“الحياة بعد داعش”.. نساء غربيات “آثمات” يصبحن ضحايا لبلدانهن

محمد موسى

“لا أعرف كيف يُمكن أن أخبر أولادي في المستقبل وعندما يكبرون، بأنني أخذتهم من محل سكنهم وذهبت إلى دولة داعش.. أشعر بالخوف لمجرد التفكير بالأمر”. هكذا كتبت نوال الهولندية المسجونة في شمال سوريا في رسالة إلى نفسها، وبطلب من المؤسسة النسائية السورية التي تحاول إعادة تأهيل نساء داعش الموجودات حتى اليوم في سوريا.

سجلت المخرجة الإسبانية “ألبا سوتورا” على مدار عامين يوميات السجن لمجموعة صغيرة من نساء داعش، والجهود المبذولة لإعادة تأهيلهن، وعرضت كل ذلك في فيلمها التسجيلي الطويل “العودة: الحياة بعد داعش” (The Return: Life After ISIS)، المُغلف بالعنف والمرارة رغم هدوئه الظاهر.

انتقت المخرجة سبع سجينات من جنسيات غربية مختلفة، إضافة إلى سورية كردية اسمها “سيفيناز إيفديك”، وتنتمي إلى جمعية نسائية تسعى إلى مساعدة هؤلاء السجينات.

ولعل السبب في اختيار هذه المجموعة بالذات هو رغبة النساء المعنيات بالاشتراك في الدورة التأهيلية، وإبداء أسفها العلني على قرارها بالالتحاق بداعش، والذي سيكون له عواقب جسيمة على حياتهن والمتواصلة حتى اليوم.

لم يفلح الفيلم في الحديث مع نساء ما زلن متمسكات بأفكار داعش وقيمه، رغم أن الفيلم يخبرنا بأنهن موجودات في المخيم نفسه، وما زلن يدافعن عن التنظيم الذي التحقن به، بل إنهن يعادين، وأحيانا يقتلن من يجاهر بتخليه عن داعش من السجينات أنفسهن.

 

نساء داعش وأطفالهن.. تيه وسط عواصف الصحراء

يبدأ الفيلم التسجيلي بمونتاج سريع يعرض مشاهد من نشرات إخبارية بلغات غربية مختلفة تتناول قضية النساء الغربيات التي التحقن بداعش، وتحولهن إلى معضلة كبيرة على الدول التي يحملن جنسياتها بعد هزيمة التنظيم عام 2019.

ينتهي المونتاج السريع الذي يبدأ به الفيلم بمشهد مرعب لمجموعة من نساء داعش مع أطفالهن، حيث يسرن في صحراء سورية أثناء عاصفة ترابية شديدة، وقد مثّل ذلك المشهد ذروة للقسوة والعنف الذي طبع سنوات حكم داعش لأجزاء من سوريا والعراق، وبدت النساء وأطفالهن في ذلك المشهد تائهات بالكامل وهن يحاولن أن يتلمسن طريقهن وسط الطبيعة والمناخ القاسيين.

لا يركز النصف الأول من الفيلم على داعش وما فعل في العراق وسوريا، بل يعود إلى هذا الملف في نصفه الثاني، إذ سينقل الفيلم في نصفه الأول -بمشاهد غلب عليها التأمل- حال شخصيات الفيلم، ويعرض ما يمررن به من مشاعر مختلطة، ومراجعتهن لأنفسهن، والطريق الذي قادهن للوصول إلى “أرض الخلافة” التي ستكون الجحيم على الأرض، وذلك حسب وصف هدى الأمريكية ذات الأصل اليمني.

السيدة الكندية البيضاء “كيمبرلي” التي تزوجت عبر الإنترنت أحد الشباب الدواعش الذين جاؤوا بها إلى سوريا

 

“كيمبرلي” ربة المنزل.. وحدة قاتلة توقع في شراك شاب من داعش

تشترك شهادات شخصيات الفيلم بتجاربها الحياتية الصعبة، فقبل سفرها إلى داعش كانت هدى الأمريكية وشميمة البريطانية مراهقتين حينذاك، وتملكان علاقات معقدة مع والدتيهما، وفعلتهما هذه -حسب الشهادات– هي في جزء منها رد فعل يتسم بالتسرع والرغبة في إثبات الذات للأهل، وبالخصوص الأُمّ.

أما “كيمبرلي” السيدة الكندية البيضاء فقد عانت من الضعف النفسي، حين وجدت نفسها وحيدة بعد طلاقها ومغادرة أبنائها البيت للدراسة، مما جعلها فريسة سهلة لشاب من داعش جنّدها عبر الإنترنت، بل تزوجها عبر أحد برامج المحادثة الإلكترونية، وعندما طلب منها السفر إلى سوريا لم تتردد، وحزمت حقائبها وتركت حياتها الهادئة في كندا.

