“الرجل الأول”.. حكاية وصول الإنسان إلى القمر

 

أسماء الغول

لم يكن “نيل آرمسترونغ” الذي كان أول من وضع قدمه على القمر بطلا خارقا، بل رجلا قادما من الخذلان، فكانت تلك الخطوة التي خلدها التاريخ بالنسبة له تحديا ينسى به ألما قديما.

وثّق فيلم “الرجل الأول” (First man 2018) الذي يتناول سيرة “آرمسترونغ”؛ تلك القصة الشخصية في حياته، وحزنه العميق على ابنته “كارين” التي توفيت طفلة بسبب سرطان الدماغ، ولم يستطع “آرمسترونغ” مساعدتها على الشفاء، لكنه هزم المجهول وخطا أول خطوات على سطح القمر.

مأساة “نيل آرمسترونغ” وسيرته ليست هي ما هدف الفيلم إلى إبرازه، بل تشعر أنها خلفية لحكاية أخرى أصيلة، وهي حكاية وصول الإنسان إلى القمر من لا شيء، وذلك حين قررت وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” الهبوط على سطحه خلال ستينيات القرن الماضي، دون سابق معرفة كيف يمكن أن يحدث هذا الوصول.

معركة الفضاء.. قصة تحدٍ

يوثق الفيلم قصة الإنسان مع معركة الفضاء عبر حكاية “مشروع جمناي” (Project Gemini)، وهو ثاني برنامج فضائي تطلقه “ناسا” برحلات مأهولة بلغ مجموعها عشر رحلات خلال الستينيات، وذلك بهدف تطوير تقنيات السفر في الفضاء، لتطبقها بعد ذلك في رحلات برنامج “أبولو” للوصول للقمر لأول مرة في التاريخ.

وقد حقق برنامج جمناي مهمات تفي بإتمام الذهاب إلى القمر والرجوع إلى الأرض مثل التمكن من العمل خارج السفينة الفضائية، والمناورات المدارية لتحقيق عمليتي الالتقاء بين مركبتين واقترانهما، وتمت جميع رحلات البرنامج من قاعدة “كيب كانافيرال” للقوات الجوية في فلوريدا.

يوثق الفيلم (133 دقيقة) هذه الرحلات والتجارب، كما يعرض لمحات من حياة رواد فضاء أقل شهرة من “آرمسترونغ” فقدوا حياتهم خلال رحلة الوصول إلى القمر، إضافة إلى احتراق مشاريع ومركبات بملايين الدولارات. ويبرز الفيلم الإصرار على النجاح، ومحاولة التغلب على الاتحاد السوفياتي الذي كان يسعى أيضا للوصول إلى القمر في ذات الفترة.

يوثق الفيلم قصة الإنسان مع معركة الفضاء عبر حكاية “مشروع جمناي” ثاني برنامج فضائي تطلقه “ناسا”

 

الوصول إلى القمر.. ارتواء بعد عطش

يبدو أن هذا التحدي انتقل بالعدوى إلى المخرج الشاب “شازل داميان” ليقدم شيئا مختلفا تماما عن أفلامه الموسيقية السابقة التي كان أشهرها “لا لا لاند” و”ويبلاش”، بعد أن بدأ قراءة كتاب “الرجل الأول.. حياة نيل آرمسترونغ” (First Man: The Life of Neil A. Armstrong) للفيزيائي والمؤلف “جيمس هانسن”، قبل حتى أن يصنع فيلم “لا لا لاند” بحسب مقابلة له خلال الترويج للفيلم.

وقد تأثر بالكتاب فقرر أن يعتمده أساسا لفيلمه الجديد، ليأتي وقعه أهدأ من أعماله السابقة، لكنه أكبر أثرا وأكثر فرادة وذكاء، وبعيدا عن الكليشيهات العاطفية التي قدمتها أفلامه الموسيقية، وربما ساعده على ذلك سيناريو “جوش سينغر” الذي كتب من قبل فيلمي “ذا بوست” و”سبوت لايت”، فهو يفضل الحبكة التصاعدية التي تبقى على ذات الرتم لأحداث طويلة قبل أن تتصاعد، وسط أجواء من التوتر حتى تصل إلى ذروتها.

وعلى الرغم من أن هذا الوصف يجعل الفيلم يبدو كلاسيكيا، إلا أن الشعور الذي يدفعك إليه الفيلم في لحظة الوصول الصامتة إلى القمر حيا ومفاجئا، فتريد أن تقف مصفقاً وأنت تشاهده في وسط قاعة السينما، لأنك تشعر أنك شاركت بهذا الإنجاز، وأنك ممتن لوجودك البشري، خاصة إذا كنت تشاهد هذه اللقطة على شاشة “آي ماكس” (Imax) ذات الارتفاع المسرحي.

