“التقارير حول سارة وسليم”.. زمن تجميل صورة المحتل

أسماء الغول

يلتقي الفلسطيني سليم (أديب الصفدي) الذي يسكن في القدس الشرقية سراً بالإسرائيلية سارة (سيفان كريتشنر) التي تدير أحد المقاهي في القدس الغربية

اعتدنا أن نلحظ فعاليات أو ممارسات تتضمن أنواعا من التطبيع الثقافي مع العدو الإسرائيلي المحتل، لكنها لعلها المرة الأولى التي نشهد فيها ممارسة تتجاوز فعل التطبيع بمراحل وتسعى من طرف فلسطيني إلى تجميل صورة من يسومه القهر والعذاب أمام العالم.

فقد نال فيلم “التقارير حول سارة وسليم” اهتماماً كبيراً بمجرد خروجه إلى صالات السينما العالمية العام الماضي، فهناك من اعتبر أنه فيلم مهم ومتقن خاصة أنه نال عددا من الجوائز منها جائزتا أفضل فيلم وأفضل ممثلة للفلسطينية ميساء عبد الهادي في المسابقة الرسمية للنسخة التاسعة والثلاثين من مهرجان ديربن السينمائي الدولي في جنوب أفريقيا.

وهناك من اعتبره مجرد فيلم آخر انحرف إلى درب التطبيع المباشر مع الاحتلال الإسرائيلي حيث استعان المخرج الفلسطيني مؤيد عليان بممثلين وممثلات إسرائيليين، وذلك على الرغم من أن إنتاجه كان بعيدا عن أي تمويل إسرائيلي؛ فهو إنتاج مشترك بين فلسطين وهولندا وألمانيا والمكسيك.

ودافع القائمون على الفيلم بأن الممثلين الإسرائيليين هم من المؤيدين للشعب الفلسطيني وحقوقه، لكن يبدو أن ذلك لم يكن ضمن معايير الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل التي دعت إلى نبذ الفيلم لـ”خرقه معايير مناهضة التطبيع”، وطلبت من الصالات والمهرجانات عدم عرضه، ومن طاقم العمل الاعتذار عمّا سمّته “مشروعاً تطبيعياً”.

وتستعرض الجزيرة الوثائقية في هذا المقال الفيلم بتوسع، وتطرح تساؤلاً مهماً عما إذا كانت الأزمة تنحصر فقط في مشاركة ممثلين من إسرائيل أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى محاولة تغيير صورة الجندي الإسرائيلي المحتل في الصورة السينمائية الفلسطينية ليبدو رجلاً عادياً؟

نال فيلم "التقارير حول سارة وسليم" اهتماماً كبيراً بمجرد خروجه إلى صالات السينما العالمية العام الماضي

سليم وسارة.. خيانة زوجية ووطنية

يلتقي الفلسطيني سليم (أديب الصفدي) الذي يسكن في القدس الشرقية سراً بالإسرائيلية سارة (سيفان كريتشنر) التي تدير أحد المقاهي في القدس الغربية، وقد اعتادا اللقاء خفية في سيارة عمل سليم التي يستخدمها لتوزيع المخبوزات؛ إذ يوقفها في منطقة خالية من المارة في وقت متأخر من الليل، وينتظر سارة إلى أن تصل فتترجل من سيارتها الصغيرة وتصعد إلى سيارته حيث يمارسان الجنس في مَشاهد أراد المخرج مؤيد عليان أن تكون عالمية المواصفات في زوايا التصوير وحدود الانفتاح، وقد نجح في ذلك أكثر من بقية فيلمه!

سارة الإسرائيلية وسليم الفلسطيني كل منهما متزوج من بيئته ومجتمعه، لكن هذا لم يمنع أن تجمع بينهما علاقة “حب ملتهبة” كان من الممكن أن تكون كأي خيانة زوجية، لولا أن هذا العشق بين فلسطيني وإسرائيلية.

لذلك من الصعب مشاهدة الفيلم ومآلات شخصياته بعيداً عن هذه الزاوية التي تجعل منه أكثر من كونه فيلماً اجتماعياً يتناول الخيانة بحجة أنه من الطبيعي أن يحدث ذلك في مدينة القدس التي يختلط فيها الفلسطينيون بالإسرائيليين، كما كرر المخرج القول في أكثر من مقابلة صحفية في سياق دفاعه عن فيلمه، بل الأمر متداخل بالسياسة وشائك إلى درجة لا يمكن التنصل منها.

