“الجولة المفقودة”.. خسارة الحَلَبَة وفوز الطاولة

أمل ممدوح

يقول محمود درويش “لم يبق بي موطئ للخسارة، حُرّ أنا قرب حُريتي، وغدي في يدي”، وهو قد ترك نفسه زمنا طويلا بين إصبعي مكسب وخسارة، يدور في ساحتيهما حثيثا لا يخرج عنها، غير مُدرك كم تستهلك روحَه هذه المعادلة، وكم تصبح معها الحياة شديدة الضيق، إلى أن حدث ما أخرجه منها لحياة أوسع بشكل لم يتوقعه.

إنه “رينالدو” أو “راي” أو “الحجر” كما يُلقب، إنه بطل الفيلم الكولومبي “الجولة المفقودة” (The Missed Round)، وهو أول الأفلام الطويلة للمخرج “رافاييل مارتينيز مورينو”، وقد عُرض في قسم البانوراما الدولية في مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الحالية الـ41.

 

رينالدو.. مُبتلع الهزيمة والتنمر

يبدأ الفيلم بحَلَبة الملاكمة التي نسمع أصوات جمهورها ومُعلِّقها عن هزيمة “رينالدو”، نرى أقدام المصارعين ولا نرى جسديهما ولا وجهيهما، حيث تبدو الأقدام مُغبشّة (Out Of Focus)، فالصورة تبدو مُضببة (خارج التركيز البؤري للعدسة)، لتصبح واضحة بارتماء رينالدو أرضا، والذي نرى وجهه يدخل الكادر الثابت مُصابا ينزف الدماء، ليكون أول ظهور له مهزوما مطروحا أرضا، ثم يُلملم نفسه ليعود لمنزله سائرا ليلا في طرقات مدينته قرطاجنة (تقع على شواطئ كولومبيا الشمالية) المعروفة شعبيا بحلبات الملاكمة مقابل الأجر، حتى لو باتفاق مدفوع للخسارة يكون فيه الملاكم طُعما، فهي لعبة شعبية يُتابعها كل الأهالي.

يسير رينالدو في الطرقات مُبتلعا إهانات الناس وسط أصوات مذياعاتهم التي تبث المباراة، فهم يتحدثون عن هزيمته وذهاب مجده، وأنه كبر في السن ولم يعد يصلح، وذلك في حالة شرسة من التنمر لا ترحم. كل هذا يُقابله رينالدو بالصمت كما نراه أغلب الفيلم، فهو يبدو رجلا بسيطا طيبا صبورا راضيا سهل التعامل، ويبدو أن نمط حياته الراكد تسبّب في ضعف ذاكرته، حيث يُغالطه وكيل المباراة في أجره المُستحق فيرضى صامتا، بينما يُدافع عنه صديقه، يحيا رينالدو وحيدا بلا عائلة، وهو سبب جديد يُبرر به مستغلوه استغلالهم له، فهو بلا عائلة أو مسؤوليات.

“برايدر” هو طفل لا يتعدى 12 عاما

 

“برايدر” المحتال.. البحث عن الأب

“برايدر” هو طفل لا يتعدى 12 عاما، كان أول ظهور له مُتلصصا ليُناسب طبيعته المُتصيدة التي اكتسبها من حياته، حيث نرى إحدى عينيه في كادر مُقرّب يترقب رينالدو دون أن يراه، وذلك بعد خسارته وقبل مغادرته لمكان المباراة، ليفاجأ به رينالدو عند بيته بعد تتبعه له، نرى جُرحا على أنف برايدر يوحي بطبيعة حياته، والذي يتزامن مع جرح لرينالدو عند عينه يوحي بطبيعة عمله وحياته أيضا، كلاهما لسبب وظروف مختلفة، ليبدو ما سبق مقدمة جيدة تُنبئ بملامح الشخصيتين، فإحداهما مُباغتة ذات حيلة، والأخرى متأقلمة سهلة الخداع.

“برايدر” يُخبر “رينالدو” بأنه ابنه من أُمّ توفيت منذ عامين، وأنها طلبت منه البحث عن والده، حيث حمل برايدر إعلانا بجريدة قديمة عن إحدى مبارياته، مُدّعيا أنهما تعارفا في ذلك اليوم، ليتشكك رينالدو ثم يطرده بعيدا.

