الجوكر.. ملحمة سينمائية عن عالَم مجنون

خاص-الوثائقية

شخص يجلس أمام مرآة يرسم مهرجا ضاحكا على وجهه، ويُجبر شفتيه على الابتسام، وفي الوقت نفسه تنزل دمعة على خده وتشوه ملامح المهرج المرح، لترسم معالم شخصية تعبر عن تناقضات نفسية، ربما يعيشها كثيرون في هذا العالم، بين معاناة مكنونات النفس البشرية والظاهر الكاذب، في عالم بات يشجع على تزييف المشاعر وتعليب الأحاسيس ويحطم كل خصوصية ممكنة، ويضع الناس بين فكي كماشة، معادلتها تصنع الفرح والسعادة لنيل إعجاب الآخرين، أما معاناتك وهواجسك فدعها لنفسك.

وآرثر فيلك أو “جوكر”، هو تعبير عن تناقضات النفس البشرية، عن المعاناة في عالم التوحش والسرعة والتنمر، هو حالة مكثفة لكل ما تموج به الأنفس من أعطاب داخلية لا تجد من يعالجها، وإسقاط مركّز على الآلة الاستهلاكية التي تسحق الفرد، وهو ما يعبر عنه جوكر في شكواه للمساعدة النفسية: أشعر وكأنني غير موجود، الناس لا تراني.

ألم يصبح هذا الخوف موجودا عند الكثيرين؛ أنهم غير مرئيين؟ وهو ما يترجمه الهوس المبالغ فيه بلفت انتباه الآخرين والهرولة لنيل الإعجاب بأي طريقة.

فيلم “جوكر” المعروض حاليا في قاعات السينما، تعبير ملحمي عن مأساة بشرية تتكرر مع كثيرين في عالم يسرع الخطو نحو حتفه. ولعل الكثير من الذين شاهدوا الفيلم سيقولون ولو همسا بينهم “يا عزيزي كلنا ذلك الجوكر”، ولعل المداد الكثير الذي أساله هذا الفيلم، والجدل حول مضمونه، واختلاف النقاد على تقييمه، يكشف لأي مدى نجح في نقل شخصية “جوكر” -الذي تعوّد عليها المشاهد في أفلام “الأبطال الخارقين” وتحديدا فيلم “باتمان” وتمثل الجانب المظلم والشرير- إلى مرحلة “أنسنة” الجوكر، ولم تعد مجرد شخصية متخيّلة، بل هي ظاهرة بشرية تضع المشاهد في حيرة من أمره: هل أنا مع “جوكر” أم ضده؟ ألست أنا هذا الجوكر بشكل أو بآخر؟

هذه الأسئلة المزعجة تظل مع المتلقي لأيام وربما أكثر، وتضع كل واحد أمام نفس المرآة التي جلس عليها “جوكر” في بداية الفيلم، وهو يحاول مُكرها رسم ابتسامة على وجهه بينما تفضحه دمعة تعبر عن بركان من الإحباط والخيبات في الداخل، فمن يكون هذا “الجوكر” الذي ملأ الدنيا وشغل الناس؟

من مهرج مقهور إلى جوكر مشهور

يجسد شخصية “جوكر” الممثل الأمريكي جواكين فينيكس، وهو في الفيلم شاب في عقده الثالث يدعى آرثر فيلك يعمل مهرجا في أحد أحياء مدينة نيويورك في فترة الثمانينيات، ويعيش رفقة والدته، ويعاني من اضطرابات نفسية تسبب له نوبات من الضحك اللاإرادي.

يظهر آرثر في البداية وهو يحمل كل براءة العالم، وكأنه طفل، ويردد بأن والدته تطالبه دائما بأن يبقى مبتسما، وهو مقتنع بأنه قادر على إضحاك الآخرين.

يتعرض “جوكر” لأول عملية اعتداء من طرف أطفال، ويُضرب ضربا مبرحا دون أن يحرك ساكنا، وبعدها يعود للعمل مع كدمات كثيرة على جسده وثقوب أكثر في نفسيته، وهو في حالة صدمة وإنكار محاولا إقناع نفسه بأن الحادث عادي واستثنائي، عكس صديق له يخبره بأن “الخارج هو غابة يعيش فيها حيوانات”.

