“الحظيرة”.. وقوع الجلاد تحت سياط الضحية في المهجر

يامن محمد

“شخص بحجمك من المفروض أن لا يغادر بأي حقيبة”، إنها عبارة يوجهها مُهرّب أجنبي إلى رجل سوري بدين هارب من بلاده يُدعى أبو جعفر. بهذه العبارة المفتاحية التي تعلق في الذهن نستطيع دخول عالم فيلم “الحظيرة” (The Hangar) للمخرج السوري إياس المقداد المقيم في أوروبا، أوروبا التي أصبحت فيها مسألة المُوالين المُندسّين بين اللاجئين متناولة حتى على المستوى القضائي.

يجمع المخرج في هذا الفيلم بين شخصيتين لرجلين سوريين في حظيرة أو مخزن، وذلك قبل يوم واحد من عبورهما المرتقب إلى بريطانيا عبر مضيق المانش، أحدهما يُدعى أبو جعفر (الممثل محمد آل رشي)، وهو محقق سابق لدى النظام السوري، أما الثاني فهو راكان (الممثل عيسى م. حنا) الذي كان معتقلا سابقا في أقبيته.

 

“إنها مُجرد ليلة فقط”.. لقاء المتناقضات في الحظيرة

يفتتح المقداد فيلمه بإيقاع متزن وهادئ، لكنه مليء بالتوجس والرهبة والترقب الذي يجذبنا دون تباطؤ للولوج في أجواء الفيلم التي بدت غريبة بقدر ما هي واقعية.

يجري ذلك بداية عبر لقطة معتمة من داخل الحظيرة باتجاه الباب المفتوح، لقطة تتزاحم فيها أصوات هطول المطر والرعد والكلاب، وبلمعان مُباغت للبرق في الخارج. ثم من خلال هذا الباب، يدخل مهرّب أجنبي مصطحبا شابا سوريا يدعى راكان، ليقول له بعد أن يعرّفه على المكان: إنها مجرد ليلة فقط.

لا يطول انتظار الشاب في هذا الجو الموحش كثيرا، حتى يأتيه المُهرّب برفيق، لكن أي رفيق؟ إنه أبو جعفر الذي بسماع صوته يبدو أن راكان بدأ يتذكر شيئا ما.

بمجرد أن يحضر أبو جعفر تبدأ اللعبة السينمائية بالتصاعد بين شخصيتين شديدتي التباين والاختلاف في مكان وظرف خاص حدده المقداد، أما راكان فهو شديد الهدوء رغم تيقظه وتحفزه، وأما أبو جعفر فيميل إلى الاستحواذ على المكان بضوضائه ومتطلباته، وكأن ذلك جزءا من طبيعة دائمة في شخصيته لا يسعى إلى تغييرها.

صورة تجمع المخرج السوري إياد المقداد مع بطل فيلمه “الحظيرة” الممثل عيسى حنا الذي قام بدور راكان

 

أفلام الثورة السورية.. مغامرة سينمائية تسعى إلى التفرد

اختار المخرج لفيلمه الروائي موضوعا خطيرا من الناحية السينمائية، أي تقابل الجلاد والضحية. فالأفلام الوثائقية التي سادت بعد اندلاع الثورة السورية تناولت بكثافة مواضيع الاعتقال والمعتقلين والتعذيب. ومن ناحية أخرى فإن هذا الخيار يهدد بالانزلاق إلى طرق تقليدية في معالجة الموضوع المتناول بكثرة في السينما والأدب، كفيلم “الموت والعذراء” (Death and the Maiden) على سبيل المثال للمخرج “رومان بولانسكي” المأخوذ عن مسرحية للكاتب “أرييل دورفمان” بالعنوان نفسه.

أضف إلى ذلك صعوبة تناول هذه القضية بشكل موضوعي في ظل استمرار المأساة السورية الساخنة، فقد قرر إياس المقداد المضي في خياره باحثا عن تفرد لهوية عمله، فنراه في الفيلم يتابع تكوين كوادره ضمن حالة حددها مسبقا بين راكان وأبو جعفر، لكن بالانفتاح على خيارات سينمائية واسعة ومفاجئة في كثير من الأحيان. فأبو جعفر مثلا الذي كان في بداية الفيلم مشغولا بإقناع المهرب الأجنبي بالسماح له باصطحاب حقيبته الكبيرة إلى بريطانيا؛ بدا وكأنه لا يعرف من يكون راكان الواقف قبالته يترجم بينه وبين المهرّب.

لكن مع تطور الأحداث تتكشف لنا حقيقة أخرى كما سنرى، ونتعرف رويدا رويدا على طبيعة شخصية أبو جعفر عنصر الأمن أو المحقق الذي شكّل أمثاله حجر زاوية في بناء نظام أمني لدولة بكاملها، في الوقت عينه الذي تتكشف فيه شخصية راكان الشاب الذي يمثل شريحة كبيرة من جيل جديد عانى من تعسّف من يمثلهم أبو جعفر.

الممثل السوري عيسى حنا الذي قام بدور راكان، وكان مُعتقلا سابقا في سجون النظام السوري قبل مغادرته سوريا

 

“أنا أعرفك”.. إغماءة تقلب أدوار الضحية والجلاد

نتيجة إعيائه والبرد الذي يكابده يدخل أبو جعفر في غيبوبة يرى أثناءها ما قد يكون أسوأ كوابيسه، ففي هذا الكابوس يبدأ راكان بمساءلته أولاً قائلا: أنا أعرفك، أنت المساعد حسن أبو جعفر.

