“الذهب المسموم”.. جوهانسبرغ الغنية التي تقتل نفسها وأبناءها

قيس قاسم

يكشف الوثائقي السويدي “الذهب المسموم” (Jozi Gold) أسرارا مخيفة تتعلق بانتشار المواد المشعة في الجبال والمناطق المحيطة بالعاصمة جوهانسبرغ، ومن خلال ناشطة مدنية يتوصل إلى أن مناجم الذهب هي وراء تسريب الكميات الكبيرة من مادة “اليورانيوم” الخطيرة وأن سكان “مدن المناجم” لم يعرفوا بوجودها بسبب تكتم أصحاب المناجم وتواطؤ الحكومات المتعاقبة معهم لإبقاء أمرها طي الكتمان.

مرافقة صانعي الوثائقي “سيلفيا فولينهوفن” و”فريدريك غيرتِن” وتوثيقهما لتحركات الناشطة الجنوب الأفريقية “ماريت ليفرينك” أثمر عن فيلم متفائل بالرغم من سوداوية وكآبة الصورة المنقولة عن الوضع في المناطق الملوثة في جوهانسبرغ، لأنه يقدم تجربة ناجحة ونادرة لناشطة استطاعت تغيير الكثير من المشهد التراجيدي، وذلك بفضل جدّيتها وإصرارها على كشف الحقيقة التي انتقلت عدواها إلى السكان المحليين، وحفزتهم على المطالبة بالكشف عن المُسبب الحقيقي لأمراضهم وموتهم.

 

أنفاس منجم “بليفور” القاتلة.. مصرع السكان وتشويه الأجنة

في مفتتح الوثائقي تظهر الناشطة المدنية وهي ترتدي ملابس أنيقة متجولة في المناطق المحيطة بمنجم ذهب “بليفور” الذي توقف العمل به منذ عدة سنوات. تُخبر صُناع الوثائقي بالآثار التدميرية التي تركها المنجم المهجور على عماله وعلى البيئة التي يعيشون فيها، فقد رفعت البطالة بحدة نسب الفقر بينهم، وانعكس تأثيره على مستوى حياتهم، إذ يعيش أغلبيتهم في أكواخ من صفيح.

عدا هذا الحديث العابر نرى الناشطة وهي تذهب لأخذ عينات من حفرة قريبة تجمَّع فيها الماء المتسرب من جوف المنجم، ونلاحظ أن لون الماء أسود بسبب ارتفاع نسب المعادن الثقيلة فيه، لكن هذا ليس هو الأكثر أهمية في بحثها، فهي تريد تنبيه الناس المُقيمين بالقرب منه إلى وجود نسب عالية من اليورانيوم (مادة مشعة مسرطنة) كانت تستخدم في عمليات التنقيب عن الذهب واستخراجه، ولم يجرِ الكلام حولها مطلقا.

لمزيد من الشرح يقدم الوثائقي عبر رسومات توضيحية مقاطع من عمليات التنقيب والتصفية الجارية داخل المناجم، وللتأكد من مطابقة الصورة مع الواقع؛ يذهب لمقابلة عمال عملوا لسنوات في المناجم، فكلامهم يعزز شكوك الناشطة.

كثيرون أكدوا وفاة زملاء لهم بأمراض سرطانية، ونساء أكدن ظاهرة الولادات الحديثة المشوهة خلقيا، حيث أثارت الناشطة مخاوفهم من مغبة السكوت والمضي في العيش بالقرب من مياه سامة، وأغبرة منتشرة في الجو فيها نسب كبيرة من اليورانيوم يستنشقونها في كل لحظة.

الناشطة الجنوب الأفريقية “ماريت ليفرينك” تفحص أماكن تسرب اليورانيوم إلى باطن الأرض في العاصمة جوهانسبرغ

 

أتربة اليورانيوم السامة.. حصار المدينة بين الجبال والغبار

تنتقل الناشطة ومعها فريق العمل إلى الجبال المحيطة بجوهانسبرغ، لتقدم نبذة تاريخية عن العاصمة التي عُرفت بغنى أراضيها بمعدن الذهب النفيس.

وقوعها بين مرتفعات جعلها محاصرة بجبال من النفايات السامة، لأن عمليات حفر المناجم كانت تجري في تلك المرتفعات، وبعد العثور على كميات وافرة منه داخلها تحفر الأنفاق، وفي المصانع القريبة منها تجري عمليات تنقية الصخور وأخذ الذهب الصافي منها.

