الذاكرة الكاذبة في السينما.. عقولنا التي تتلاعب بنا كما تشاء

إسراء إمام

ذكر “أوليفر ساكس” في كتابه “الرجل الذي يحسب زوجته قبعة” بعضا من حديث المخرج الفرنسي “لويس بونويل” عن الذاكرة في مذكراته البديعة المحرضة والمُلهِمة، فقد خصص “بونويل” لها فصلا كاملا تحدث فيه بلغة متعمقة في روحه ومُتشَبّعة بآلامه وأفكاره.

استدعى “ساكس” تأمل “بونويل” لقيمة الذاكرة، حينما كان بصدد التحدث عن أقصوصته التي قصها حول مريض قد تابع حالته، حيث توقفت ذاكرته عند سنة بعيدة من ماضيه وهو ما يزال شابا، وقد أصبح الآن شيخا.

أخذ “ساكس” يفكر من خلال حديث “بونويل” عن كوننا مجرد ذاكرة، إن فقدناها فُقِدنا فلا يبقى منا شيء، لأن ذاكرتنا هي هوياتنا وأزماننا التي عشناها والتي سنعيشها. أخذ يتساءل عن ما إذا كان لمريضه أمل في النجاة، بينما لا تسعفه ذاكرته في التعرف إلى بقية ماضيه، أو تبني معه مستقبلا ما، فهي تأبى التحرك للأمام، واقفة عند اللحظة الآنية وتاريخ الذكريات البعيد، وبينهما تدور في نفس الدائرة المفرغة، فلا تسجل جديدا ولا تسترجع الماضي بصورة صحيحة.

إنه كابوس، وبالطبع يوجد عدد من الكوابيس الأخرى التي تمثلها الحالات المرضية المزمنة لعطب الذاكرة ويتعلق معظمها بالنسيان والفقد، ولكن كيف يكون الأمر حينما لا يرتبط بعدم القدرة على تذكر الماضي، وإنما اختلاق ما لم يحدث فيه؟

 

ظلال الآخرين على الذاكرة.. صناعة الذكريات الكاذبة

ثمة نمط آخر غريب الأطوار تتصرف به ذاكرتنا، وعلى الرغم من أن هذا النمط غير مرتبط بمرض مزمن يصيبها، إلا أن ذلك يعد سببا كافيا لكي يكون الأمر مرعبا أكثر، لأن كلا منا معرض لأن يعمل عقله الباطن بتلك الطريقة تجاه الذكريات، فماذا لو أننا في مرات -علمنا بشأنها أو لم نعلم- اختلقنا بعض الذكريات التي لم تحدث أبدا، ماذا لو أننا بدلنا بعض الحقائق وغيّرنا في وقائع سابقة حدثت مستخدمين ملابساتها الحقيقية، لنختلق منها أحداثا وهمية نراها غير قابلة للشك ولو بنسبة ضئيلة؟

تقول “إليزابيث لوفتس” أخصائية السلوك الإدراكي، والخبيرة الشهيرة في مجال ذاكرة الإنسان: حين تتحدث على مدار حياتك مع الآخرين عن خبراتهم وتفاصيلها، قد تتغذى ذاكرتك بتلك المعلومات وتُراكمها لدرجة أنك حينما يأتي وقت لتستعيد فيه أحداث واقعة قديمة تخصك، قد تعيد بناء ما حدث فيها وفقا لتلك المعلومات.

إنها حقيقة علمية لا شك فيها، قد تحدث كأمر اعتيادي غير ملفت للنظر، ولكن في سياق آخر، قد تقع داخل إطار خطير، فثمة الكثير من الأبرياء الذين حوكموا نتيجة لآثام ذاكرة شهود العيان، وثمة الكثير ممن انعطفت حياتهم، وتحولت قراراتهم بناء على ذكريات وهمية ضللتهم في أشخاص ذي ثقة، وحملتهم على الإيمان بأشخاص مخادعين.

وهنا سنتحدث عن ثلاثة أعمال فنية تناولت حالات مثيرة للفضول للذاكرة الكاذبة، وهي حالات متخيلة نسجتها الدراما لكي تصور لنا المعاناة التي يمكن أن نحياها إن قررت ذاكرتنا في فترة ما أن تلفق لنا بعض الذكريات الكفيلة بأن تحول بيننا وبين الحقيقة.