تصرفات صغيرة توحي بتشوق رينالدو إلى دور الأب وتظهر براءة روحه الساذجة

 

رينالدو وبرايدر.. وحدة واحتياج

نتتبع حياة رينالدو في منزله الذي عاد إليه مُصابا يداوي نفسه بنفسه، مع تركيز على فراغ عالمه ووحدته بكادرات ضيقة مؤطرة له من بعد، حيث نراه جالسا وحده على طاولة طعامه أو سريره وسط صمت كامل، وذلك ضمن قَطَعات موحية بتتابع روتيني، فلا حدث في حياته سوى أداء المتطلبات الأساسية للحياة التي يتخللها دائما التمرين طوال الفيلم كخط ثابت موازٍ لحياته الراكدة، مع ادخار المال القليل في حصّالته.

تستمر محاولات برايدر لإقناع رينالدو، فيُفاجئه من جديد حاملا صورة أمه، لنعرف أنه وحيد بلا أسرة أو أهل يعيش في الشارع، يطرده رينالدو من جديد، لكن مع السماح له فقط بالمبيت في الجوار، فمقاومته تفتر أمامنا تدريجيا، ويفتر معها الرفض والتشكك، فقد بدأ يميل لتصديق الأمر، وشيئا فشيئا يعترف به ويعلنه ابنا له بين أصدقائه، ويجعله يعيش معه، يراقب سلوكه ويهذبه وهو سعيد بذلك.

يبدأ رينالدو في الأخذ من الحصّالة للإنفاق عليه، ويبيع خاتمه لشراء حذاء جديد له، فقد بدأ يتذوق العطاء، يتذوق هذا المقاتل اليائس دور الأب وإنفاق النفس لا الجسد، يُقلّد دائما كلمات صديقته لابنها فيقولها لبرايدر “لا تتكلم وفمك ممتلئ بالطعام كي لا تختنق”، وذلك بشكل يوحي بسعادته بالدور الجديد، يحاول نصيحة ابنه الجديد بطرق مرافقة الفتيات التي لا تحقق نتيجة في النهاية.

تصرفات صغيرة توحي بتشوقه إلى دور الأب، وتظهر براءة روحه الساذجة، يتزامن ذلك مع موت ملاكم قديم زميل له، لتبدو إطلالات الموت والفناء عاملا غير مباشر لتشبثه بالأمل الجديد، يدافع عن ابنه ويدافع الابن عنه ويغضب إن أهانه أحد، نشعر بدفعة حياة متدفقة تكسو رينالدو وعالمه الخاوي.

قد تكون العلاقة بين الأب الجديد وابنه القصة الرئيسية، لكنها تحوي بينها طبقات أكثر عمقا

 

عنصرية البيض وطبقية المُدن

قد تكون العلاقة بين الأب الجديد وابنه القصة الرئيسية، لكنها تحوي بينها طبقات أكثر عمقا، فملامح البيئة والمجتمع تُطلّ بسلاسة في خلفية الأحداث، لتُشكّل إضافة لتفاصيل الشخصيات وعالمها الكلي، بدءا من موسيقى الجاز البديعة في تتر المقدمة لـ”خوان كارلوس بيليغرينو”، وذلك بما يقترن به الجاز في نشأته التاريخية من تعبير عن معاناة السود وآلامهم وجذورهم، وذلك كردّ فعل لسنوات الرقّ التي غرّبتهم عن عالمهم الأصلي. كما تتخلل السرد بشكل محدود أصوات مؤثرات موسيقية لآلات من البيئة لا تحمل سِمة لَحْنِية، بل هي أقرب للرنين أو الأنين، لتطلّ طبيعة كولومبيا مُجتمعيا في الخلفية، فهي معروفة بارتفاع معدلات الجريمة والعنف فيها، لذلك يبدو منطقيا فيها ازدهار الألعاب الدفاعية، مما يحوّل الناس فيها لقوي وضعيف وفائز وخاسر.

وفي أحد المَشاهد الأولى نرى رينالدو يُدخل دراجته النارية داخل منزله ويُحكم إغلاق باب بيته، مع إطلالات لحالة عنصرية، حيث ترد جملة على لسان وكيل المباريات الأبيض “هكذا اتفقنا، فالناس يدفعون المال كي يشاهدوا هؤلاء السود يضربون بعضهم”، ثم يقول له حين عاد إليه راجيا لمحاولة أخرى من جديد “الملاكم الذي يخسر هو أقل من الكيس الرملي الذي يتدرب عليه”. نراه يتشكل وزنه بحسب رغبة وكيله وبحسب وزن منافسه، مما يُعرضه للمخاطر الصحية، تعبر عن ذلك جملة على لسان أحد أصدقاء المهنة بأن “الإدارة السيئة جعلته طُعما للمدافع”، فكثير من الملاكمين مُجرد ظِلّ لآخر يرغب في الفوز، وذلك في حياة مُستعبدة في مكسبها وخسارتها.