يتطلب الأمر المزيد من الأحداث العنيفة التي ستجعل آرثر يتحول إلى جوكر؛ من تآمر صديقه عليه من أجل طرده من العمل، والسخرية من عرضه المسرحي في برنامج “توك شو” شهير، ثم فقدانه وظيفته، وأخيرا تعرضه للتنمر في القطار.

ينزل “جوكر” من القطار وهو شخصية أخرى بعد أن قتل ثلاثة أشخاص انهالوا عليه بالضرب، وكأن هذا الحادث مثّل قبلة الحياة لشخصية “جوكر” ووقّع شهادة وفاة آرثر الطفل البريء.

نتعامل في الفيلم مع شخصية جديدة بدأت تشعر أن الناس تحس بحضورها بعد أن عانى لسنوات من عدم الاهتمام، وكأن الرد على الإساءة بأكثر منها منحته الثقة، وجعلته يتخفف من مشاعر القهر والإحباط التي يعيشها. حتى تلك الضحكة غير الإرادية التي كان “جوكر” يعاني منها ويحاول إيقافها لأنها تسبب له الإحراج، تحولت إلى أيقونة لهذه الشخصية الجديدة يتعامل معها بأريحية.

كل هذا الانقلاب المروع في شخصية البطل يتأثر به محيطه الصغير، من والدته التي تتعرض لمصير مأساوي على يديه، مرورا بأصدقائه في العمل، ووصولا لمن استغل براءته للسخرية منه.. الجميع يدفع الثمن الذي يراه جوكر مناسبا، وكأنه عاد لينتقم، ورغم وحشية ما يقوم به، فإن البعض يجد صعوبة في إدانته، والسبب –ربما- أن المخرج تود فيلبس مهد لهذا الظهور المفجع لجوكر بسلسلة من الأحداث العنيفة نفسيا ورمزيا، تجعل من جوكر ضحية وليس مجرما.

وربما من هنا ظهرت الكثير من الانتقادات التي حذرت من كون الفيلم دعوة صريحة للعنف والفوضى وتحرض على أخذ كل شخص انتقامه بيده وبأكثر الطرق وحشية، بينما يرى البعض الآخر أنه ناقوس خطر يحذر من حالة الجنون العالمي التي تضغط على كينونة الفرد وتحشره في الزاوية، والنتيجة ستكون إنتاج وحوش بشرية لا حدود لما يمكن أن تقدم عليه وهي تبتسم ابتسامة باردة، وقهقهة مستفزة.

يحدث كل هذا وسط إتقان فني من أعلى مستوى، بين الموسيقى التي تنطلق بإيقاع بطيء وتتسارع وتيرتها وتصبح أكثر مرحا وتشويقا لتتماهى مع التحولات التي يعيشها جوكر، ومن التصوير الذي يركز على كل تفصيلة في شخصية جوكر من بنيته الجسدية التي تعبر عن آثار تناوله للمهدئات النفسية والأدوية المساعدة على التخلص من الاكتئاب، وحتى اختيار الشخصيات التي كانت كلها مؤثثة للمشهد ومؤثرة لكن دون أن تخطف الأضواء من جوكر؛ باستثناء الحضور المميز للممثل الكبير روبروت دي نيرو الذي يجسد دور مقدم برامج شهير، ليكون الحوار الأخير بينه وبين جوكر الأطول ربما في كل فيلم والأكثر حرارة وحماسة، وهي من تلك الحوارات التي يمكن أن نطلق عليها “لقاء العمالقة”، وبإيقاع سريع وعمق في الأفكار لن تترك للمشاهد فرصة التقاط أنفاسه.

يجسد شخصية "جوكر" الممثل الأمريكي جواكين فينيكس
يجسد شخصية “جوكر” الممثل الأمريكي جواكين فينيكس

مرآة تعكس الواقع بقسوة

نجح مخرج الفيلم تود فيليبس في تجسيد واقع نعيشه في عصرنا، وإذا كان الفيلم يتحدث عن فترة الثمانينيات، فإن كل أحداثه يمكن إسقاطها على واقعنا الحالي، بداية من انتشار الجريمة والاعتداء على الضعفاء، وغياب قيم التسامح، وانتشار قانون الغاب في الشوارع، وكيف أن الفرد بات مسحوقا في عمله، مطالبا بالإنتاج أكثر من طاقته حتى وإن كان في مجال إبداعي يتطلب الكثير من الوقت والراحة النفسية.

