الدراما الرمضانية.. قوة مصر الناعمة للتأثير على الشعوب العربية

الفنان المصري هشام عبد الحميد

لعلنا لن نبالغ لو قلنا إن الجماهير العربية عامة سواء كانوا في مصر أو في أجزاء أخرى من العالم قد ارتبطوا بقوة بالمسلسلات الرمضانية المصرية التي تُشّكل أحد أوجه القوى الناعمة، إذ استطاعت الإدارات السياسية المتعاقبة على الحكم بمصر أن تُدعِّم سياساتها عبر تلك المسلسلات، وتجعلها مُشبعة بفلسفتها وأفكارها وطموحاتها، فقد انتبهت السلطة لتأثر الناس بالأعمال الفنية وخاصة المسلسلات، ومن خلالها تمكنت بشكل أو بآخر من التدخل عبر وسائل عديدة لتركز على ما تريد إيصاله للناس من خلال تلك المسلسلات.

منذ بداية ظهور التلفزيون المصري عام 1960، كانت توجهات السلطة توجهات اشتراكية تحاول أن ترفع من قيمة البروليتاريا (الطبقة الدنيا من عامة الشعب)، وتحاول بث روح الرفض للإقطاع والقوى الرجعية والإمبريالية.

نجد أن الإعلام وقتها كان يولي اهتماما خاصا بالتراث الشعبي، وما فيه من صراع البطل المُخّلص الذي يلعب دورا كفاحيا ضد الخونة والعملاء والفاسدين، وبالطبع كان الهدف الأكبر هو تصدير ميول السلطات إلى دوائر أوسع من الدوائر المحلية، لتشمل الأقاليم الأفريقية والإسلامية.

تبلورت هذه التوجهات في الميثاق الوطني عام 1962 خصوصا، حين بدأ رجال ماسبيرو المخلصين التماهي مع السياسات المطلوبة لتمرير الأعمال الفنية، وذلك بنوع من الأريحية الجذابة لتذليل العقبات والصعوبات التي قد تواجههم من الرقابة.

 

“هارب من الأيام”.. زعيم عصابة في ثياب مجذوب صالح

ماسبيرو هو اسم المهندس المعماري الذي صمّم مبنى التلفزيون المصري الكائن في كورنيش القاهرة، ولهذا يُسمى مبنى التلفزيون بـ”ماسبيرو”، ورجال ماسبيرو المخلصون هم نور الدمرداش وحماده عبد الوهاب ويوسف مرزوق، وهم الذين ألقي على عاتقهم تكوين الخريطة التلفزيونية الدرامية.

قدّم الدمرداش على سبيل المثال مسلسل “هارب من الأيام”، من بطولة عبد الله غيث، وقصة ثروت أباظة، وسيناريو وحوار فيصل ندا، وتدور أحداثه في منطقة مصرية عن مجذوب يطوف مع أطفال القرية، ونكتشف أن المجذوب الصالح هو زعيم عصابة، حيث يلجأ للانتقام من الأثرياء لصالح الفقراء. قدم الدمرداش أجزاءً رائعة كتبها عبد المنعم الصاوي، وهي الضحية والرحيل والنصيب.

هذه الثلاثية يحاول الكاتب فيها تشريح المجتمع الإقطاعي، بل ويستعرض التفسخ داخل العائلة الإقطاعية نفسها. ولعلنا نشير بملاحظات سريعة هي أن التليفزيون استطاع أن يكون مفرخة لتفريخ النجوم في كل حقول التعبير الفني، وكان بالفعل البوابة السحرية لتقديم معظم الطاقات الفنية للجمهور الذي ينتظر دراما رمضان.

ومن أولئك النجوم -على سبيل المثال لا الحصر- عبد الله غيث وحمدي وغيث وسعيد صالح وعادل إمام ومحمد صبحي وغيرهم، ومن الكتاب لينين الرملي، وكذلك فيصل ندا، ومن المخرجين أحمد بدر الدين وغيرهم. كما ظهرت من نجمات الدراما إلهام شاهين وليلى علوي وغيرهم ممن ملأوا سماء الفن إبداعا وفنا.