كما سيتبين لنا خلال دراسة تلك القصص الدرامية الدور الذي يلعبه العقل غير الواعي في تلك المسألة، وسنتعرف على شيء من ألاعيبه، وسنُدرك مدى خطورته إن حان وقت ما تراجعت فيه سطوة عقلنا الواعي أمامه.

“المذنب”.. جريمة قتل غامضة الأسباب

في المشاهد الأولى من الحلقة الأولى من الموسم الأول من مسلسل “المذنب” (The Sinner) تقوم البطلة بقتل أحد الغرباء على الشاطئ، حيث تطعنه بشكل مفاجئ وعنيف، بينما كانت تهنأ بعطلة سعيدة هي وزوجها وابنها، وتُقطّع شرائح التفاح لطفلها بسكين رفيع حاد، وهو ذاته الذي استخدمته في قتل شاب كان يجلس أمامها. وقد قالت في التحقيقات فيما بعد إنها لا تعرفه، ولا تعرف أيضا لماذا بادرت بمهاجمته بهيستيرية أودت إلى قتله.

ولأن المحقق في القضية شعر بفطرته أن البطلة لا تكذب، وأنها ضحية أكثر من كونها مجرمة، ولأنه أشفق على أمومتها التي ستذهب أدراج الرياح حينما تسجن لأبد طويل بعدما اعترفت بقتلها العمد؛ فقد أخذ يتحرى بدقة حول هذه القضية وملابساتها.

بطلة مسلسل “المذنب” التي قامت بقتل أحد الغرباء على الشاطئ تحاول استعادة ذاكرتها

 

استفزاز البطلة.. إعادة الجريمة ضد المحقق

اكتشف المحقق في البداية من أقوال صديق القتيل الذي شهد الواقعة أن المجني عليه كان مفتول العضلات قادرا على صد هجوم البطلة، وأنه على الرغم من ذلك ما إن مَيّز ملامحها حتى ترك لها نفسه، وكأنه يستحق عقابها، أي أنه يعرفها تمام المعرفة.

عرف أيضا أن البطلة بدأ يجن جنونها تحديدا حينما أدار هو وزملاؤه أغنية بعينها على جهاز الستريو الذي أحضروه معهم، وما إن تعالى صوت الأغنية جليا، حتى قامت البطلة واهتاجت وهاجمت صاحبهم.

وفي إحدى جلسات المحقق مع البطلة أدار الأغنية على سمعها ثم أخذ يستفزها، فقامت وهاجمته بنفس الطريقة، والحقيقة أن تطابق بادرة الهجوم كان مذهلا، وذلك لأنها ضربته بقبضة يدها سبع ضربات في أماكن بعينها، وهي الأماكن ذاتها التي طعنت فيها القتيل الشاب الذي كان عدد طعناته سبعة أيضا.

بطلة مسلسل “المذنب” تخضع لجلسة تنويم إيحائي في حضور المحقق والطيبة، ليساعدها على استدعاء ذاكرتها بصورة مكتملة

 

طيف الكوابيس المتكرر.. بداية ألاعيب الذاكرة

بعد مشقّة رضيت البطلة أن تتعاون مع المحقق، لكنها على الرغم من ذلك لم تكن قد تذكرت شيئا ذا قيمة، فقد أخبرته مثلا أنها كانت حاملا في وقت من الأوقات، وأُجبرت على أن تلقي بنفسها أمام أقرب سيارة لتموت أو تجهض.

إلى جانب معايشتنا كمتفرجين لكوابيسها التي كانت تزورها كل يوم بشيء من الوقائع المبتورة، فنراها مرة وهي مُحتَجزة بنصف وعي فوق فراش داخل غرفة مغلقة، بينما يزورها رجل ملثم يتناوب على إعطائها حقنة ما، ثم نراها في مكان آخر وهي تتوسل لأحدهم، بينما يُطبِق هذا الشخص على صدرها بقدمه، فنستمع إلى صوت تهشم واضح لأحد ضلوعها. كما أنها ترى كابوسا آخر باستمرار، وتظهر فيه فتاة شقراء تناديها لكي تنزل معها إلى قبو غامض.

ولشدة تعقيد الوضع يلجأ المحقق لطبيبة تنويم إيحائي، لتساعد المتهمة على استدعاء ذاكرتها بصورة مكتملة، وتبدأ المرحلة الأكثر تعقيدا من صور الذاكرة الكاذبة في تلك القصة.