وتُطلّ المدينة ومجتمعها من جديد في مشهد هام في نقلات تطوّر العلاقة بين الأب الجديد وابنه، حيث يجلسان معا فوق إحدى جبال المدينة يتبادلان الأسئلة التي تقرب إجاباتهما الصامتة بينهما؛ من الأب عن كيفية حياة الولد بالشارع، ومن الابن عمّا إذا كان لدى الأب أي أقارب، ليدور حوار آخر كاشف ماهر الصياغة عن حالة من العنصرية والطبقية، حيث يشير الابن من فوق الجبل إلى مبانٍ راقية تبدو أمامه متسائلا عنها، ليجيبه الأب بأنها مصانع الأغنياء، ليشير الأب لجهة أخرى قائلا “وهنا أماكن عيشنا نحن الفقراء السود”، فيجيبه الابن “لكننا أكثر”، فيردّ الأب “نحن غير مرئيين، لذا علينا أن نعمل بجد”، ليكون رد الابن “هل تعرف أحدا عمل بجدّ وأدار إحدى هذه الشركات؟”.

رينالدو في أوج سعادته بعالمه وعطائه الجديد يعمل على تخفيض وزنه لجولة صعبة يخوضها بصعوبة من أجل الحصول على مال لابنه

 

سعادة جامحة وخِداع صادم

نرى رينالدو وابنه برايدر كأنهما يكملان بعضهما بعضا، أحدهما كبير والآخر صغير، أحدهما قوي والآخر ضعيف، لكنهما يشتركان في الوحدة والاحتياج وشراسة العالم حولهما، فجُرح أنف برايدر يكشف عن أذى واجهه بالتزامن مع جرح رينالدو، وتنمر قد يكون عانى منه كما عانى رينالدو في خسارته.

وبينما رينالدو في أوج سعادته بعالمه وعطائه الجديد يعمل على خفض وزنه لجولة صعبة يخوضها بصعوبة من أجل الحصول على مال لابنه؛ يأخذ صورة الأم التي يحتضنها ابنه وهو لا يذكرها لشراء إطار مناسب لها، ليكتشف من البائع أنها صورة لإحدى صديقاته وأنها لم تمت، وهنا يواجه رينالدو صدمة عنيفة بهذا الخداع يَطرد على أثرها برايدر بعد ضربه، ليعيش صمتا لم يعرفه، فنراه يتمرّن وهو عاري الصدر بعد الغروب، وذلك بصورة يسودها الشحوب الأزرق والصمت الكامل من كل الأصوات، تبرز المرآة خلفه واشية بتمزقه، لكنه أخيرا يقرر التسامح كمرحلة أخرى من الحب تلت العطاء.

يبدو واضحا إعجاب برايدر برينالدو كبطل يعتبره مثله الأعلى

 

الأب والابن.. الأدوار المتبادلة

يبدو واضحا إعجاب برايدر برينالدو كبطل يعتبره مثله الأعلى، حيث يطلب منه أن يعلمه الملاكمة، ويغضب إذا ما أُهين، ويتعارك مع مَنْ يُهينه سواء مَنْ كان يكبره في سن رينالدو أو مَنْ في سنه من أصدقائه. ووسط كل الزيف والأكاذيب التي ادعاها برايدر، فإن صدقه الوحيد في حبه لرينالدو كان حين يحتفظ بقصاصة اسمه في حقيبته التي فتشها رينالدو بعد طرده.

هنا يظهر بُعد جديد في قراءة الفيلم، فنظرة برايدر لرينالدو هي نظرة البطل، بينما يتعامل رينالدو مع برايدر في سياق السلطة الأبوية، حيث تُظهر إحدى اللقطات ظِلّ رينالدو على الابن أثناء تمرينه. سعى الفيلم من خلال السيناريو لتقويض هاتين النظرتين من كليهما من أجل علاقة صحية حقيقية، وخروج كل منهما من الظلال، سواء ظِلال منافسي رينالدو الذين يستخدمونه كطُعم، أو ظِلّ رينالدو على برايدر، داعما ذلك بالاحتياج المتبادل وتبادل الأدوار.