كما بدأ يظهر أيضا جيل من المخرجين المساعدين للجيل الأول السابق ذكرهم، وهم محمد فاضل ويحيى العلمي وإسماعيل عبد الحافظ.

قدم محمد فاضل مسلسله الأشهر “القاهرة والناس” الذي يستعرض فيه هموم وأحلام وطموحات الشعب المصري من خلال أسرة مصرية متوسطة، وقدم برمضان السباعيات -وهي اختصار المسلسل المكون من سبع حلقات فقط. كما قدم مسلسل “الفنان والهندسة” من تأليف علي سالم، وقد أظهر من خلاله النجم عادل إمام في أولى بطولاته، كما قدمه أيضاً في مسلسل رمضاني آخر هو “الرجل والدخان”.

 

“سياسة السداح مداح”.. تعرية السينما لعصر السادات

تغير التوجه السياسي في السبعينيات، وخاصة بعد حرب 1973، ثم جاءت سياسة الانفتاح الاقتصادي، ثم زيارة السادات لإسرائيل، وأحداث انتفاضة الخبز أيام 18-19 يناير عام 1977.

كل هذه الأحداث كان لزاما على رجال الدراما أن يتفاعلوا معها سواء بالسلب أو بالإيجاب، فنجد على سبيل المثال محمد فاضل يُقّدم مسلسل “أحلام الفتى الطائر”، من تأليف وحيد حامد، وهو تشريح قاسٍ لمرحلة السبعينيات التي سادت فيها الفردية ونزعات التسلط والاحتكار كنتاج لسياسة الانفتاح الاقتصادي المنفلتة الضوابط التي أطلق عليها الكاتب أحمد بهاء الدين “سياسة السداح مدّاح”، وحينها قَدّم فاضل مسلسلات رمضانية بالغة الأهمية.

المسلسل الأول مسلسل “أيام المرح” لعبد المنعم مدبولي ونورا ونظيم شعراوي، وتأليف عاصم توفيق، وقد جاء المسلسل محملا بإيحاءات المواجهة بين قوى المنفعة البرغماتية ضد قوى الثقافة والعلم المتمثلة بشخص الغازولي (الممثل عبد المنعم مدبولي). ليس هذا فحسب، فقد قَدّم مسلسله الرمضاني الشهير “نجم الموسم” من بطولة محمد رضا، وقد أدى شخصية حنفي الونش الذي يستغله رجل الأعمال البرغماتي، ويصنع منه فقاعة لاستثماره والاستفادة منه، حتى ولو بالكذب والخداع.

كل شيء مباح عند ذلك المحتال الذي يعمل أي شيء من أجل المكسب، فالقيم الجديدة التي كانت متفشية وقت ذاك هي قيم الربح والخسارة من دون روادع أو أخلاق، إنها ثمرة سياسة الانفتاح الاقتصادي غير المخطط له، ليكون في سياق قانوني ومؤسساتي يضمن حقوق الجميع، ويشجع على الاستثمار بشفافية ونزاهة.

 

“أبنائي الأعزاء.. شكرا”.. عودة العرب إلى حضن الشقيقة الكبرى

تنتهي فترة السبعينيات، لنبدأ بمرحلة الثمانينيات التي تبدأ بحادثة مقتل السادات وتولي الرئيس مبارك الحكم، وقد كان من أولويات مبارك كسر طوق العزلة التي فرضت على مصر من قبل الأنظمة العربية بسبب خطوة السلام مع إسرائيل.

مسلسل “أبنائي الأعزاء.. شكرا” هو من تأليف عصام جمبلاطي، وبطولة عبد المنعم مدبولي، أمام الوجوه الجديدة التي أصبحت نجوما بسبب هذا المسلسل، وهم فاروق الفيشاوي وآثار الحكيم ويحيى الفخراني، وشهدت تلك المرحلة عودة صلاح السعدني بعد غياب عن الساحة الفنية.

يدور المسلسل بإيجاز شديد حول جحود الأبناء تجاه آبائهم، إلا أن الأب في هذا المسلسل وبعد أحداث عاصفة استطاع بحكمة وأبوية أن يجمعهم مرة أخرى تحت جناحيه.