وهناك بالطبع النساء اللواتي اتبعن أزواجهن الذين التحقوا بداعش، مثل المرأتين الهولنديتين ذاتي الأصل المغربي، فقد اتبعتا الشعارات البراقة والدعايات التي كانت داعش تبثها على مواقع التواصل الاجتماعي، وبالخصوص على الصفحات الخاصة التي كانت تروّج لدولة الخلافة الجديدة في الشرق الأوسط.

الفتاة السورية الكردية “سيفيناز إيفديك” تنتمي إلى جمعية نسائية تسعى إلى المساعدة في تأهيل سجينات داعش

 

“أنتم تمثلون مشكلة كبيرة لنا”.. معركة إعادة التأهيل

لا يحتاج الفيلم لأن يطرح أسئلة على نساء داعش، فهناك من ناب عن المخرجة في هذه المهمة، ذلك أن المؤسسة السورية المختصة بإعادة تأهيل نساء داعش، كانت تسير ضمن برنامج نفسي متكامل يهدف إلى تحليل الظروف التي قادت آلاف النساء الأوروبيات وغيرهن للالتحاق بداعش.

تخاطب الفتاة السورية الكردية “سيفيناز إيفديك” النساء الغربيات قائلة: أنتم تمثلون مشكلة كبيرة لنا، ولا نعرف كيف نتعامل معها، فدولكم لا تريدكم، ونحن لا يمكن أن نتخلى عن إنسانيتنا ونترككم هكذا.

هذه الفتاة ستقود جهود التأهيل، والتي تتضمن مشاهدة نموذج عن الأفلام الدعائية لداعش، والعودة إلى تلك الأزمان التي شاهدت شخصيات الفيلم، هذه المواد الدعائية ومحاولة تحليل شعورها حينذاك.

الأمريكية اليمنية الأصل هدى في خيمتها في سوريا بعد أن أضحت أمثولة للخيانة في الولايات المتحدة بعد التحاقها بداعش

 

هدى.. أمريكية وعد “ترامب” بمنعها من العودة

تطلب الفتاة السورية من النساء كتابة رسائل للذات قبل أن يأخذن قرار السفر إلى سوريا والعراق، وقد تشابهت الرسائل في تبيان مقدار الندم على تلك الخطوة، وأيضا الأسف على التسرع وقتها وعدم استنزاف كل الحلول.

يهتم الفيلم بشخصيتين على وجه الخصوص، وهما الأمريكية ذات الأصل اليمني هدى، والبريطانية ذات الأصل البنغالي شميمة، وهذا يعكس ما تحظى به الفتاتان من اهتمام إعلامي كبير في بريطانيا والولايات المتحدة، وكيف أن هذا الاهتمام جعلهما من أكثر الشخصيات المكروهة في البلدين.

لا تنسجم ملامح هدى البريئة مع سُمعتها القاسية في الولايات المتحدة، فهذه الفتاة اليمنية القصيرة القامة تحوّلت إلى أمثولة على الخيانة في الولايات المتحدة، حتى أن الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” ذكرها في أكثر مناسبة، وأعلن أنه لن يسمح بعودتها إلى الولايات المتحدة، لأنها قاتلت القوات الأمريكية في سوريا.

اشتركت هدى في جهود تجييش الشباب للانضمام لداعش قبل وصولها إلى سوريا، فكانت من مكان سكنها مع أهلها في الولايات المتحدة تستخدم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي للترويج لفكر داعش.

تكشف هدى بأنها عانت صدمة كبيرة عندما سمعت “ترامب” يلفظ اسمها، ووعده وقتها بأنها لن تعود إلى الولايات ما دام هو رئيسا للبلاد، لكنها لم تفقد الأمل، فهي تعيش اليوم من أجل ابنها الذي وُلد في سوريا، وذلك بعد زواجها من أحد مقاتلي داعش.

البريطانية البنغلاديشية الأصل شميمة، والتي أصبحت واحدة من أكثر الشخصيات المكروهة في البلد الذي وُلدت فيه

 

شميمة.. لقاء في الإعلام يسحب الجنسية البريطانية

تحوّلت شميمة إلى وجه للنساء الغربيات اللواتي التحقن بداعش، كما أنها بسبب اهتمام الإعلام البريطاني المبالغ فيه وملامحها القاسية ورفضها للاعتذار عما فعلته في أول حواراتها الصحفية مع الإعلام البريطاني؛ أصبحت واحدة من أكثر الشخصيات المكروهة في البلد الغربي الذي وُلدت فيه.