 

جثة في حافلة مدرسية.. قدرة العقل الباطن على التلفيق

تبدأ البطلة في سرد قصة نشأتها مع أمها المزعجة وأختها المريضة، فتُوَضح الإحساس بالذنب الذي شب معها بعد أن أقحمته والدتها على مشاعرها، باعتبارها دوما آثمة في حق أختها الصغيرة الراقدة في الفراش، لدرجة أنها كانت تحرمها من حق ممارسة سعادتها، لأنها ستكون سببا في زيادة بلاء المرض على أختها.

كانت تقطع تلك الذكريات المتدفقة على ذهنها صورة بصرية لحافلة مدرسية تمر مسرعة على الطريق، وحينما تساءلت البطلة عن معنى مرور تلك الحافلة في سياق لا يلائم حكيها أفادتها الطبيبة حينها بأن الحافلة مجرد رمز لمقاومة سيل الذكريات الذي يُفرَج عنه بداخلها.

تظل تفصيلة الحافلة عالقة في ذهن المحقق، وفي إحدى جولاته على طريق قريب من بيت عائلة البطلة يلمح حافلة مدرسية عتيقة بنفس المواصفات مدفون معظمها في التراب، وحينما يأمر قوة خاصة من الشرطة بالنبش في أثرها يكتشفون جثة فتاة.

إذن فعقل البطلة الباطن كان يبث لها صورة الحافلة المدرسية في حالتها العادية، ليُضللها في الوقت ذاته عن ذكرى قصة الجثة المدفونة بجانب الحافلة القديمة، فهو واقعيا لم يقو على محو الذكرى، لكنه لم يطلق سراحها بصورة واضحة، وإنما عبث بها لكي يشوش وجودها بطريقة أخرى.

اكتشاف جثة الفتاة يجبر عقل البطلة على ضرورة التذكر، ولكنها تتذكر صورا عشوائية من ليلة ترى فيها نفسها هي والفتاة التي تناديها لينزلا سويا إلى القبو مختبئين في بحيرة من مطاردين مجهولين واقفين أعلى التل ويصيحون بحثا عنهم، وعند هذه المعلومات التي لا قيمة لها يكف دماغ البطلة عن تذكر أي شيء آخر.

 

قبو بداخل أحد النوادي.. عودة الذاكرة الحقيقية

يحيا الأمل في البحث عن أثر براءة البطلة من جديد، حينما يجد المحقق ناديا للأثرياء بالقرب من منطقة اكتشاف الجثة، وفي داخل هذا النادي يكتشف قبوا شبيها بذلك القبو الذي وصفته البطلة من كوابيسها، فيحصل على إذن اصطحاب البطلة للمكان، وهناك تعود لها ذاكرتها الحقيقية.

لم تكن البطلة يوما حاملا، بل الفتاة الحامل هي تلك الفتاة الشقراء التي كانت تظهر في أحلامها وتناديها لكي ينزلا القبو، وقد كانت تلك الفتاة غريمتها، حيث كانت تنافسها على حب شاب كانت معجبة به، وقد سمعت البطلة من قبل حكايتها السابقة عن حملها ذات يوم، وإقبالها على الانتحار، فقام عقلها الباطن بتخزين تلك المعلومة، وبَدّلها كعادته، لكي يُلوث ذاكرة البطلة، فجعلها تتذكر أنها هي من كانت حاملا.

في تلك الليلة المشؤومة  لم تكن تلك الفتاة غريمتها هي التي تناديها لكي ينزلا القبو، بل كانت أختها الصغيرة المريضة التي أصرت أن تخرج معها، وهناك في قبو ذلك النادي ماتت عن طريق الخطأ، لأن جسدها كان هشا جدا، فلم تحتمل مزاح شاب من الشباب هناك (الشاب الذي قتلته البطلة في أول حلقات المسلسل) فتهشم أحد ضلوعها، وتوقف قلبها عن الخفقان، وحينها قامت البطلة وهاجمت قاتل أختها الذي كان مذهولا مما حدث، فضربته سبع ضربات على جسده، كعدد الطعنات التي ضربتها له على الشاطئ، بينما كانت أغنية الشاطئ تلك دائرة في خلفية جلسة المرح في تلك الليلة.