لكنه ينكر هويته حتى في حلمه، ويزيد في إنكاره، بينما يتابع راكان مساءلته بما يشبه تحقيقا أمنيا على الطريقة السورية، إذ أن الحلم يدور في خلد أبي جعفر، ووفقا لمنطقه هو وتركيبة شخصيته الأمنية.

هكذا إذن يتصاعد هذا التحقيق، فأبو جعفر يتشبث بإنكار هويته أمام جلاده الحالي ومعتقله السابق، ويرفض الإقرار أنه المساعد حسن أبو جعفر الذي كان يهين ويذل ويشتم ويعذب معتقليه. من جهته يزيد راكان (في الحلم) من تهديده ووعيده لأبي جعفر، فيشتمه ويهينه ويتوعده بالتعذيب إن هو لم يعترف، وسرعان ما ينفذ تهديداته، ليجد أبو جعفر نفسه مقيدا تحت رحمة معتقَلِه السابق الذي يشاركه الآن مصير اللجوء في أوروبا.

نعم، ما يجري في الحلم هو ما كان ربما سيجري في الواقع لو وجد أبو جعفر نفسَه تحت رحمة إحدى ضحاياه، إنه ينكر بضعف ومخاتلة أنه هو الجلاد الذي عذب معتقليه في سوريا، وعندما يجد نفسه مقيدا أمام جلاد جديد فإنه يترجى أن لا يعذبه، ويتضرع ويبكي أمام الشاب الذي يذكّره بما جرى ويهدده بالمصير عينه، لكن التضرعات لا تنفع حسب المنطق الأمني، بل على العكس قد تزيد من شراهة الجلاد في مسعاه لتعذيب ضحيته.

أبو جعفر المرتعد بردا وخوفا بعد كابوس تعذّب خلاله بتعليق اليدين إلى الأعلى من طرف راكان

 

مشاهد التعذيب.. عودة إلى الواقع بعد كابوس مرعب

يخطو المخرج خطوة أخرى مواصلا جرأته باتخاذ الخيارات الفنية الصعبة، إذ يقرر أن يرينا نماذج من التعذيب في زمن فيلمه القصير الذي يزيد قليلا عن نصف ساعة، بداية من الجَلد على الأقدام (الفلقة) إلى التعليق باليدين، مرورا بسكب الماء فوق رأس أبو جعفر المرتعد بردا وخوفا، وصولا إلى الصعق بالكهرباء عبر الأسلاك المربوطة بأصابع القدمين. كل ذلك يجسده لنا المخرج والممثلون بشعور أقرب إلى الواقعي، بعيدا عن المبالغة التي قد تغري من يريد تنفيذ مشاهد كهذه.

وفوق ذلك یكسر المخرج في تجسیده لهذه الحالة الحلمیة منطق الحوار السینمائي العادي بخیارات كتموضع الكامیرا، وتوجیه الجمل المنطوقة في اتجاهات معاكسة لأماكن وجود الممثلین، مما یعزز ویبرز الحالات النفسیة الخاصة للشخصیتين، وهو أيضا ما يخلق حالة من التغريب بالنسبة للمتلقي، أي أنه يجعل المُشاهد واعيا باللعبة السينمائية، مانعا إياه من التماهي الكامل مع هذه المَشاهد التي قد تجرّه إلى حالة شعورية شديدة.

في النهاية يستيقظ أبو جعفر، ويدرك أن ما عاناه كان مجرد كابوس مرعب ومذل، ويكتشف ضمادة على رأسه وضعها راكان الذي اعتنى به طوال الليل. ما الذي سيفعله بعد أن استعاد وعيه وأدرك أن لا خطورة عليه في وضعه الحالي بعد الكابوس؟ وما الذي سيقوم بفعله راكان في المقابل على أرض الواقع؟

الممثل السوري محمد آل رشي الذي قام بدور أبو جعفر، وهو المحقق السابق لدى النظام السوري

 

“عمي راكان، أنا المساعد حسن أبو جعفر”.. كسر التوقعات

يقرر أبو جعفر ببساطة الاعتراف لراكان، لينتهي ربما من شعور كابوسه المريع، ويلفظ كلماته بطلاقة: عمي راكان، أنا المساعد حسن أبو جعفر.

لكن راكان لا يعبأ بذلك، فيحاول مجددا إكمال اعترافه، بيد أنه لا يستمع إليه، بل يغادر المكان بصمت بليغ نحو الضوء خارج الحظيرة، ليبقى أبو جعفر وحيدا في عتمته.

في بداية الفيلم يظن المرء أن راكان هو من سيسترجع الماضي بعد أن غاص في ذاكرته حين سمع صوت أبو جعفر وضحكاته المجلجلة، ولا نلحظ أي إشارة تدل على أن أبو جعفر كان يعرف راكان مسبقا قبل اعترافه الأخير، حتى أثناء حلمه.

من الطبيعي ألا يتذكر محقق أحد معتقليه الكثر، لكن المخرج كسر توقعاتنا، وجعل أبو جعفر هو من يعاني هذا الاسترجاع، لقد هزمته الذاكرة بحضورها فقهرت إنكاره، حتى دون أن تسائله الضحية التي تعرف من يكون. ليكشف بذلك المخرج عن الأبعاد الحقيقية لشخصية المحقق وخباياه الدفينة.

أخيرا لا ننسى أن نقول إنه ربما سيكون من الصعب على من يتناول تجارب السينما الروائية السورية وربما العربية بعد الثورات العربية، أن يتجاهل هذا الفيلم، بوصفه علامة أساسية لسينما روائية وليدة جعلتنا نتلمسها بحساسية خاصة، كما لو أنها تجسيد حقيقي لحراك عام كبير منفتح أكثر على الأحاسيس الإنسانية غير الموجهة أو المسيطر عليها.