“الرجل الحر”.. سيرة النورسي مقاتل الغزاة ومكافح السلطة العلمانية

يكتب المخرج السينمائي التركي محمد تانريسفر مقطعا طويلا من سيرة العلامة سعيد النورسي بأسلوب ملحمي، يُتيح له الانتقال من مرحلة حياتية إلى أخرى بسلاسة مصحوبة بوقفات طويلة عند فترات مهمة من حياته (ولد في الثاني عشر من مارس/آذار من عام 1867وتوفي في 23 مارس/آذار عام 1960)، ولا سيما الفترات التي شهدت أهم التحولات في مساره الفكري، ومن بين أكثرها مثارا للاهتمام دعوته لربط الدين بالعلم، واتخاذه من فكرة الإيمان منطلقا لسمو الروح وتقويم السلوك الحياتي المنفتح على المعارف والثقافات.

وبسبب تلك الدعوات التي دونها ووزعها في رسائل أطلق عليها اسم “رسائل النور”؛ تعرض للأذى من قبل السلطات التي وجدت فيها تهديدا لسياساتها الهادفة لقطع صلات المجتمع التركي بموروثه الديني والحضاري.

للتأكيد على انفتاحه على معارف عصره من دون التخلي عن الإيمان الديني، يثبت المخرج تانريسفر في مفتتح فيلمه “الرجل الحر: سيرة بديع الزمان سعيد النورسي” (Hür Adam: Bediuzzaman Said Nursi) موقفه من فن السينما بالعبارة التي تظهر مكتوبة على الشاشة: يجب أن يُرسم الشكل بحسب المعنى، وعلى الأسلوب أن يكون براقا، لكن لا يجب إهمال المعنى، والهدف أبدا. يجب دعم الخيال بمجال حركة واسعة، لكن لا يجب إيذاء الحقيقة أبدا.

بين القتال المسلح والكفاح السلمي.. تحولات النورسي

يبدأ زمن السرد بمشهد يظهر فيه الصبي سعيد مع والدته في قرية نورس الكردية عام 1882، في لحظة مراقبة أبناء القرية لخسوف القمر، وفجأة يصاحب المشهد انفجار بركان جبل قريب منهم. ورغم تشبثه بوالدته يأمرها أن لا تخاف لأنه معها.

ستكون الشجاعة أبرز صفة في شخصية النورسي (الممثل مرشد أغا باغ)، إلى جانب انتباهه إلى الظواهر الطبيعية والتفكير بالقوة الخفية المحركة لها، والتي ستقوده إلى فكرة الإيمان، وأن الحرية تكمن فيها، وأن الناس بالفن والوحدة يمكنهم محاربة الفقر الذي كان منتشرا في تلك المناطق القصية من تركيا.

في شبابه وقبل أن يتحول إلى داعية مؤمن بالسلمية كأسلوب كفاح يمكن به تحقيق الأهداف النبيلة، يظهر النورسي في عام 1915 قائدا لمجموعة شباب في منطقة فان يقاتلون في الجبهة الشرقية ضد الجيش الروسي، ثم أسيرا في معسكر كوسورما في روسيا.

هروب إلى إسطنبول على الأقدام.. فوضى الثورة البلشفية

رفض سعيد النورسي الوقوف خانعا أمام الضابط القوقازي في المعتقل، فاعتبر العسكري ذلك إهانة شخصية موجهة له، وبعد رفضه وضع القماشة السوداء على عينيه أدرك الضابط أن رفضه الوقوف كان نابعا من شجاعته وإيمانه بدوره كعِالم مسلم يرفض الخنوع، فقرر إلغاء أمر إعدامه واستبداله بالحبس.

يستغل سعيد الفوضى التي حلت بروسيا عقب نشوب الثورة البلشفية عام 1917، فيقرر الهروب من السجن، ثم يقطع أوروبا مشيا على الأقدام وصولا إلى إسطنبول، ولم يتوقف عن الكفاح الوطني أبدا، بل شرع بتشكيل وحدات من المقاتلين ضد الوجود البريطاني.