لعل هذا العمل كان إرهاصة لعودة مصر مرة أخرى، أو بشكل أدق عودة الأشقاء العرب لشقيقتهم الكبرى مصر، فقد واجه نظام مبارك كيفية حل إشكالية التزام الدول العربية بالمساعدات والاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها مع مصر، وترضية الشارع العربي بدون خسائر من الطرفين.

هنا تدخلت القوى الناعمة فأنتجت مسلسلين من ملف المخابرات العامة المصرية عن الصراع مع جهاز الموساد، وذلك في محاولة استمالة النظام المصري للشارع العربي وحكامه للالتفات لأهمية الدور المصري الوطني. وفي نهاية المطاف كان لهذين المسلسلين نصيب من النجاح، وكانا بمثابة منديل الأمان لنظام مبارك، وتهدئة الجو العام والشارع العربي الذي كان مشحونا ضد مصر.

مسلسل “دموع في عيون وقحة” هو من تأليف الرائع صالح مرسي، وإخراج يحيي العلمي، وبطولة عادل إمام. أما مسلسل رأفت الهجان الذي أرسى نجومية بطله محمود عبد العزيز، فهو من تأليف صالح مرسي، وإخراج يحيى العلمي، وبطولة يسرا ويوسف شعبان.

يتعرض المسلسلان لتفوق المخابرات العامة المصرية على نظيرها جهاز الموساد الإسرائيلي، وبالطبع تقديم النصر بهذه الصورة أثلج قلوب كثيرين، ففي المسلسلين قدمت صورة نوع من النصر الاستخباري على شاشات التلفزيون، ليصبح هو الأساس بدلا من حقيقة الواقع المرفوض من قبل الكثيرين.

 

“الأيام”.. ما وراء سيرة عميد الأدب العربي

يأتي الدور المهم للمسلسلات الرمضانية، وذلك بإرساء صورة لمصر الحديثة التي تقف أمام قوى التخلف والجهل حاملة سلاح العلم وقيم المدنية الحديثة، فكان مسلسل “الأيام” عبارة عن قصة طه حسين و”الأيام”، وهي رواية من أدب السيرة الذاتية عن حياة طه حسين.

المسلسل من إخراج يحيي العلمي، وبطولة الوجه الجديد الصاعد بسرعة الصاروخ أحمد زكي، وقد شاركت في دعم المسلسل دولة قطر متمثلة في تلفزيون قطر، كمساهم رئيس في التمويل. وبالطبع أُنتج المسلسل وعُرض في رمضان ونجح نجاحا باهرا، وكان يؤكد على تمسك مصر بقيم الحداثة ضد الجهل.

كانت جرأة المبادرة بوجود بطل جديد غير معروف وقتها بالمغامرة والمراهنة عليه مغامرة قد لا تكون محمودة العواقب، لكن دولة قطر وافقت على نسبة المشاركة في التمويل غير عابئة بالمخاطر، وكان ذلك موقفا مهما لدولة قطر، ويجب هنا الإشادة بالفنان غانم السليطي الذي كان يُمثّل الطرف القطري، فقد سهل كثيرا من الأمور بحكم وظيفته بالتلفزيون القطري،

تحولت رواية “الأيام” التي كتبها طه حسين إلى مسلسل، وقد كتبها بعد كتابه “الشعر الجاهلي” الذي هوجم وناله ما ناله من تقريظ وهجوم بسبب أزمة ذلك الكتاب المهم، وتلك الأزمة هي دفعت طه حسين إلى كتابة سيرته الذاتية.

 

“هو وهي”.. قيم القبح في مواجهة قيم الجمال

المسلسل الشهير “هو وهي” هو قصة للكاتبة الكبيرة سناء البيسي، وإخراج يحيى العلمي، وقامت ببطولته الرائعة سعاد حسني وأحمد زكي.

كانت القيادة الجديدة لمبارك تؤكد احترامها لقيم المساواة بين المرأة والرجل، وتحاول إظهار أن مصر تحترم عدم التمييز بين الرجل والمرأة، والتأكيد على هذا المعنى من خلال الأحداث الدرامية، كذلك كانت الأغاني المتضمنة في السياق الدرامي جميلة، مثل أغنية “البنات البنات ألطف الكائنات” التي انتشرت وساعدت على انتشار المسلسل.