أتى والد الشاب الثري ليلتها، وقام هو والآخرون بدفن أخت البطلة بالقرب من الحافلة العتيقة متجاهلا اعتراض ابنه على ذلك التكتم باعتباره جريمة، بينما كانت البطلة تراقبهم في نصف وعي عاجزة عن فعل شيء، لأنهم كانوا قد ضربوها ضربة قوية على رأسها لكي تهدأ، ولأن ذلك الوالد لم يقو على قتل البطلة فإنه قام بحبسها في غرفة مغلقة في بيته لشهور طويلة، وقام بحقنها يوميا بعقار مُخَدر، لكي يمحو ذاكرتها من جهة، ويُفقِدها أهلية أقوالها -إن تذكرت- من جهة أخرى باعتبارها مدمنة مخدرات سابقة لا يعول على حديثها.

لم تتحمل البطلة صدمة موت أختها بتلك الطريقة، خصوصا وأنها نشأت بالشعور الدائم بالإثم، فقام عقلها الباطن بتبديل وجود أختها معها في تلك الليلة بوجود الفتاة الشقراء غريمتها، ولأنها كانت تشعر من داخلها بأن هؤلاء الشباب قتلوا أختها غدرا، فقد رأتهم في تلك الذكرى الوهمية يطاردونها هي وأختها (الفتاة الشقراء)، بينما كانتا تختبئان في مكان مظلم بالبحيرة.

ولأنها لم تتخلص أبدا من الشعور بالذنب، فقد كانت ترى نفسها في محل أختها الصغيرة في كوابيسها، وتتوسل للشاب قبل أن يتهشم ضلعها، وكأنها تعاقب نفسها مرارا، وتتمنى بغير وعي أن تكون هي من تعرضت لتلك الوفاة المجحفة.

الموسم الأول من مسلسل “المذنب”، يعتبر من أقوى الأعمال الفنية التي قدمت معالجة عن الذكرى الكاذبة، والدور الذي يلعبه العقل الباطن في خلقها.

 

“الندم”.. ممارسة جماعية لطقوس شيطانية

في فيلم “الندم” (Regression) -الذي أنتج عام 2015- تتهم إحدى الفتيات والدها بأنه كان منضما في فترة طفولتها إلى إحدى الجماعات الغامضة التي تمارس عددا من الطقوس الشيطانية، وتعلن الفتاة أن والدها قد مارس عليها بعض هذه الطقوس الغاشمة هو وجدتها التي كانت فردا آخر من أفراد تلك الجماعة الغريبة.

حينما تسأل الشرطة الأب عن أقوال ابنته يفيد بأنه لا يتذكر شيئا، لكنه يؤكد أن صغيرته لا تكذب، وأنها إن قالت ذلك فذلك يعني أنها بالفعل تعرضت لتلك الإساءات منه، ولكي تتمكن الشرطة من القول الفصل في القضية لجأت لمُعالِج بالتنويم الإيحائي، وبالفعل بدأ الوالد يتذكر ذكريات مشوشة تفيد بأنه أساء إلى ابنته على النحو الذي وصفته.

أما الجدة فقد نفت بشدة في البداية، ثم بدأنا نراها كمتفرجين وهي تعاني من تيار ذكريات يحمل صورا مخيفة كتلك التي حكت عنها حفيدتها، وباتت تلك الذكريات تنغص عليها الحياة في منزلها، لدرجة جعلتها تلقي نفسها من النافذة. حتى أخو الفتاة، حينما يخضع لواحدة من جلسات التنويم الإيحائي نراه يروي بعضا من تفاصيل تلك الحياة الكابوسية في منزل أبيه وجدته، وحينها تصبح القضية مكتملة، ويبدو كل شيء على ما يرام.

 

“العقل هو الكون كله”.. هيستيريا جماعية وذكريات مضللة

شيء واحد يقلب الأمور رأسا على عقب، فمنذ بداية القضية كان المحقق المسؤول عنها يتعاطف بشدة مع الفتاة ضحية الإساءة، ويستمع منها إلى تفاصيل الوقائع التي ترويها، وبناء عليها بدأ يتخيل تلك التفاصيل وهي تحيط به دوما، وحينما زادت الرؤى التي تطارده أخبرته الفتاة أنه ربما قد أصبح هدفا للشياطين التي تخدمها طائفة أبيها وجدتها، لأنه يسعى لمساعدة الفتاة وكشف الحقيقة.

في مرة من المرات كان الشرطي يسير بشارع عمومي، فوجد وجه المرأة المخيفة -التي سبق وأن زارته في أبشع كوابيسه التي تبدو حقيقية- على مُلصق إعلاني كبير، فوقف يتأملها جيدا، وقد أدرك أن عقله هو الذي صنع تلك الهلاوس كلها، لأنه استغرق تماما في تفاصيل تلك القضية وأجوائها.

