“الحارث”.. سفر سينمائي في مسيرة صراع الإنس والجان

أحمد القاسمي

تقدم السينما المصرية للمتفرّجين هذه الأيام أفلاما مبتكرة في أسلوبها وعميقة في محتواها، مثل فيلم محمد دياب “اشتباك” الذي شارك في الدورة الـ70 من مهرجان كان السينمائي ضمن قسم “نظرة خاصة” للمخرج، وفيلم أبو بكر شوقي “يوم الدين” الذي شارك في الدورة الـ71 من المهرجان نفسه ونافس على جائزة السعفة الذهبية في المسابقة الرسمية.

فكلاهما مثّل إضافة فنية معتبرة، وساد الانطباع بأن هذه السينما أضحت تميل إلى البحث عن اللغة السينمائية المتفردة، وتتخلص من صفة “السينما التجارية” أو “الشعبية” التي يغمز بها نقاد مناصرون للسينما النخبوية.

وفي هذا السياق المشبع بالتفاؤل -على الأقل من قبل أنصار هذا الرأي- يظهر فيلم “الحارث” لمحمد نادر، والحارث اسم من أسماء إبليس، فيغوص في الصراع الأزلي بين الخير والشر، ويكشف عن مخرج مأخوذ بالهاجس الجمالي والفني. ولكن هل تكفي الرغبة والحماسة وحدهما لخلق الأعمال السينمائية المميّزة؟

 

ليلة الحارث.. حكاية من رحم المعتقدات الشعبية

ينطلق الفيلم من المعتقد الشعبي بأن بعض الجن يقع في عشق البشر ليبتكر حكايته، ففي ليلة الحارث يغيب القمر وتختفي النجوم ويعتري السماء حزن لأنها تصادف ليلة طرد الرب لآدم بعد أن عصاه وأكل من الشجرة المحرمة.

أما عند الحارث فهي ليلة البحث عن معشوقة إنسية لإحياء هذا النصر، فيتزوجها وينجب منها سلالة تنتشر في الأرض فتبذر الشر وتجني الفساد، وفي تلك الليلة من سنة 2012 يذهب العروسان الصحفي “يوسف” (الممثل أحمد الفيشاوي) وفريدة (الممثلة ياسمين رئيس) إلى القرية الأمازيغية المصرية سيوة لقضاء شهر العسل.

يقع إبليس وقتها الذي يتقمّص شخصية إنسية وهو “كمال” الطبيب النفسي (الممثل علي الطيب) في عشق الزوجة الشابة، ويظل على مدار الفيلم يحاول انتزاعها من زوجها فيحبك المكائد ويبتكر الحيل.

ينضم الفيلم إلى قائمة طويلة من أفلام الخوارق والجن والشياطين والهلوسة في خزانة السينما المصرية مثل فيلم “سفير جهنم” ( 1945) ليوسف وهبي و”موعد مع إبليس” (1955) لكامل التلمساني، و”المرأة التي غلبت الشيطان” (1973) ليحيى العلمي و”الإنس والجن” (1985) لمحمد راضي.

وتمثل ثنائية مروان حامد “الفيل الأزرق” التي يتلبس فيها الشيطان (نائل) بجسد الدكتور شريف آخر ما أضيف إلى هذه القائمة، ويعمل حاليا على إنجاز الضلع الثالث من هذه السلسلة.

يبدأ الفيلم بومضة ورائية تصف ليلة الحارث بقرية سيوة سنة 1982، فالهلع يصيب الرجال فيعملون على إخفاء بناتهم وزوجاتهم حذر أن يقعن في مصيدة إبليس، وتعمل الكاميرا المحمولة على مجاراة الهلع الساكن في النفوس فتلتقط لنا مشاهد سريعة مرتعشة لتعميق الإحساس بالارتباك، ولكن المكروه يحصل مرارا وفق وجهة نظر الفيلم.

تستدرج “عبلة” من غرفة نومها وينال منها الشيطان أولا ويعجز زوجها عن حرقها حية ليتخلص من العار بعد أن حالت أمها دونه، كما تحضن هذه الجدة الطفل (الشيطان كمال) لتحميه من القتل.