وكون الحبكة الدرامية في الفيلم هامشية، فإن ذلك لم يُضعف منه، ففي كل الأحوال ليست هي ما يهدف إليه الفيلم، فالمخرج يعمل ليحول تلك اللحظة من وصول نيل آرمسترونغ إلى القمر إلى لحظة ارتواء بعد عطش، حين يجعل المصور “لايناس ساندغرين” طوال الأحداث يأخذ مشاهد طويلة في قُمرات القيادة الضيقة، موثقاً لحظات الاهتزاز والظلام والصمت إلا من صوت تنفس مرتفع وعيون متوترة تملأ الشاشة.

موقع هبوط “أبوللو11” على الوجه المقابل للأرض من سطح القمر في “بحر السكون” 

 

“الرجل الأول”.. المشي على القمر

ربما كان الترويج المسبق لـ”الرجل الأول” قد أوحى للمُتلقي أنه سيشاهد أحد أفلام الفضاء تلك؛ المليئة بالمغامرات والسباحة في الفضاء، إلا أنك ستنتظر كثيرا دون أن يتحقق ذلك، فهو يصور الفضاء من داخل مركبة عدا لقطة المشي على القمر، وذلك في محاولة ليأخذك إلى معاناة أولئك الرواد الذين كانوا ينطلقون داخل مركبات وبدلات مقيدين إليها في جحيم حقيقي وموت متحقق بأية لحظة، وذلك كي تصل المعرفة إلى ما وصلت إليه اليوم.

وعلى الرغم من خلوّ الفيلم من طابع أفلام مغامرات الفضاء، فإنه من النادر أن تشعر بالملل، فهناك موسيقى تصويرية عبقرية للملحن “جوستين هورويتز”، الذي تعاون معه المخرج في أفلامه السابقة، إضافة إلى احترافية عالية تأخذك بين عالمين من التوتر في شؤون العائلة وشؤون الفضاء.

وساعد على ذلك الأداء المتفجر للممثلة “كلير فوي” التي قامت بدور زوجة “آرمسترونغ”، وكان تماما على عكس أداء الممثل “ريان جوسلنيغ” في دور آرمسترونغ، فتشعر أنه منسحب حيادي تجاه الأحداث، وكأنه يشاهد حياته معنا، وهذا ليس لكونه ممثلا سيئا، بل لأن دوره يتطلب أقل قدر من العواطف، والكثير من الجدية تجاه إصراره على متابعة المشروع للوصول إلى القمر.

آرمسترونغ يكرم ابنته “كارين” المريضة بإلقاء سوار لها في جوف حفرة كبيرة على سطح القمر

 

آرمسترونغ.. خطوات مسكونة بالحزن

وساعد هذا الحسم الذي قُدمت فيه شخصية آرمسترونغ بأن نعيش ذلك الوقت الحقيقي والتفاصيل بعينها بتجرد من عواطف زائدة، إلا من حزنه على ابنته الذي قاوم كي لا يظهره للعلن.

وربما نعتقد جميعا أننا شاهدنا مرارا وتكرار خطوات نيل آرمسترونغ الأولى على القمر، إلا أننا لا نعلم المعاناة خلفها، وحقيقة كم كلّف ذلك المشهد ليس أمريكا وحدها بل الإنسانية، لتكون هذه الخطوات إنجازا ينتمي للمعرفة البشرية. فهو لم يقدم فيلما وطنيا يتحدث عن إنجازات أمريكا بل جاء مشهدا لا ينتمي إلا للمعرفة التي راكمها البشر عبر التاريخ، لذلك كان خلو هذا المشهد من العلم الأمريكي وتجريده من هوية بعينها أذكى ما فعله المخرج.

إلا أنه سرعان ما يردّ المخرج المشهد إلى الحكاية الشخصية للفيلم التي بدأها به؛ أي قصة آرمسترونغ مع مرض ابنته “كارين” حين يُلقي سوارها الذي يحمل حروف اسمها في جوف حفرة كبيرة بالقمر، وبذلك يكون وضع حزنه للأبد هناك. لكن آرمسترونغ الذي توفي عام 2012 لم يعد موجودا ليحكي لنا رأيه في الفيلم، وهذا الفقد الذي دفعه ليخلّد اسمه بالتاريخ.