وكأن المخرج يريد أن يوصل رسالة مفادها أن الوضع على ما هو عليه منذ عقود ولا شيء تغير، فهناك أصحاب المال الذين يحتكرون الثروات، ولم يكن من الصدفة أن يكون الأشخاص الثلاثة الذين قتلهم جوكر شبابا يشتغلون في قطاع المال ويمثلون بورصة “وول ستريت”، لما لهذه المؤسسة من رمزية، فهي تمثل النظام الرأسمالي المتوحش، وجنة أصحاب المال، وينظر لها الفقراء والمعدمون نظرة ازدراء لأنها في نظرهم تمثل التوزيع غير العادل للثروات.

هل تغير الوضع الآن؟ طبعا لا، فالأغنياء يزدادون غنى، والفقراء يتدحرجون في قاع الفقر أكثر، ومازالت بورصة “وول ستريت” رمزا لهذا التفاوت المفجع بين الطبقات، ومنه أيضا ينطلق للحديث عن زواج المال بالسياسة والعلاقات المتشابكة بين لوبيات المال وأصحاب النفوذ السياسي، وكيف أنهم يشكلون شبكة محكمة لا يهمها سوى مصالحها.

أما مصالح الطبقة الضعيفة فهي آخر همها، وذلك ما عبر عنه مشهد إغلاق المركز الحكومي للرعاية الصحية حيث كان يتعالج جوكر ويحصل على دوائه، وذلك بسبب قرار من حكومة الولاية. وبلسان الحسرة تخبر المعالجة النفسية جوكر بهذا الأمر وتقول له “إنهم لا يهتمون لا لك ولا لي”، ملخصة معاناة الطبقات الفقيرة التي تعيش على الهامش.

ومن الظواهر الاجتماعية التي لا يمكن إغفالها في الفيلم، التنمر على الناس والسخرية منهم من أجل حصد الإعجاب. صحيح أن الفيلم يعرض هذه الظاهرة عن طريق إظهار تأثير التلفزيون وبرامج التوك شو التي كانت منتشرة في تلك الفترة، وكيف أن السعي وراء زيادة نسبة المشاهدة دفعت المقدم “روبرت دي نيرو” للسخرية من نكات جوكر وعرضها في برنامجه دون موافقة صاحبها.

طبعا كل من سيقرأ هذه الأسطر سيربطها مباشرة بما يحدث حاليا في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث باتت الخصوصية منتهكة، وبات جنون الشهرة يدفع كثيرين للنهش في أعراض الناس والسخرية منهم، وتحويلهم لمادة للتندر والتشهير، دون الأخذ بعين الاعتبار تأثير ذلك على نفسياتهم، وفي كل مرة نطالع خبر انتحار شخص بسبب ما تعرض له من سخرية أو تعليقات عنصرية على مواقع التواصل الاجتماعي. وكأن المخرج يخاطب المشاهد، ويقول له إن كنت تعتقد أن ما يحدث في هذا الفيلم هو ضرب من الجنون أو الخيال فما عليك إلا أن تنظر حولك في تفاصيل حياتك لتكتشف أن جنون العالم لا يقارن أبدا بما يحدث في فيلم جوكر.

ولأن هذا العمل اهتم كثيرا بمشاعر الناس وأحاسيسهم، وعبر عن ذلك بطريقة فنية عبقرية، سيعيش كثيرا وربما يصبح من الملاحم السينمائية الخالدة.

آرثر فيلك يعمل مهرجا ويعاني من اضطرابات نفسية تسبب له نوبات من الضحك اللاإرادي
آرثر فيلك يعمل مهرجا ويعاني من اضطرابات نفسية تسبب له نوبات من الضحك اللاإرادي

مداخيل قياسية

استفاد فيلم جوكر من الجدل الإعلامي الذي سبق خروجه واختلاف النقاد على تقديمه أثناء عرضه في عدد من المهرجانات قبل وصوله لدور العرض السينمائي، مما أحدث لدى المشاهد حالة من التشويق عبرت عن نفسها من خلال حجم الإقبال الكبير على مشاهدته منذ أول يوم، سواء في الولايات المتحدة أو في دول أخرى.