شعار إبليس وفيه احتفاء بغواية آدم للأكل من الشجرة المحرمة رغم أن الدين منها براء

 

أفعى تحيط بشجرة.. مهارة اصطناع الأحداث

يلمس المتفرّج المتيقظ حرصا خاصا على التميز الفني، وبحثا دؤوبا عن البصمة الخاصة للمخرج، ولكن للأسف متى كانت الأعمال الفنية بالنيات؟

من وجوه هذا البحث المضني ملصق الفيلم، فمداره على أفعى تحيط بشجرة تنكسر أغصانها، إنها شعار إبليس الذي به يعلن وضع اليد على المرأة التي يريد، ثم يشرع في تنفيذ مخططاته للاستيلاء عليها، وفي الشعار احتفاء بغوايته لآدم زمانا وإعلان للبدء في غواية إحدى بناته.

وتمثل المقدمة (الجينريك) أيضا وجها آخر من هذا البحث، فيعرض على خلفية حمراء وسوداء لنجوم من دماء ورسومات لجماجم ولأشباح ولجنين ذي قرنين تكريسا لانطماس الجانب الفطري الخيّر في الإنسان وتحول البراءة إلى شيطان رجيم.

أما كلمة الحارث فتكتب بألسنة من لهب تضطرم، إيحاء بالعنصر الناري من شخصية إبليس، ودماء تتقاطر إشارة إلى إفساده في الأرض، ويمثل تنويع الزوايا سعيا إلى تأطير فاتن دال على وجه ثالث من هذا البحث، فتغلب اللقطة المتوسطة عندما يقتضي المشهد قراءة حركية، وتسود اللقطة الكبيرة عندما يقتضي المشهد قراءة وجدانية عاطفية فنتأمل صفحة وجه الشخصية لنرصد ما يعتمل داخلها من الحيرة والغضب أو الانكسار والإحباط.

ويمثل سعي فريدة إلى الشيخ الدجال شعبان تمرينا يعرض فيه المخرج الشاب مهارته في اصطناع الكاميرا مع انقلاب الأحداث انقلابا تاما في تصورنا، أو على الأقل قبل أن يتضح لنا أن المخرج يراوغنا، ومع تحول شخصية يوسف من الرجل السوي -الذي يعمل على إنقاذ زوجته بعد أن فقد ابنه عمر في حادث فظيع- إلى مريض نفسي يعيش حالة من الانفصام ويرى أشياء غير موجودة في الواقع؛ يعتمد محمد نادر لقطة غطس مائل ترصد الزوجة ورفيقتها ثم تتابعهما دون أن تتحرك عن محورها حتى تقلب الصورة فنرى السماء أسفل الإطار والأرض أعلاه.

لكن إحكام التقية وحده لا يكفي لخلق الآثار الفنية الجيدة، أو الاعتقاد في إحكامها على الأقل، فهذا الذي ذكرنا لا يتجاوز القشرة الخارجية من الفيلم، وحالما نغوص في تفاصيله نصطدم بتقييمات أخرى مخالفة تماما لما توحي به هذه النظرة السريعة للمستوى الجمالي منه.

بطلا فيلم “الحارث” الممثل أحمد الفيشاوي بدور الصحفي العريس “يوسف” والممثلة ياسمين رئيس بدور العروس “فريدة”

 

فجوات في خط الفيلم.. مكمن اختلال البناء الدرامي

ينتمي الفيلم إلى سينما الإثارة والغموض، ولا يخلو من تعقيد في السرد مؤداه توظيف الأسطورة، والاستناد أحيانا إلى السارد الخارجي -وهو بدوي عم محمد هنا- بدل العرض، وإلى الفجوات في خط الزمن، فبعض الأحداث تقع سنة 1982 وأخرى سنة 2012 وثالثة سنة 2019 ورابعة ستجري في المستقبل سنة 2025.

تدور أحداث في الواقع بالفعل بينما تجري أخرى في خيالات الشخصيات أو أحلامهم، فيتداخل الحاضر بالماضي والحقيقة بالخيال، وتحشد الأزمات الثانوية التي لا تخدم العقدة الأساسية وهذا ما يضير كثيرا بالبناء الدرامي للفيلم، فالقص في السينما يشبّه عامة بالسهم، فهو مأخوذ أبدا بالسير إلى الأمام وشخصياته تحث الخطى لتدرك غاياتها.

وأيضا لا بد أن تكون عناصر الحكاية ماثلة في ذهن المتفرج منذ مرحلة العرض في الربع الأول من زمن الفيلم، فيدرك ما تريد الشخصية الرئيسية، وما يحول دون تحقيق مرادها.

تخضع العلاقات بين الشّخصيات بدورها لنظام محكم سمته التّجاذب والتّطاحن، فالصراع والنزال وتذليل العقبات -حسب سيد فيلد كاتب السيناريو الشهير- مكونات أساسية في الدراما، ومسؤولية الكاتب هي توليد قدر من الصراع يكفي لشد المشاهدين أو القرّاء.

