق حتى لحظات صعوده إلى خشبة المسرح، تماماً كأن اللقطة كناية عن رحلة الفيلم وبأن الكاميرا ستلاحقه وترصد آثاره من دون أن نرى ملامح وجهه، فقط نشعر بحيوية جسده النابض بالحياة والنشوة واستقبال النجاح. وعند بوابة المسرح المفتوح على آلاف المشاهدين والحشد الجماهيري المرعب، هنا يتم القطع مونتاجياً، ويعود الزمن عبر الفلاش باك (العودة إلى الماضي) ليسرد أهم محطات الصعود، وذلك قبل أن يختتم الثلث ساعة الأخيرة من الفيلم بالعودة إلى نقطة البداية لاستكمال تفاصيل ذلك الحفل الأسطوري.

من دون أن ننسى أن كاتب السيناريو قام بتكثيف بعض الأحداث وقدم تواريخ على أخرى، ولم يلتزم ببعض الوقائع تاريخياً، مما وجه انتقادات لاذعة للفيلم، أو بسبب عدد من المفارقات التاريخية مثل واقعة لقائه بأعضاء فرقة “سمايل”، أو تاريخ بعض الحفلات، أو معرفة ميركوري لمرضه بعد الحفل بعامين، وغيرها من التفاصيل غير المؤثرة في جوهر الدراما وروح الشخصية، إضافة إلى أخطاء لها علاقة بتفاصيل الإكسسوار وقطع الديكور غير الصحيح تاريخيا مثل الغيتار أو الطبول أو الهاتف أو سيارة سابقة لعصرها، أو ظهور البرج المركزي بميونخ بإحدى اللقطات والذي تم بناؤه فعليا عام 2002.

مع ذلك يمكن الرد على ملاحظة التكثيف التاريخي بأننا لسنا بصدد فيلم تسجيلي، ففيلم “بوهيميان رابسودي” روائي، صحيح أنه يستند إلى قصة حقيقية ومن المفترض أنه يسرد سيرة ذاتية لشخصية مطرب حقيقي، لكن الحقيقة هنا لا تُحتم على صناع الفيلم الالتزام بالوقائع والتسجيل الحرفي للتواريخ، فمن حقهم إعادة النظر في تصرفات ومواقف بعض الشخصيات وتقديم تفسير ووجهة نظر مغايرة، ومن حقهم اختيار زاوية محددة والتركيز عليها دون غيرها.

أما الدمج والتكثيف التاريخي للوقائع فأمر متعارف عليه في تاريخ السينما، ولا يعتبر مغالطة على الإطلاق طالما أنه يلتزم بجوهر وروح الشخصية، وقد كان أندريه تاركوفسيكي أسبق في ذلك عندما قدم فيلمه “أندريه روبلوف”، إذ اختار فترة تمتد لنحو مئة عام، ومزج كثيرا من الحوادث وقام بتكثيفها ودمجها في بعضها البعض، ليستخرج دلالات معينة، رغم أنه كان يتناول شخصية تاريخية وحقيقية أيضاً.

اختار المؤلف والمنتج الأمريكي من أصل مصري سام إسماعيل؛ رامي مالك لأداء شخصية "إليوت ألدرسون" بطل مسلسل "مستر روبوت"

رامي مالك.. التحدي الصعب

حتى مَنْ هاجموا الفيلم امتدحوا أداء رامي مالك، ووصفوه بأنه هو مَنْ أضفى الحيوية على الفيلم، لكن ربما لا يعلم الكثيرون أن الأمر استغرق 14 عاما فقط من المثابرة التي تحلى بها رامي ليحصل على دور يحلم به الكثيرون، ليثبت موهبته ويقتنص العديد من الجوائز، تقديراً لأدائه المميز الذي أعاد إحياء الشخصية مجدداً.

فقد بدأ رامي بتقديم أدوار ثانوية وهامشية منذ العام 2004، أغلبها يجسّد شخصية الإرهابي أو العربي، وعندما شعر مالك أنه سيُسجن في تلك الأدوار النمطية توقف ورفض المواصلة، إلى أن اختاره المؤلف والمنتج الأمريكي من أصل مصري سام إسماعيل لأداء شخصية “إليوت ألدرسون” بطل مسلسل “مستر روبوت” (Mr. Robot)، ونال عنه جائزة إيمي في عام 2016، ثم قدم دوراً لافتاً بفيلم “بابليون” 2018 الذي أنتج للمرة الأولى عام 1973، وهنا أعاد مالك تقديم الدور الذي سبق وقدمه داستين هوفمان، وهو تحد كبير، لكنه قال لم أكرر مشاهدة الفيلم لأنني كنت أتذكره جيدا، فقط أخذت أفكر ملياً وأبحث عن الجديد الذي يُمكن أن أضيفه وأقدمه.    