هكذا سارت سفينة الإعلام المصري بتوجهاته الجديدة، فاستعان بالكاتب الناصري أسامة أنور عكاشة، وكذلك محمد فاضل في مسلسل “الراية البيضاء”، وهو مواجهة بين الطبقة الجاهلة الطفيلية، وطبقة المثقفين التي ظهرت فى عصر الانفتاح الاقتصادي، فشخصية المعلمة فضة المعداوي (الممثلة سناء جميل) تمثل الطبقة الطفيلية، بينما يُمّثل طبقة المثقفين والمتحضرين السفير المتقاعد مفيد أبو الغار (الممثل جميل راتب).

يحمل المسلسل إشارة واضحة للمرحلة الساداتية، وقد سُمح بعرضه لتكون مرحلة مبارك هي مرحلة إعادة ترتيب الأوراق والمناقشة والمصارحة، هكذا كانت النوايا وهكذا كانوا يفكرون.

تابع المشاهدون المسلسل بمتعة شديدة، مع أنه مشوب بسخرية تصل إلى حد البكاء، من جراء تسلّط المعلمة فضة المعداوي، وجهودها لكي تتخلص من الفئات القديمة ذات الطابع الأثري البديع، وهدم قيم تلك الفئات وهدم حياتها وممتلكاتها من أجل بناء برج سكني قبيح. إنها قيم القبح في مواجهة قيم الجمال.

 

“أوان الورد”.. غضب المسيحيين الذي احتواه البابا

بدأ الانتباه إلى ضرورة فتح ملف الأقباط وعلاقتهم بالمسلمين، تلك العلاقة التي شابها ما شابها من خلط للأوراق، فكان لا بد من مسلسل يواجهها ويكشفها ويعرضها بشفافية، دون تحيّز لطرف على حساب طرف آخر.

إنه مسلسل “أوان الورد” من بطولة يسرا وكاتب هذه السطور (هشام عبد الحميد) وسميحة أيوب وعبد الرحمن أبو زهرة ورجاء الجداوي، ومن تأليف وحيد حامد، وإخراج سمير سيف.

أحدث عرض هذا المسلسل دويا شديدا ونجح نجاحا باهرا، لكنه بالمقابل أحدث جدلا واسعا، وبسبب ذلك الجدل قامت مجموعة من المحامين الأقباط برفع قضايا علينا جميعا بدعوى نشر الفجور وتقويض قيم الدين المسيحي، ولم تُحل هذه المشكلة إلا بتدخل البابا شنودة شخصيا، وذلك لإنهاء تلك الزوبعة بدماثته المعهودة وموضوعيته ومنطقه الآسر.

لكن بعيدا عن النزاعات التي أثارها المسلسل، فهو قد ألقى الضوء -لأول مرة- على ضرورة إحياء الشعار القديم المنسي، وهو “إن المسيحيين والمسلمين يشكلون نسيجا واحدا متآلفا في المجتمع الواحد، ولا يصحّ أن تدب بينهما الفرقة أو الصراع غير المحمود العواقب والنتائج”.

في الحقيقة إن أهمية طرح “أوان الورد” تكمن في محاولته إعلاء قيم التراحم والتسامح والمحبة والتعايش بين مختلف الناس، دونما تمييز بين دين أو عرق أو لون، ولعل هذا المعنى الذي طرحه المسلسل بقوة هو سِرّ النجاح الهائل لذلك العمل وقتها، وهذا المعنى عن روعة التعايش حاولت السلطة السياسة المصرية تأكيده من خلال القوة الناعمة.

على أي حال، حاولنا قدر المستطاع أن نُلقي الضوء على كيفية تعامل الأنظمة المختلفة مع القوى الناعمة، وكيفية توجيهها لخدمة توجهات وأفكار ومعاني بعينها، فقد كانت المسلسلات الرمضانية المصرية وما زالت المنبر الهام الذي تعبر منه توجهات الدولة في مراحلها المتعاقبة.