 تستمر لقاءات سارة وسليم في أجواء من تراجع علاقة سارة بزوجها الضابط الإسرائيلي ديفيد (إيشال غولان)، وتعثر الأوضاع المالية في حياة سليم وزوجته بيسان (ميساء عبد الهادي)، فهما يسكنان في بيت ملحق بمنزل عائلة بيسان، لأن سليم لا يستطيع توفير كلفة منزل مستقل، مما جعله طول الوقت يشعر بأنه حِمْل ثقيل، في مشاهد متكررة وغير ضرورية حول تعثرهم المادي ودفع الفواتير وردود فعل سليم المبالغ فيها تجاه وضعه الاقتصادي المتردي ولوم زوجته على كل شيء.

وليس وحده سليم من يلوم بيسان، كذلك يفعل كاتب السيناريو رامي عليان شقيق المخرج حين جعل هناك حوارا دخيلا على الفيلم ودون مبرر درامي سوى تحميلها قدرا من المسؤولية عن خيانة زوجها لها، فحين يقبّلها سليم ويريد الاقتراب منها أكثر، ترفض بحجة خوفها على الحمل.

ومن الواضح من انتفاخ بطنها أنها تجاوزت الشهور الأولى التي تكون الأصعب، كما لا يظهر أنها تعاني أي علة، بل تذهب كل يوم إلى الجامعة حيث تكمل دراستها، لكن الشقيقين المخرج وكاتب السيناريو تعمدا إظهار تحفظ المرأة العربية وجهلها أمام انفتاح الأخرى “الأجنبية” كما قد يفعل أي فيلم تجاري يتحدث عن الخيانة الزوجية.

وفي واحدة من الليالي التي يلتقي بها الحبيبان، ترافق سارة سليم في مهمة توصيل إلى داخل الأراضي الفلسطينية، ثم يدخلان إلى حانة مزدحمة في مدينة بيت لحم، فيضايق أحد الشباب الفلسطينيين سارة بعد أن رفضت الرقص معه، وسرعان ما يكتشف أنها إسرائيلية بسبب قلادة ترتديها بعد أن كانت عرفت عن نفسها بأنها أوروبية.

وتزيد شكوك الشاب حين يظهر سليم الذي كان مشغولاً في مكالمة تلفونية مع زوجته، فيدافع عن سارة في مشهد معتاد ومكرر مئات المرات في السينما.. رجل تأخذه الحمية يتشاجر مع آخر ثمل في مرقص أو بار من أجل صديقة.

سارة الإسرائيلية وسليم الفلسطيني كل منهما متزوج من بيئته ومجتمعه، لكن هذا لم يمنع أن تجمع بينهما علاقة حب

تصاعد الأحداث

ما هي إلا أيام قليلة حتى تقوم الأجهزة الأمنية الفلسطينية باحتجاز سليم بسبب تقرير وصلهم بأنه يعمل بالدعارة مع إسرائيليات، وهنا يتدخل شقيق بيسان ويحاول توسيط شخصية نافذة هي “أبو إبراهيم” المسؤول في جهاز أمني فلسطيني فيضطر أن يغطي على سليم كي يساعد عائلة زوجته التي لجأت إليه، ويجبر سليم على كتابة تقرير يقول فيه إنه جنّد سارة لتعمل “جاسوسة” في إسرائيل لصالح الجانب الفلسطيني، وكأنه يقوم بعمل وطني شريف.

ويخرج سليم من السجن بضمان “أبو إبراهيم” إلى أن يقتحم الجيش الإسرائيلي مقر المخابرات الفلسطينية ويحصلوا على جميع التقارير ومن ضمنها هذا التقرير، وهنا يبدأ الجانب الإسرائيلي ملاحقة الجاسوسة التي جندها سليم.

وفي خضم هذا التصاعد الدرامي يعرف زوج سارة ديفيد بما حدث ويبدأ بعقابها، كما يعتقل الاحتلال الإسرائيلي سليم، وحتى هذه اللحظة بيسان لا تعرف السبب الحقيقي وراء ما يتعرض له زوجها، بل تركض لاهثة من هنا إلى هناك في سبيل البحث عن الحقيقة، وتتوجه إلى “أبو إبراهيم” في مقر جهازه الأمني، لكنها تجد أنه استشهد خلال الاجتياح، وصوره معلقة على الجدران وتحتها نعي باعتباره قائد كتيبة مسلحة.

وترزح سارة هي الأخرى تحت ضغط زوجها كي توقع على تقرير يقول إن سليم مخرب فلسطيني استغلها للحصول على معلومات، مما يعني أن سليم من الممكن أن يغيب خلف القضبان لسنوات طويلة وهو لم يفعل إلا أنه أقام علاقة مع زوجة ضابط إسرائيلي.

ويصل الصراع ذروته حين يلحق ديفيد زوجته إلى منزل بيسان، فقد توجهت إليه عقب شعورها بالذنب إثر تقريرها الكاذب، وأرادت أن تبحث معها عن حل، وهو ما رحبت به بيسان بعد أن تجاوزت صدمة الخيانة.