فقد استخدم ذهنه كافة المعلومات التي جمعها عن طقوس الطائفة، ونسج تلك الرؤى التي بدت حقيقية للغاية لدرجة أوهمته أنه أصبح تحت طائلة الشيطان، ولأن عقله وحده هو من يفعل ذلك، فقد أضاف أيضا على معلومات القضية شيئا من معلومات مخزونه الخاص، كوجه امرأة رآها يوما في ملصق إعلان عمومي، واستدعاها فيما بعد لكي تلعب دور البطولة في واحدة من الهلوسات التي أرعبته.

وهذا يعني شيئا آخر أكثر خطورة هو أن ذكريات الأب والجدة والحفيد قد تبدو وهمية أيضا، لأن تلك الذكريات لم تواتهم إلا بعد الاستماع لادعاءات الفتاة بتفاصيلها، أي أنهم كشرطيين وبدون قصد أدخلوا إلى رؤوس هؤلاء الناس تلك المعلومات التي أرادوهم أن يستدعوها، وقد نجح ذلك بالفعل تحت وطأة الشعور بالذنب الذي أجبر عقولهم الباطنة على استحضار ذكريات وهمية بفضل جلسات التنويم لكي يعترفوا بإثمهم طمعا في الراحة بدلا من الإنكار الذي سيزيد من صراعاتهم ويمدها.

مع تطور الأحداث تأكد الشرطي من ظنه واكتشف كذب الفتاة، وبالتالي كذب كل الذكريات التي سردها الأب والابن والجدة، وقد أطلق الطبيب النفسي المشارك في القضية على الحالة التي وقع الجميع في أسرها وكانت سببا لاستدعاء تلك الذكريات الوهمية وصف “الهيستيريا الجماعية”، وأكد الطبيب أن العقل البشري قادر على فعل ذلك وأكثر، ولهذا فهو يخبر طلابه دائما “أن العقل هو الكون كله”.

 

“فتاة على القطار”.. إسقاط إخفاقاتنا على حياة الآخرين

في بداية فيلم “فتاة على القطار” (The Girl on The Train) الذي أنتج عام 2016 نرى البطلة وهي تعاني من آثار الإدمان المزمن للكحول الذي فقدت بسببه بيتها وزوجها وعملها، وأصبحت في مرحلة خطرة من حياتها، حيث تستقل القطار ذهابا وإيابا من مكان عملها وإلى منزل صديقتها بدون أدنى طائل سوى إضاعة الوقت.

اعتادت الفتاة في رحلتها اليومية خائبة المسعى تلك أن تراقب حياة زوجين شابين، فكان ذلك هو الشيء الوحيد الباقي في حياتها الذي يسبب لها بعض الراحة، لأنها كانت ترى فيه الأمل الذي تهدم في حياتها الزوجية لدرجة أنها حينما تشعر أن زواج هذا الثنائي في خطر -عن طريق المشاهد التي تتمعنها بدقة كل يوم من خلال شرفة الزوجين أثناء توقف القطار في تلك المحطة- تضع كل اللوم على الزوجة، وكأنها ترى فيها إسقاطا لنفسها، فترى فيها امرأة مقبلة بغشاوة على تدمير عائلتها.

بطلة فيلم “فتاة على القطار” تحكي لطليقها عن مهاجمة زوجته الجديدة لها وهي مُتيقنة بشكل كامل بذلك

 

تتبع في نفق مظلم.. ليلة دامية ملتبسة التفاصيل

نرى الفتاة وقد شربت الكحول حد الثمالة، وقامت بتسجيل فيديو وهي تتوعد بدون وعي تلك الزوجة لدرجة أنها تحلم بقتلها، وتصف تحديدا الطريقة التي ستقتلها بها، وفي نفس الليلة تنزل البطلة من القطار، وتتبع  امرأة ترتدي معطفا أحمر قصيرا واقيا من المطر، ثم تمشي خلف تلك المرأة في نفق مظلم، ولا نعرف بعدها ماذا حدث.

تستيقظ البطلة بعد تلك الليلة والدماء على ملابسها، ولا تعرف حقا ماذا حدث في الليلة الماضية، فعادة وحينما كانت تدخل في حالات مماثلة من غياب الوعي إثر شربها للكحول كان زوجها هو من يقُص عليها ماذا حدث، لكن في تلك الليلة لم تجد من يخبرها بذلك.