كميات الأتربة المستخرجة خلال الحفر والتصفية تُنقل إلى الجبال، ومع الوقت أضحت تلك الأتربة مستودعا لليورانيوم، والرياح كفيلة بنثره في الهواء، ومياه الأمطار تسربه إلى باطن الأرض.

المناطق السكنية على سفوح الجبال التي كانت خضراء مليئة بالأشجار، واليوم جرداء تربتها تغطيها أغبرة بيضاء اللون

 

سفوح الجبال الخضراء في الذاكرة.. مدينة تغتال وشعب يحتضر

تكشف جولات الوثائقي عن حقائق مخيفة حول الآثار التدميرية للغبار والمياه الملوثة على صحة الإنسان والبيئة.

أما سكان المنطقة فيستذكرون طفولتهم ولعبهم على سفوح الجبال التي كانت خضراء ومليئة بالأشجار، بينما هي اليوم جرداء تربتها تغطيها أغبرة بيضاء اللون.

وعن سبب تَغيّر لون سطوحها تسأل الناشطة علماء فيزياء يقدمون لها توضيحات موجزة بأن كل المواد المشعة التي لها علاقة باليورانيوم موجودة في ذلك الغبار، مثل مادة “سترونتيوم” التي يتسبب تسربها إلى داخل جسم الإنسان في تغيير تركيبة خلاياه، كما أنها تتسبب في تشويه الأجنة داخل الأرحام.

جولة في المناطق السكنية أسفل “المرتفعات اليورانيومية” تكشف حجم انتشار الغبار، ففي محل بيع مواد غذائية يرتدي العمال طيلة وقت عملهم كمامات واقية بسبب كثرة الغبار الموجود الذي يغطي كل البضائع والأطعمة الموجودة داخل المحل، وقد أكد بعض الأمهات إصابة أطفالهن بحساسيات جلدية وصعوبات في الجهاز التنفسي.

الناشطة الجنوب الأفريقية “ماريت ليفرينك” تسير وسط ألغام المواد المشعة التي تسبب أضرار صحية كبيرة للسكان

 

“خطر على الأمن القومي”.. مخلفات عصر الأبارتهايد

ولإدراك حجم الكارثة يذكر الوثائقي أن حوالي ربع سكان جنوب أفريقيا يعيشون في العاصمة، وبالتالي فإن حجم الأضرار الصحية المسكوت عنها مخيف.

السكوت عن الحقائق متفق عليه بين الحكومات وأصحاب المناجم، ويتجلى ذلك في تهرب المسؤولين الحكوميين ومدراء مكاتب المناجم العملاقة من مقابلة الناشطة والمماطلة في الإجابة على أسئلتها، وسيدفعها صدهم وتهربهم إلى مقابلة أشخاص مطلعين على حقائق الأمور.

من بين هؤلاء الأشخاص المطلعين الذين وصلت إليهم الناشطة رجل أبيض عمل في أجهزة الأمن الصناعي خلال حقبة الأبارتهايد وما بعدها. من بين ما يفضحه أن العلماء نبهوا منذ فترة مبكرة إلى المخاطر المترتبة على استخدام اليورانيوم في عمليات التنقيب وتنقية الذهب، إلا أن الجهات الرسمية المعنية بحماية البيئة والمواطن تجاهلتها، وقامت بحفظ التقارير منعا لانتشارها.

كما يذكر لها حقيقة أنه من أجل استخراج 10 أطنان فقط من الذهب الخام، لا بد من استخدام كميات كبيرة من اليورانيوم أو مواد أخرى يدخل في تركيبها، ويكشف أيضا أن الأجهزة الأمنية كانت تضع علامات على الأشخاص الذين يطرحون موضوع الإشعاعات، ويدرجون أسماءهم في قائمة “خطر على الأمن القومي”.

مياه بحيرة “روبنسون” التي تصل نسبة اليورانيوم المتحللة في مياهها أكثر بـ40 ألف مرة من النسبة المسموح بها عالميا

 

جريمة اليورانيوم السرية.. تحالف المال والسياسة

ما زال موضوع اليورانيوم إلى اليوم سريا، بالرغم من وجود أكثر من 600 ألف طن منه منتشر فوق جوهانسبرغ، مما يجعلها واحدة من أكبر المدن الملوثة باليورانيوم في العالم.

وللتأكد من صحة الإحصائية يرافق الوثائقي الناشطة التي أخذت عينات من بحيرة “روبنسون” وأرسلتها إلى مختبر مختص، وقد كانت النتيجة كارثية، فنسبة اليورانيوم المتحللة في مياهها وصلت 40 ألف مرة أكثر من النسبة المسموح بها عالميا، ورغم ذلك فإن مياهها تستخدم في ري المزروعات التي يأكلها الناس، فيتسرب ما فيها من يورانيوم إلى أجسادهم دون علمهم.