على القصّة دائما أن تندفع إلى الأمام، أي أن تندفع إلى الحل، ويقول أيضا من الأثر نفسه “الدراما صراع”، وكلما استطعت أن تحدد حاجة الشخصية بوضوح أصبح من السهل عليك أن تضع العقبات أمام تلك الحاجة وأن تفتعل الصراع”.

وبناء “الحارث” أقرب ما يكون إلى السينما النمطية، وهي أبعد ما يكون عن سينما المؤلف أو سينما التجريب، ومع ذلك يجد المتفرج عنتا كبير في إدراك غايات الشخصيات وفي إدراك أطراف الصراع، ولا يتبيّن قطبي الصراع إلا مع مشهد النهاية، فلا بد للمتفرج من جهد ذهني، ولا بد أن يشاهد الفيلم كاملا حتى يتبين نزعتين في هذا الصراع.

 

تجاذبات العلم والمخيال الشعبي.. ثنائية الصراع في الفيلم

تتشكل النزعة الأولى في الصراع الدائر من الخوارق حيث يتصارع فيها الجن والإنس، فيستدرج الطبيب النفسي والشيطان كمال الطفل عمر، ويدفعه من الطابق العلوي ليجهز عليه حتى يفسد العلاقة بين أبويه، ويوظف الثعابين والخيالات والأشباح ليسيطر على فريدة، وتنذر القوى الغيبية عبر القطط السوداء وأحلام بني البشر بالكوارث المحيقة.

من عجب السيناريو أن كان الشيطان خجولا انطوائيا أو “ابن ناس” كما تفيد العبارة العامية المصرية، فيعشق فريدة ويلتقيها يوميا، لكنه لا يستطيع أن يعبر لها عن إعجابه أو يحاول استمالتها إلا في مرة يتيمة استغل شكواها من وحدتها ليقول لها: نفس ظروفي، فأنا أكثر من يحس بك.

أما النزعة الثانية فعمادها على العالم الواقعي، ويستفيد السيناريو من منجز علم النفس لتشكيله بطريقة عقلانية شأن الحالات النفسية التي تعيشها “فريدة” أو الانهيار العصبي الذي يؤدي بها إلى الاكتئاب العميق فتغسل أسنانها الليل كله حتى الإدماء، وتحاول الانتحار.

كما يؤدي الاكتئاب نفسه لاحقا بيوسف إلى الانهيار بفعل أدوية الهلوسة التي ينصحه بها كمال، فيجمع الفيلم بين نسقين متباعدين من جهة تفسير الوجود وفهم الظواهر، فنحن لا نعرف هل وجهة نظر الفيلم تساير المعتقدات الشعبية فتؤمن بقدرة شيري صديقة فريدة مثلا على رؤية المستقبل كما نرى في الفيلم، أم هي مادية تفهم الوجود فهما عقلانيا معاصرا وتفسر السلوك البشري من منطلق علم النفس التحليلي؟

فجليّ أن السيناريو لم يحسم أمره وأن الفيلم يعجز عن المواءمة بين النسقين، فيتبنى الرؤية الشعبية التي لا تصدر عن المعرفة العلمية، والرؤية العلمية التي تنقد التصور الشعبي في الآن نفسه، ونتيجة لهذا الارتباك جاء البناء الدرامي للفيلم مختلا يجمع الحكايات الفرعية ويعجز عن صهرها وفق رؤية واحدة متكاملة منسجمة.

 

عصا الجدْل.. خدعة قلب مسار الأحداث

يغير الفيلم من دلالة الأحداث تغييرا كليا أكثر من مرة، وفي العرف النقدي السينمائي يعد ذلك عصا عجيبة لا يحسن استعمالها إلا السحرة المهرة ويسمى جدْلا بتسكين الدال (Twist)، ويفيد في أصل المعجم الانجليزي فعل التثني أو المراوغة، ويعيّن نوعا من الرقص الشعبي يقوم على الحركتين معا.

أما في الاصطلاح السينمائي فيعني وقوع انقلاب في الأحداث يؤدي بالمتفرّج إلى إعادة تمثلها من زاوية مختلفة تماما عن الزاوية الأولى، وأبسط صيغ الجدْل وأكثرها تداولا اكتشافنا أن ما حدث لم يكن سوى حلم يراه النائم وأطرف صيغها وأنجحها فيلم  “القرية” (The village) الذي أنتج 2004  للمخرج “مانوج نايت شياملان”.