بعدها تُقرر التداوي من إدمانها، ولكن ما إن تستمع لخبر يقول إن تلك الزوجة قد وجدت مقتولة، فإنها سرعان ما ترى ذكرى لنفسها وهي تقوم بقتلها، حيث تخبط رأسها في حائط أرضية مطبخها عدة مرات.

ترتعب البطلة من فكرة كونها قاتلة، وتظل طوال الفيلم تحاول تذكر حقيقة ما حدث في تلك الليلة، وفي مرحلة ما تتذكر البطلة هوية المرأة ذات المعطف الأحمر التي تتبعتها في النفق، حيث تؤكد لطليقها أن زوجته الجديدة هاجمتها في ذلك النفق المظلم، بينما كانت ترتدي معطفا أحمر.

تتهم البطلة امرأة طليقها بتلك الفعلة وهي على يقين تام منها، حيث تراها كذكرى واضحة في رأسها، مثلما تعود لها الذكريات الموجعة بشأن تصرفاتها مع زوجها أثناء عيشهما معا، وبعد وصول الذروة في إحدى مرات شربها للكحول، نراها تهشم مرآة ما بالقرب منه وهي في حالة اهتياج، كما نراها تتعامل بوقاحة مع زملاء زوجها في حفلة عمل، فتقلب صحون الطعام وتدخل في نوبة ثورة عشوائية بدون وعي.

بطلة فيلم “فتاة على القطار” في إحدى جلسات علاج إدمان الكحول، بعد أن شربته حدّ الثمالة مرات عديدة

 

زوج مضلل وذات مزيفة.. لحظة اكتشاف الحقيقة

الحقيقة أن المرأة المسكينة صنعت لنفسها ذاتا مزيفة قبيحة الصفات نتيجة لكونها عاشت محاصرة بذكريات كاذبة بخصوص تصرفاتها أثناء حياتها الزوجية، وما أعاد لها بعضا من وعيها الحقيقي كان مقابلة حدثت بالصدفة مع إحدى زميلات زوجها، فقد أكدت لها أنها لم تقم بتلك الأفاعيل المخزية التي سرد لها أنها فعلتها يوم الحفلة، وإنما شعرت يومها ببعض الغثيان، فاصطحبها البعض لكي ترتاح في الفراش، كما أخبرتها أيضا أنها طالما أشفقت عليها لأنها كانت تراها في صحبة زوج لئيم معروف بسوء أخلاقه وسمعته المشينة.

حينها فقط توافدت الذكريات الحقيقية على عقل البطلة، فرأت أن زوجها هو الذي كان يهشم مرآتها فوق رأسها وليست هي، وهو أيضا من كان يعتدي عليها بالضرب قبيل نوبات غيابها عن الوعي.

وفي تلك اللحظة جرت إلى النفق لمحاولة استدعاء ذكريات الليلة المزعومة، وبالفعل ساعدها وجودها في مكان الحادث -بالوعي الطازج الذي أصبغته عليها تلك المقابلة مع زميلة زوجها- على التذكر بأن المرأة ذات المعطف الأحمر كانت الجارة الشابة التي قُتلت، وأنها بالفعل تبعتها إلى داخل النفق، ورأتها وهي تقابل طليقها الوغد الذي طالما كذب عليها.

وما إن لمحها الطليق في بداية النفق حتى أتى إليها، ليمنعها من رؤيته مع الفتاة الشابة التي يستغلها كعادته، ولكي يتأكد من دخولها في نوبة عدم وعي قام بضربها بعنف على رأسها بكومة مفاتيحه الثقيلة، مما سبب لها جرحا أخذ ينزف على ملابسها حتى الصباح. إذن فقد كان هو من قام بضربها، وليست زوجته الجديدة. هذه الذكرى أيضا كانت ملفقة.

كان “بونويل” محقا في وصفه للذاكرة بأنها هويتنا، فهذه السيدة عاشت بهوية غير حقيقية فترة لا بأس بها بسبب وقوعها فريسة لزوج مريض قاتل يهوي تدمير كل النساء الجميلات الموجودات بالقرب من محيطه، فماذا كان من الممكن أن يحدث لحياة تلك البطلة إن لم تقابل زميلة زوجها بالصدفة في ذلك الوقت الحاسم؟