تلفت السرية الرسمية حول وجود اليورانيوم انتباه الوثائقي ليقوم بالتحري والاستقصاء عن أسبابها، ومن بين ما يكشفه التاريخ أن الذهب كان وما زال المصدر المالي الأول لخزينة الدولة، فمن الضرائب المفروضة على منتجيه يدخل إليها مردود جيد، لكن المشكلة أن المال لا يذهب إلى الناس العاديين، ولا ينفق لخدمتهم، بل يدخل في جيوب السياسيين والموظفين الفاسدين.

ومن الحقائق الأخرى أن كثيرا من كبار السياسيين يشغلون مواقع مهمة في إدارات شركات المناجم الكبيرة، ولهم أقارب فيها يضمنون لهم مدخولا وامتيازات خيالية، لهذا فهم يسكتون على جرائمها ضد عامة الناس والبيئة.

في أعماق أحد المناجم المهجورة يبحث أحد العمال العاطلين عن العمل عن بقايا الذهب هناك

 

تنقيب في أعماق المناجم المهجورة.. آثار البطالة والفقر

يدفع الفقر والبطالة الناتجة عن الفساد والتواطؤ العمال العاطلين عن العمل للبحث عن بقايا الذهب في أعماق المناجم المهجورة، فيُقيمون تحت الأرض أياما ويخرجون منها وقت توفرهم على ما يريدون بيعه في الخارج. ورغم مخاطر انهيار الدعائم الخشبية المهترئة وفساد الهواء داخل الأنفاق، فإن أعدادا كبيرة منهم تواصل العيش داخلها، وتنقب عن ما يسدّون به رمقهم.

سوء الأحوال الصحية والبطالة هما نتاج هجرة الشركات للمناجم بعد أن أخذوا آخر عرق من عروق الذَهب فيها، وعليها سيجري التخطيط للضغط من أجل انتزاع بعض الحقوق.

تحاول الناشطة إقناع الناس والعمال بالمطالبة بحقوقهم، وبأهمية توفير شركات استخراج الذهب سكنا بديلا عن ذاك الذي كانت توفره لهم في السابق بالقرب من المناجم، بعد أن باتت تشكل تهديدا حقيقيا لصحتهم وصحة عوائلهم.

ستتسع الحركة المدنية بعد انضمام أكثر من 50 ألف مواطن إلى الجمعية التي أسستها الناشطة، ومن خلالها تنظم اللقاءات والحوارات التي أثمرت برنامجا للضغط على الحكومة للعب دورها، وعلى الشركات لتتخلص بنفسها من بقايا المواد المسرطنة المتسربة عبر الغبار والمياه.

وقفة احتجاجية للعاملين في المناجم مطالبين من أصحاب المناجم توفير سكن لهم بعيدا عن المناجم يضمن صحة عوائلهم

 

دوامة المماطلة.. شكوى ضد الحكومة رأس الأخطبوط

خلال نشاطهم المطلبي انتبه المحتجون إلى أسلوب اعتمدته الشركات القديمة، ويتمثل في توزيع حقوق ملكيتها على شركات متعددة صغيرة، بحيث يصعب على المطالبين بحقوقهم العثور على شخص محدد مسؤول عن المشكلة. أما المالكون الجدد للمناجم فيتذرعون بحجة عدم معرفتهم بالقضايا المطروحة الآن، وأن على المحتجين ملاحقة المُلاك الأوائل لها.

هذه الدوامة الحقوقية وجدت الجمعية حلا لها يتمثل بتقديم شكوى ضد الدولة نفسها، وسيكون عليها جلب أصحاب المناجم القديمة إلى المحاكم. تنجح المساعي ويستدعى قسم من المُلاك القدامى إلى التحقيق في انتظار محاكمتهم لاحقا، كما ينجح السكان في الحصول على سكن بعيد عن المناجم المهجورة بديلا عن السكن القديم.

لم تنته المشاكل كلها، فما زال هناك الكثير مما ينبغي عمله من قبل الحكومة من أجل معالجة المشاكل البيئية في جنوب أفريقيا المُسممة باليورانيوم، لكن تجربة الناشطة وتعاونها مع السكان أعطت أملا وثقة بقوة الضغط الشعبي، من أجل استحصال الحقوق المشروعة لسكان واحدة من أغنى المدن.