في النصف الأول من الفيلم يمرض الابن ويرعاه رينالدو الذي يرعاه دائما، وفي النصف الثاني يمرض رينالدو ويرعاه برايدر بخوف حقيقي، ثم من جهة أخرى يخسر رينالدو أمام مرأى برايدر في مباراته الأخيرة المنتظرة التي بدورها تُعيدنا إلى بداية الفيلم بمباراة خاسرة أيضا، لكن هذه الخسارة الأخيرة كانت لازمة لعلاقة أكثر صحية وأكثر دواما، فهي تُعدّ في حقيقتها مكسبا فارقا في حياتهما التالية، وبالفعل يتلقاها رينالدو بوقع مختلف أكثر تفاؤلا، وقد كسر دورانه المستمر وحاجز صمته الدائم، فيصبح مُتكلما يشتهي الحديث، وذلك في علاقة متكافئة يتأكد فيها تبادل الأدوار، بتكرار برايدر جملة رينالدو الدائمة له “لا تتحدث وفمك ممتلئ بالطعام”، فيستجيب له رينالدو راضيا.

طاولة منزل رينالدو كانت من أهم هذه المفردات الدلالية للصورة، فتُعتبر بحدّ ذاتها بطلا ثالثا في الفيلم

 

“طاولة” رينالدو.. بطل ثالث

كانت البساطة والعمق السمتين الأساسيتين للسرد، والأمر نفسه اتصَف به أداء البطل “مانويل آلفاريز” صاحب الوجه المألوف الغني التعبير، مع صورة جيدة الدلالات شكّلت عنصرا مُضيفا وداعما للسرد بشكل كبير، حيث توضح مضامينها البينية دون ثرثرة الطبيعة العامة للفيلم. وكانت طاولة منزل رينالدو من أهم هذه المفردات الدلالية للصورة، فتُعتبر بحدّ ذاتها بطلا ثالثا في الفيلم، حيث استمر وجودها وأُجيد استخدامها بشكل كبير في جميع مراحل السيناريو المتصاعد.

ينحصر عالم رينالدو بينها (الطاولة) كعالمه الخاص وبين تمرينه كعالمه الخارجي، ففي البداية نرى رينالدو من بُعد يجلس عليها وحيدا، من زاوية تجعله داخل إطار يوحي بانزواء ووحدة، حتى إذا بدأ في إدخال برايدر للمنزل جلسا عليها مُتقابلين دون طعام، وذلك في وضع استجوابي مُهيمن من رينالدو ومهزوم متقلص من برايدر، ثم نراه مع تطور العلاقة يُذاكر له عليها. وكثيرا ما لا يجمعهما كادر واحد عليها، فنرى أحدهما فقط، ثم نرى رينالدو في مشهد متقدم يضع له الطعام عليها ولا يشاركه الأكل، ثم في لقطة أخرى يُعطيه وجبته الخاصة ويجلب له الملح، فهو المانح المتحكم.

كل ذلك وسط صمت دائم، ليتطور الأمر لحديث قليل على الطاولة أحيانا، وذلك مع ازدياد تعلق رينالدو به، ثم يبدأ ظهور حاجز يقسم صورتهما على الطاولة ويفصل بينهما، مما يُنبئ بخصومة، ويوحي بتراجع موشك للعلاقة رغم ما يبدو، ويؤكد حالة ما زالت تفصل بينهما، ليظهر عليها رينالدو وحيدا بعد طرده لبرايدر، حيث تبدو الطاولة في هذه اللقطة باهتة، حتى إذا ما عادا للعيش معا ظهر من جديد الحاجز بينهما في المنتصف تماما وهما يجلسان عليها، كتبعات حالة الغضب والخصومة، إلا أن برايدر من يقوم الآن بوضع الطعام لكليهما عليها، فهو لا يأخذ فقط بل يعطي أيضا، لكن رينالدو لا يشاركه الطعام، فغضبه ما زال حاضرا، مما يوحي بتقدم في العلاقة رغم وجود الحاجز، ليزول هذا الحاجز بينهما عليها بعد شفاء رينالدو الذي يحتسي مشروبا لأول مرة مع برايدر.

هنا يفرض برايدر وجوده كشريك فيقرر بقاء علبة الملح على الطاولة من الآن فصاعدا، فيوافق رينالدو على ذلك حتى يكتمل تطور العلاقة على الطاولة. وفي مشهد النهاية بعد الجولة الخاسرة يجلسان على الطاولة دون حواجز في وضع مُتكافئ، يأكلان الطعام معا بوجبة لحم شهية لأول مرة، يتبادلان أثناء تناولها الحديث معا، ليبدآ عليها جولتهما الرابحة بعد خسارة، وحياة جديدة يعطيان فيها ويأخذان، لا تحتلُّهم فيها أي ظلال.