وتشير الإحصائيات إلى أن الفيلم حصد أكثر من 96 مليون دولار في أول أيام عرضه في نحو 4373 سينما في الولايات المتحدة، وذلك على الرغم من كل التحذيرات الأمنية التي صاحبت عرض الفيلم واحتمال نشوب الفوضى لما يتضمنه الفيلم من مشاهد تدل على التمرد والعصيان المدني ضد السلطة ورجال الأمن وكل ما يمثل أجهزة الدولة.

وحقق جوكر رقما قياسيا غير مسبوق فاق كل التوقعات، ليكون من أكثر الأفلام تسجيلا لمداخيل عالية منذ أول أيام عرضه في تاريخ الأفلام السينمائية، كما حقق مداخيل بلغت 152 مليون دولار في أكثر من سبعين دولة عبر العالم، علما بأن لم يعرض بعد في الصين التي تعتبر السوق الأكبر في العالم، ومن المتوقع أن تستمر مداخيل الفيلم في الارتفاع خلال الأيام القادمة مع انتشار ما يمكن تسميته “بحمى جوكر”، فصور الفيلم باتت تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، بل هناك من بات يحاكي طريقة جوكر في اللباس، وكل هذا سيؤدي إلى زيادة الإقبال على الفيلم.

وإذا كان إخراج الفيلم راعى الأغراض التجارية والتسويق العالمي وليس موجها بالمقام الأول للمهرجانات، فإن الكثير من التوقعات باتت تضع بطله جواكين فينيكس المرشح الأوفر حظا للفوز بجائزة أوسكار هذه السنة، وهكذا سيجمع الفيلم النجاح من كل أطرافه من خلال الجوائز العالمية والمداخيل المالية غير المسبوقة.

 الممثل جواكين فينيكس قدم أداء أبهر الكثير من النقاد
الممثل جواكين فينيكس قدم أداء أبهر الكثير من النقاد

جوكر.. وصفة نجاح

قدم الممثل جواكين فينيكس أداء أبهر الكثير من النقاد جعل البعض يعتبره أفضل من جسد شخصية جوكر. ويحكي الممثل الأمريكي كيف أنه قضى “أفضل أيام حياته مع جوكر”، فيقول إنه هو من الطبع الذي يضجر بسرعة، أما مع هذا الفيلم فقد منحته شخصية الجوكر الرغبة في البحث عن شيء جديد مع إشراقة كل يوم جديد، وأيضا الرغبة “في إدهاش نفسي، لقد كان هناك الكثير من الأفكار التي يمكن التفكير فيها وأنا جوكر”.

ويتحدث جواكين عن وصفة نجاح الفيلم ونجاحه هو شخصيا في تجسيد يقترب من الكمال الفني، وأن هذه الوصفة تكمن أولا في كونه عاش جوكر ولم يمثل الشخصية، وأنه طيلة فترة تصوير الفيلم لم يكن يتحدث مع أحد، لم يكن له حياة اجتماعية، فلا يلتقي أحدا باستثناء المخرج، وخسر 15 كيلوغراما من وزنه.

أما العامل الثاني فهو فريق العمل، حيث أكد فينيكس أن دور فريق العمل كان حاسما أيضا، “فعندما يساهم الجميع في مساعدتك من المصور إلى المنتج المنفذ إلى الموسقى، وقبل كل هذا هناك المخرج الذي يمتلك حسا فنيا عاليا ويهتم بأدق التفاصيل”.. كل هذا تم تسخيره من أجل ولادة جديدة لشخصية جوكر ستترك المشاهد أمام مشاعر متضاربة وأفكار صادمة، وتجعله يبحث عن “جوكر” الذي بداخله ليس بغرض محاكاة التجربة ولكن من أجل المصالحة مع الذات في عالم يعيش الكثير من الازدواجية.