يعود الفيلم إلى أول اتصال للصبية البريطانية مع الإعلام البريطاني، وخاصة اللقاء الذي أطلق كل عواصف النقد والكره، ودفع الحكومة البريطانية لسحب جنسيتها البريطانية.

علقت شميمة في ذلك اللقاء على سؤال حول ضحايا الاعتداءات الإرهابية من البريطانيين في بريطانيا بأنه أمر لا يهمها، أو لا تفهمه، وهذا كان وحده كافيا لنصب محاكمات علنية وجدال ما زال متواصلا حتى اليوم في بريطانيا.

شرحت الفتاة البريطانية بأنها قالت ما قالته بسبب خوفها من نساء داعش المتطرفات في المعسكر الذي تعيش فيه، حيث إنهن يعاقبن كل من تتخلى علنا عن أفكار التنظيم المتطرف، ومما يذكر أن شميمة أعلنت في لقاءات أخرى عديدة عن ندمها الشديد على خطوتها بالانضمام لداعش، وأنها ترجو العفو من الدولة البريطانية والبريطانيين.

63 ألف من الرجال والنساء والأطفال الذين كانوا مع داعش، أصبحوا اليوم عبئا على السلطات الكردية في شمال سوريا

 

“لا أعرف ما الذي ارتكبته حتى أُعاقَب بهذا الشكل”

“لا أعرف ما الذي ارتكبته حتى أُعاقَب بهذا الشكل، لم أقترف أيّ مخالفة في حياتي، ولا حتى مرورية”، بهذه اللهجة المتوسلة تحدثت كيمبرلي الكندية للفيلم.

“كيمبرلي” هي مثل غيرها من نساء الفيلم اللواتي لا يريدهن أحد، والمعسكر الذي يحبسن به يريد التخلص منهن ومن حوالي 63 ألف من الرجال والنساء والأطفال الذين كانوا مع داعش، وأصبحوا اليوم عبئا على السلطات الكردية في شمال سوريا.

بدت النساء في الفيلم وكأنهن فقدن الأمل تماما بالعودة، وبالخصوص بعد أن شاعت قصصهن، وأصبحن محل جدال في الدول التي أتين منها.

ينقل الفيلم في هذا الاتجاه تصريحات لوزير من الحكومة البنغلادشية عن شميمة التي كانت مهددة بالإبعاد إلى بلده بعد أن سُحبت منها الجنسية البريطانية، وقد ذكر الوزير في ذلك التصريح بأن عقوبة الإعدام تنتظر الفتاة إذا وصلت إلى بنغلاديش.

كما ينقل الفيلم في توليفة من المشاهد تصريحات وتغطيات للإعلام الأمريكي تخص هدى، وهي تبين مقدار الغضب العام الذي أجّجه إعلام قنوات يمينية مثل فوكس وغيرها، ووصل في تأثيراته إلى إدارة الرئيس السابق “دونالد ترامب”. كما ينقل الفيلم تصريحات وتغطيات إعلامية تخص الهولنديات اللواتي التحقن بداعش، ورفض الحكومة الهولندية المتواصل لعودتهن.

 

معسكر الوصول.. حلم تحول إلى جحيم في أرض الخلافة

يستعيد الفيلم في رُبعه الأخير تجارب النساء الغربيات بعد وصولهن إلى سوريا، فقد تحوّل الحلم الذي سافرن من أجله آلاف الكيلومترات إلى جحيم كما وصفت إحداهن.

تنقل هدى وشميمة اللتان وصلتا عازبات إلى أرض داعش بأنهما وضعتا في معسكرات خاصة، ورفض طلبهن بالخروج، ولم يكن لهن خيار غير الزواج من أجل الخروج من المعسكر، أما المتزوجات اللواتي وصلن مع أزواجهن، فوجدن معاملة أفضل، بيد أن عنف الحياة سيعم على الجميع.

حروب عنيفة وموت يومي وقمع لا نظير له للنساء، هذا ما شهدت عليه نساء الفيلم، وركزت معظمهن على التقييدات المبالغ فيها التي كانت تُمارس على النساء، فالخروج بدون رجل كان يُعرضهن للمساءلة والعقاب، ومشاركتهن في الحياة العامة كان أمرا غير مرغوب به بالمرة، مما شكل خيبة أمل كبيرة لهن، وهن اللواتي كن يحملن أحلاما كبيرة في المساعدة في بناء دولة الخلافة.