منذ علم باختياره لأداء شخصية ميركوري بدأ رامي يفكر كيف يُمكن أن يُتقن تقمص الشخصية، فكان خائفاً لكنه قرر أن يخوض التحدي. في البداية فكر في التدريب على الرقص، وأن يدربه أحدهم على فنون “الكوريوغرافي” (فن الرقص) أي فن حركة الجسد مع الموسيقى، وبدأ بالفعل قبل عام من التصوير يجلس مع مصمم الرقصات في لندن، لكنه اكتشف أن هذا ليس ما يريده، فقد أدرك أن ميركوري كان يؤدي هذا بشكل عفوي وتلقائي، كان له هيبة وتأثير لتلقائيته هذه حتى من خلفية المسرح، فقد كان يمتلك التفاتة جريئة عبقرية على المسرح، التفاتة يمكن الإحساس بها حتى من خلفية المسرح.

لذلك شاهد إدي ريدماين بفيلم “نظرية كل شيء”، وبحث على شخص يمكن أن يساعده في دراسة الحركات والإيماءات الجسدية لميركوري، فقام مع بولي بينيت مدربة الحركة بمشاهدة جميع فيديوهات الأغاني والحوارات لفريدي، وذلك ليشاهدوا ويتأملوا ويدرسوا كافة تصرفاته وحركات جسده.

كان التدريب يومياً، وكانوا يتأملون ميركوري عندما يتحرك للأمام كيف يُمسك بالسيجار، وعندما يمسك بالكأس، وكيف ومتى تبدأ الأناقة في الظهور بالطريقة التي يريدها، فقط من خلال إيماءات يده، فعلا ذلك سوياً مع كل مرحلة، ثم درس رامي مرحلة الشباب والشعر الطويل والأسنان والمكياج وكل صيحات السبعينيات، ومظاهر فناني موسيقى الروك وعلاقتها بفترة السبعينيات من خلال اللقطات الأرشيفية. ثم كانت مرحلة التدريب، فيقول إنه طُلب منه أن يقوم بالتدريب على الدور تارة على طريقة “ماري أنطوانيت”، وتارة كان يُقدم نسخة موليير من فريدي ميركوري، ثم يعترف رامي بأنه بعد فترة طويلة من التدريب بدأ يشعر بأن جسده بدأ يتجاوب، وبالفعل خطوة بعد خطوة بدأ يكتشف أنه يمكن أن يقوم بالدور، ثم بدأت مرحلة من البحث الكثير والمتواصل.

 

رامي.. أداء أقنع الجميع

الجميع متفق تقريباً على أن الأداء التمثيلي المتميز لرامي مالك يُعلي من شأن الفيلم وقيمته، رغم بنية رامي الجسدية الأقل مما يبدو عليه فريدي ميركوري، لكن مهارة مالك في تجسيد لحظات الصفاء والتمرد الهادئ والتنمر بالعيون والتحكم في الغضب، حتى في لحظات التناقض، وتجسيد هذه التركيبة المعقدة بكل ما تكتنفه من شحنة عاطفية رقيقة متوارية، لكن يمكن الإحساس بها.

وفي لحظات الهروب من المواجهة مع حبيبته وسط شعور بالخجل أو الذنب، وفي لحظات الغضب والضيق والغيرة، وفي لحظات الحب والإعجاب الشديد بها، وفي لحظات اكتشاف ميوله الجنسية المتمثلة في لمعة عين تقول الكثير، أو في كلمة مصحوبة بطرفة عين، وفي لقطة تشي بالارتباك الجسدي عند التلامس مع أحد المحيطين به، عن الإحساس بالاغتراب والوحدة بلا حدود في قصر فخم مرتفع الجدران، حتى في لقطات قدميه تسير وحيدة بين القطط.  

نجح رامي الذي تمتع بجاذبية خاصة في تجسيد شخصية فاروق بولسارا أو فريدي ميركوري، فصدقناه نحن المشاهدين، وأقنعنا أنه من أصول فارسية، إذ إن عائلته تنتمي للفرس القادمين من إيران، والذين عاشوا في زنجبار والهند قبل انتقالهم إلى بريطانيا.

بسهولة ويسر أقنعنا رامي بالتحول الشكلي في الشخصية وفق كل مرحلة عمرية، مثلما أقنعنا بالتحول في السلوك، إذ كان أداؤه التمثيلي يُناسب التبدلات العمرية وما يصاحبها من تأملاته الحزينة والهادئة في لحظات الفرح والبهجة والتحدي، فكان يشع من عينيه وهج الشغف والموهبة الفذة لذلك الفنان الأسطوري، لقد ارتدى رامي شخصية ميركوري بعفوية بالغة فيها روح فريدي، وساعده في ذلك النجاح إلى جانب السيناريو الذي قبض على جوهر وروح شخصية فريدي ميركوري؛ زوايا التصوير حتى الجانبي منها، وإضاءة العيون، كل ذلك كان له دور أساسي في إبراز أداء رامي وتتويجه بتلك الهالة التي يصعب نسيانها.