لكن ديفيد لا يتمالك غضبه ويبدأ بالصراخ على زوجته لأنها تريد تغيير شهادتها، وهنا يخرج الفلسطينيون من المنازل المجاورة ويلقون عليه الحجارة من كل صوب، فيطلق النار من مسدسه ليخيفهم، لكنه يصيب يد زوجته التي حاولت منعه، وفي ثوان تهرب من أمامه نازفة، ويركب هو سيارته ويخرج من المنطقة، وسرعان ما تحاول بيسان تطبيب يد غريمتها في مشهد مفتعل آخر.

أظهر الفيلم المرأة الفلسطينية ضعيفة وجاهلة وغير منفتحة والفلسطيني فقيرا وغاضبا ومتحرشا ومستغلا

صورة الفلسطيني وصورة الإسرائيلي

بعد أن أظهر الفيلم المرأة الفلسطينية ضعيفة وجاهلة وغير منفتحة “لدرجة تستغرب معها أن بيسان استطاعت أن تقود سيارة لتلحق محامية زوجها”، ثم ظهر الفلسطيني فقيرا وغاضبا ومتحرشا ومستغلا.

أما صورة الضابط الإسرائيلي الزوج ديفيد الذي يزداد حضوره في النصف الثاني من الفيلم فإنها تقدمه على أنه متفهم ومرفه ووسيم ومخلص لعمله ووطنه ومثقف. والمرة الوحيدة التي يطلق فيها الرصاص هذا الضابط الإسرائيلي “العظيم” كانت بسبب الحجارة التي تساقطت على سيارته من قبل هؤلاء العرب “المخربين” حين يلحق زوجته إلى بيت بيسان وسليم، لكن لا بأس فزوجته الإنسانة تلقت الرصاصات بيدها حتى لا يؤذي الفلسطينيين.

ويجعلك الفيلم الذي تبلغ مدته 127 دقيقة تتعاطف مع هذا الضابط الإسرائيلي المخلص لعمله والزوج المطعون إلى درجة تتمنى لو أنه يقتل أحدَهم بهذه الرصاصات ثم يتمكن بعدها من الهرب من هؤلاء “الهمج” الذين سرقوا زوجته منه وأربكوا مكانته الرفيعة في عمله وهددوا “وطنه”.

استعان المخرج الفلسطيني مؤيد عليان بممثلين وممثلات إسرائيليين

مغالطات متعمدة

أراد المخرج الذي يقيم في القدس بكل هذه التفاصيل المقصودة درامياً أن يزيد من عولمة الحكاية والسيناريو، وسعى إلى ذلك مهما كلفه الهدف حتى لو تعمد تمرير مغالطات للوقائع السياسية على الأرض.

وقد نجح بالفعل بأن يقدم أفضل وصفة للمُشاهد الغربي، فإضافة إلى أن الفيلم يتحدث في موضوع مثير كعلاقة حميمية بين فلسطيني وإسرائيلية، فهو أيضاً يريد أن يقدم عناصر التشويق كاملة، بأن يجعل الطرف الفلسطيني يعيش في أجواء من الوطنية والمقاومة والاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي ليكون هذا الظرف مبرراً لمزيد من رفض العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلية.

لكن عليان زيّف الحقائق بأن جعل هذا الاشتباك قائما بين الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية والاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من التنسيق الأمني المتواصل على قدم وساق بين الجهتين منذ سنين. فاقتحام الجيش الإسرائيلي لمقر المخابرات، والحصول على التقرير الذي كتبه سليم ما هو إلا محض خيال ليس له علاقة بالواقع الذي يستدعيه المخرج طوال الوقت في مقابلاته الصحفية لتبرير قصة فيلمه، فإسرائيل لا حاجة لها إلى اقتحام أي مقر لتحصل على تقرير أمني لدى أجهزة السلطة، فوفقاً للتعهدات السياسية والأمنية الملحقة باتفاقية أوسلو، فإنها تحصل على ما تريد بشكل منتظم وقانوني.

وتبعاً لهذا السياق أيضاً نرى شخصية “أبو ابراهيم” مسؤول الجهاز الأمني في السلطة بالضفة الغربية الذي تدخل لصالح سليم كي يطلق سراحه واستشهد لاحقاً في الاجتياح، فهو شخصية خارج سياقها الحقيقي، ومن الغريب أن ممثلا قديرا كالفلسطيني كامل باشا أدى هذا الدور غير القابل للتصديق والذي يحاول صُناع الفيلم من خلاله تبرير الحالة الوطنية المحيطة بسليم، فأبسط عملية بحث في محرك جوجل على شبكة الإنترنت تبين دور مسؤولي هذه الأجهزة في التنسيق الأمني مع الاحتلال وعلاقتهم العلنية مع قادته.