شميمة فقدت ثلاثة أطفال لها بسبب الظروف العامة في سوريا ونقص الدواء والغذاء

 

مستشفى داعش.. رائحة الدم في مصنع اليتامى والأرامل

يعود الفيلم مع شميمة إلى عائلتها، وكيف أنها فقدت ثلاثة أطفال لها في السنوات الأخيرة بسبب الظروف العامة ونقص الدواء والغذاء، تتذكر الفتاة الأيام الصعبة تلك، وكيف أنها ثُكلت بموت الطفل تلو الآخر، بينما أصوات النيران في الخارج لا تُحتمل لقسوتها.

أما “كيمبرلي” الكندية التي عملت في مستشفى لداعش، فتستعيد تفاصيل من عملها اليومي حينذاك، والموت الذي كانت شاهدة عليه، ورائحة الدم في المستشفى التي لا يمكن أن تنساها.

فقدت نساء غربيات داعشيات كثيرات أزواجهن في قتال القوات السورية أو الغربية مع التنظيم، وهذا زاد من أزمتهن ووحدتهن، بينما كان العقاب الشديد ينتظر كل من يحاول الهرب من داعش، وكما نقلت نساء من المعسكر.

أجواء المعسكر الذي يحوي النساء اللواتي ينتمين إلى داعش في سوريا

 

محاكمة الفيلم.. رحلة إلى كوباني الجريحة

يسعى الفيلم إلى أن يضع قضية النساء الغربيات اللواتي التحقن بداعش على مقصلة النقد، فهو لا يتحوّل إلى منصة لنقل مظالم هؤلاء النساء فقط، بل يواجههن بالكثير من الحقائق، فهو مثلا يُعيد الاتهامات التي وجهّت إلى شميمة من الإعلام البريطاني بشأن مشاركتها في شرطة نسائية لقمع سوريات وعراقيات.

تنفي الفتاة البريطانية هذه التهمة تماما، وتُحاجج بأن التنظيم الذي كان قويا كثيرا عند وصولها إليه، لا يحتاج إلى فتاة ما زالت في ربيعها الخامس عشر، ولا تتحدث العربية، لكي تعمل في شرطته النسائية.

يخرج الفيلم لمرة واحدة من أجواء المعسكر عندما يرافق “سيفيناز” الفتاة السورية الكردية التي كانت تدير دورات التأهيل النفسي، إلى مدينة كوباني حيث تعيش، وينقل من هناك الدمار الذي سببه داعش في المدينة.

فقدت الفتاة السورية صديقة حميمة لها على أيدي داعش، وهي اليوم تحمل مشاعر مختلطة تجاه النساء الداعشيات، فهي من جهة لن تنسى ما فعله التنظيم بأهلها ومدينتها، ومن الجهة الأخرى لا تريد للانتقام أن يهمين على حياتها، وتؤمن بمسؤوليتها الأخلاقية بمساعدة نساء داعش، رغم أن بعضهن وقفن وما زلن يقفن حتى اليوم مع أفكار وأفعال التنظيم.

 

أحلام العودة إلى البلاد.. قراءة بعيدة عن الإعلام الغربي

في واحد من النشاطات التي اشتركت بها نساء الفيلم، طلب منهن تخيّل يوم عودتهن الأول إلى بلدانهن الأصلية، والرغبات البسيطة التي يتمنين تحقيقها في ذلك اليوم، وكان أكل الأكلات المفضلة من الخيارات المرغوبة لكثير من نساء الفيلم، بينما أكدت شميمة وهدى أن إصلاح علاقتهن مع أُمّهاتهن من الأولويات، وأنهن يتمنين أن يرتمين في أحضان أمهاتهن حال وصولهن.

بدا الندم واضحا على الجميع، بينما يحتاج البحث في ما فعلن في فترات داعش إلى تحقيقات جنائية ربما تبدو مستحيلة بسبب مقتل كثير من أتباع داعش، وضياع كثير من الأدلة بعد زوال حكم التنظيم.

ما يفعله الفيلم هو التقرب من عوالم هؤلاء النساء، ونقل تجاربهن وندمهن وأحلامهن بروية، بعيدا عن استعجال الإعلام الغربي وبحثه عن القصص المثيرة.

وعلى الرغم من بشاعة جرائم داعش التي نقل الفيلم جزءا يسيرا منها، فإن العمل التسجيلي يُبيّن أن هناك من اقترف أخطاء جسيمة دون أن يتورط بجرائم، وأن هؤلاء يستحقون عطفنا وعفونا، وإلا سنتحول جميعا إلى نسخة من داعش، وهو ما سيكون انتصارا للتنظيم الإرهابي حتى بعد زواله من المنطقة.