يعرض الفيلم حكاية قرويين يعيشون حياة بدائية وفق ظروف القرون الوسطى، فتطارد الأشباح والكائنات الغريبة الشبان وتحذرهم من مغادرة القرية، ويتعرض أحدهم إلى حادث خطير، وتقرر صديقته الذهاب إلى المدينة بحثا عن الدواء، فإذا بنا في عصر حديث وحياة معاصرة.

وقتها فقط نفهم أن الأحداث تجري في العصر الحديث، وأن الكبار قرروا أن يعيشوا بعيدا عن صخب الحياة المعاصرة، وأن سكنهم في القرية المعزولة كان موقفا من الحداثة الزائفة.

يستعمل فيلم “الحارث” هذه التقنية مرتين، ففي الجدْل الأول بعد ذهاب فريدة للمشعوذ شعبان يدفعنا المخرج إلى تصويب فهمنا للأحداث، فيتضح لنا أن فريدة سليمة وقد خلناها تعيش حالة من الاضطراب النفسي، ويتضح لنا بالمقابل أنّ يوسف الذي وجدنا فيه مثالا للتضحية والرصانة والتفاني في خدمة الأسرة يتعاطى أدوية الهلوسة التي تجعله يعيش الوهم فيرى أشياء لا وجود لها، فكمال مثلا لم يرافقه كما يظن إلى منزل الشيخ شعبان، فيقيم في المستشفى لاستعصاء حالته.

يحدث جدْل ثان في الفيلم  ونضطر إلى مراجعة فهمنا للأحداث من جديد، ونسلم بسلامة بوسف، وأنه كان على حق في كل ما ادعى وأن  كمالا يدبر هذه الحيل حتى يربكه ويؤدي به إلى الجنون، ويستولي بعدئذ على فريدة التي يعشقها في سره، ولا نرى من ذلك شيئا في ظاهر الفيلم.

ترى شيري ذلك بوضوح وحينما تحاول تحذير الزوجين من مكر كمال ترتكب الحادث القاتل، ولكن المتفرج يكون قد صوّب فهمه بعد، ويكون يوسف نفسه قد توصل إلى فهم حقيقة كمال – الشيطان المتآمر، وعبرها يفهم المتفرّج أن الشعار الوارد في ملصق الفيلم -الذي يأخذه الزوجان من العامل سليمان هدية للذكرى- هو السر في الأزمة.

فريدة تقاوم الشر وتقتل الشيطان الذي يتقمّص شخصية إنسية وهو الطبيب النفسي “كمال”، فيما يكتفي الرجال بالفرجة الهادئة

 

جدل الخير والشر الأزلي.. ابتذال أضر الفيلم

يفسر لنا المخرج ما غمض عنا من هذه القصة المعقدة، فيذكرنا في أسلوب مدرسي باللقطات المفاتيح التي تجعلنا نفهم أن كمال ذاك ما هو إلا ابن عبلة الذي أنجبته من الشيطان، وأنه هو من كان يحرك مآسي العائلة من وراء ستار، وعبر مسرحة الصراع بين كمال ويوسف وفريدة في حلبة يحيط بها رجال شاخصون ومسرحة الصراع بين الخير والشر تقتل فريدة كمال وينتصر الخير.

ولكن بأي ثمن؟ فلم تكن هذه التقنية عصا عجيبة في فيلمنا للأسف، ولم يكن المخرج ذلك الساحر الماهر، فاعتمادها أكثر من مرة في الأثر نفسه بدّد قدرتها على المفاجأة وجعلها عنصرا مبتذلا مستهلكا، وأضر بمصداقية الفيلم الفنية، وأعطى المتفرّج الانطباع بأنه لا يحترم ذكاءه كثيرا، ولا يأخذ العملية الإبداعية مأخذ الجد، فتكبد الفيلم خسارات فنية ومضمونية فادحة، وبدل أن يكون أداة للتوعية مثّل إهانة للمرأة، وأسس لفكرة ذكورية كنا نحسب أن المبدع العربي اليوم تجاوزها.