وهذا يطرح تساؤلا مهما عن المدى الأخلاقي الذي قد يصل إليه المخرج في قلب الحقائق لتكتمل وصفته التي من المفترض أن يتناولها المتفرج الغربي سعيداً، ويصفق عقبها بحرارة دون أن يعرف الحقيقة، وهو ما حدث بالفعل في صالة سينما “أيه بي سي” بمدينة تولوز، حيث عُرض الفيلم ضمن مهرجان “سينما فلسطين” في مارس/آذار الماضي وسط تفاعل كبير. لكن من يعرف طبيعية الصراع في فلسطين ودور السلطة الفلسطينية هناك يدرك كمية المغالطات في الفيلم التي كانت محل سخرية ونقد كبيرين عند بعض الحاضرين من الفلسطينيين والعرب.

الفيلم يتحدث في موضوع مثير كعلاقة حميمية بين فلسطيني وإسرائيلية

علاقات مستحيلة وحقائق مزيفة

إذن فرضية الفيلم قائمة على نوع من الغش، وكان من الممكن تصديقها لو أن ما حدث كان بين سليم والمقاومة، والتحدي بين الجيش الإسرائيلي وهذه المقاومة، لكن التنسيق الأمني العالي بين الاحتلال والسلطة يمنع نشاط حركات المقاومة في الضفة الغربية، بل إن المواطنين يُحاسبون ويُعتقلون من قبل أجهزة أمن السلطة بسبب علاقتهم بالمقاومة وليس بإسرائيل.

فالفيلم يحاول أن يصور أن علاقة الحب حدثت بين طرفين متناقضين في حالة حرب كما في الأفلام الرومانسية التي تتناول ثيمة النوم مع العدو أو الوقوع في حبه خلال الحرب العالمية الثانية كفيلم “مالينا” (Malèna-2000) وفيلم “ماندولين الكابتن كوريلّي” (Captain Corelli’s Mandolin-2001) وفيلم “متتالية فرنسية” (Suite Francaise-2014).

وهذا كان ممكناً لو أن زمن الفيلم في عصر سابق بالضفة الغربية وقت الاشتباك المباشر بين الاحتلال والمقاومة قبل السلطة الوطنية واتفاقيات سلام، فالظروف التي كتب فيها -على سبيل المثال- الشاعر سميح القاسم روايته الوحيدة “الصورة الأخيرة في الألبوم” (1978) التي تتناول قصة حب بين فلسطيني طالب علوم سياسية يعمل في مطعم بإسرائيل وبين زبونة هي ابنة جنرال إسرائيلي كانت ظروفاً تعبر عن حالة من الاشتباك الحقيقي، واستحالة هذه العلاقة في ظل إرث تاريخي خلفها من حقوق مسلوبة، لكن الآن من الصعب التعامل مع جسم السلطة والجيش الإسرائيلي وكأنهما دولتي ألمانيا وفرنسا في الحرب العالمية الثانية، فهذا محض تضليل.

 إن إتقان الصوت والصورة في الفيلم ودقة المونتاج، إضافة إلى مواقع التصوير الخلابة والمتطابقة مع المَشاهد دون أي هنات أو مبالغات، كلها تشي بأنه كان سيعتبر من أفضل الأفلام التي عُرضت في المهرجان، لولا التلميع الوقح لصورة الإسرائيلي، وتزييف الحقائق الذي ببساطة نسف مصداقية الفيلم وحكايته، إضافة إلى كثرة كليشيهات أفلام “الخيانة الزوجية” المتكررة التي تقدم بيسان كامرأة ضعيفة وعاجزة، وتظلم إمكانيات ممثلة متميزة كميساء عبد الهادي، مما يترك سؤالاً كبيراً عن الوعي المسبق لدى الممثل أو الممثلة قبل قبول هذا النوع من الأدوار.

عُرض الفيلم ضمن مهرجان "سينما فلسطين" في مارس/آذار الماضي وسط تفاعل كبير

خاتمة منقوصة

كانت لا تزال هناك فرصة للتكفير عن كل ما سبق في المشهد الأخير، وذلك حين تنتظر كل من العشيقة سارة والزوجة بيسان بدء جلسة محاكمة سليم أمام باب قاعة المحكمة، حيث يتقدم إليهما سليم منكسراً ومقيداً يمسكه من كل جانب حارس إسرائيلي، فبالكاد ينظر إلى المرأتين.

لكن هذا المشهد الأخير الذي كان من الممكن أن ينقذ الفيلم لا يحدث، بل تكون النهاية عند هذه النظرات، في كليشيه آخر وأخير.