ليست السينما حكايات مثيرة تروى، بل موقفا من الحياة ورؤية للوجود، وليس السينمائي صانع صور جميلة أو بطاقات بريدية، إنه صاحب دور طلائعي تنويري في المجتمع، فإلى أي مدى كان “الحارث” حرثا في العقول واستثمارا في الفكر؟

يعلن الفيلم انخراطه في هذا الجدَل بين الخير والشر علانية، ويخبرنا العم محمد بأسلوب المخرج المدرسي أن البشر من اختاروا العيش على الأرض وإن ظن إبليس أنه أغواهم، وكما اختار الإنسان الأرض فهو قادر على مواجهة إبليس إن شاء ذلك.

بينما تعلمنا نهاية الفيلم أن هذا الصراع أزلي، فبعد 6 سنوات من مقتل كمال أي سنة 2025 ترسم مليكة ابنة يوسف وفريدة الجديدة شعار الشيطان من جديد وعبرها يعلن انطلاق جولة جديدة من الصراع بين الخير والشر.

لم يوظّف الفيلم الأسطورة -وإن اصطنعها اصطناعا- إلا لكونها تمثل معرفة الإنسان البدائي، وليبحث عن الجانب الفطري من الإنسان ليمنح الإبداع التلقائية ويجعله خطابا كونيا يختزل الجوهر الإنساني، ولكن النوايا الحسنة وحدها لا تخلق الأفلام الجيدة.

مليكة ابنة فريدة ترث اللعنة عن أمها ويختارها الشيطان لتكون عروسه يوما

 

شراكة مع إبليس.. صورة إدانة المرأة النمطية

يلح المخرج على صورة الأفعى -الشيطان الذي يحيط بالشجرة- ومنها يولد استعارة بصرية أخرى هي الحيوان المنوي الذي يخترق البويضة، وثالثة هي الجنين الشيطان مجسدا آلية استمرار الشر، ومن هنا يسقط الفيلم سقوطا مدويا، فهو يجعل من الأرحام دلاليا مزرعة للشياطين، ويجعل الشر نتيجة للشراكة بين إبليس والمرأة.

لذلك يبدأ الفيلم بمشهد إخفاء الرجال ليلة الحارث لبناتهم وزوجاتهم حتى لا يقعن في فراش الشيطان ليلة احتفاله بانتقامه من آدم، وهذه مصادرة خطيرة، فهي تتضمن إدانة للمرأة، وتحمّلها وحدها المسؤولية عن الشر وعن تعدد ذرية إبليس.

ومن خلال وراثة مليكة للعنة عن أمها تظل المرأة المتهمة والضحية الأبدية، وتجعلها وحدها مطالبة بمقاومته، ويصرّح السارد العم محمد بذلك عندما يكون الجميع شاخصا مذهولا أو متواطئا وفريدة تقاوم كمال.

تستعيد فريدة الفكرة السائدة بأن حواء هي من أوعز لآدم بالأكل من الشجرة المحرمة رغم أن الدين منها براء، فالقص القرآني والإنجيلي ينطقان بخلاف ذلك، وفي سورة طه يغوي الشيطان آدم أساسا: ” فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ (121)”.

شعار إبليس يشبه رحم الأنثى وفيه استعارة عن تحوّل الرحم إلى مزرعة للشر

 

“رماية في عماية”.. مسؤولية الخطاب الفني

الأخطر أن الحكاية تقول لنا إن الشيطان (كمال) ما كان ليوجد لو أحرقت عبلة كما أراد زوجها لتجنب النسل الملعون، ولكن أمها منعته ثم كانت حضنا دافئا لكمال، فعلى هذا النحو يبعث المخرج من حيث يدري أو لا يدري الحياة في تلك النظرة الذكورية المعادية للمرأة التي تحملها وحدها سبب الشقاء الإنساني في عالم الأرض.

كما ظل يصور فريدة على هذا النحو لكونها ضحية للمخدرات ومتوترة باستمرار تتصرف بتشنج، أما يوسف فجعله مثالا للأب الرصين المحب المتفاني.

هل كان صناع الفيلم يقصدون هذه الدلالات، وهل كانوا يعلمون أي منزلق ينزلقون؟ لا نظن ذلك، ولا نريد أن نقسو على مخرج شاب في تجربته الأولى، ولكن الخطاب الفني مسؤولية تعامل معها بتراخ شديد، ولا بد من علامة حمراء أمامه حتى يفكر كثيرا قبل أن يمسك بالكاميرا مستقبلا، فلا يبحث بحثا متسرّعا عن الإثارة، وحتى لا يأخذ الفن السينمائي مأخذ السهولة أو يجاري الذوق العام من أجل عدد أكبر من المشاهدين، وحتى لا يكون عمله حرثا في الماء كما يقول البعض أو رماية في عماية كما يقول آخرون.