سعيد النورسي يكتب “رسائل النور” التي تعرض للأذى من قبل السلطات بسببها

ولدوره الكبير في النضال الوطني استقبله الزعيم التركي كمال أتاتورك، ودعاه لإلقاء كلمة في البرلمان، لكنه لم يقتنع بالنقاشات التي أعقبت كلمته والتفسيرات التي قدمها بعض أعضاء البرلمان لها، فقرر العودة إلى مدينة فان عام 1925.

منفى بارلا.. مدرسة تكسر الرقابة على قمم الجبال

يتصادف وصول النورسي لمدينة فان مع اندلاع تمرد مسلح قاده رجل الدين الشيخ سعيد ضد الحكومة، فقد طلب من النورسي الوقوف معه، لكنه رفض الانضمام للتمرد الذي اعتبره موجها ضد قادة دولة مسلمة، وأحفاد من حمى الإسلام لقرون.

وسيتوج موقفه الرافض لرفع السلاح في وجه الحاكم العثماني بأفكار تدعو إلى نبذ العنف واستبداله بأساليب كفاح سلمية. ورغم وقوفه ضد التمرد المسلح، فقد اعتبرته الحكومة من المحرضين ضد سياستها، فقررت نفيه إلى ناحية بارلا، وفرض رقابة صارمة على تحركاته.

لم تمنع الرقابة الشيخ الكردي من تنفيذ مشروع بناء مدرسة خاصة به وبطلابه، فقد عمل بهدوء على تأسيس صفوف تعليم بسيطة، واتخذ طلابها وهو معهم من قمم الجبال مكانا لها، حيث اهتم بتعليمهم القراءة والكتابة والعلوم الدينية، وتكليفهم كتابة “رسائل النور” التي يشرح فيها تفسيراته للنصوص الدينية، معتبرا النص القرآني نورا أبديا يشع ولا ينطفئ أبدا.

معلم الفلاحين.. شعبية متزايدة وتهم ملفقة

أثار الانتشار الواسع لكتاب “رسائل النور” لبديع الزمان النورسي مخاوف السلطات، فقامت بالتضييق عليه وتوجيه تهم ملفقة له يدحضها سلوكه العملي.

أحد طلاب سعيد النورسي أصبح ضابطا، ومع ذلك ما زال يحظى بذات القدر من الاحترام والتبجيل من قبل طلابه

في ناحية “بارلا” يخصص الفيلم وقتا كافيا لعرض سلوك الشيخ المتسم بالزُهد والتواضع، فهو لم يقبل من الفلاحين الفقراء الهدايا، وكان يدفع ثمن كل ما يقدمونه له من طعام وشراب، أما علاقته بالطبيعة فتؤشر على إيمان بوحدة الكون وضرورة الحفاظ على توازنه. وكان يُعلّم أهل الناحية وفلاحيها مجانا ودون مقابل، ويغرس في نفوسهم قيم الخير والعدل.

في الفصل الخاص بالناحية يقدم الفيلم بشكل ساخر تطبيقات وتفسيرات موظفي الدولة لقرارات الحكومة التي أرادت تغيير نمط حياة وعيش الفلاحين البسطاء بقرارات فوقية، فقد منعت عليهم ارتداء الملابس التقليدية واستبدالها بأخرى غربية، وأجبرتهم على وضع القبعة الغربية على رؤوسهم بدلا من العمامة أو الطاقيات التقليدية، كما منعت رفع أذان الصلاة باللغة العربية، ومنعوا حتى الكتابة بأبجديتها.

لم يفلح كل ذلك في منع النورسي من ممارسة دوره، بل على العكس زادت شعبيته بين الناس والتفوا حوله.

“القوة الخفية”.. محاولات تصفية في سجون إسبارطة

بعد فشل السلطات في تحجيم دور النورسي ومنعه من كتابة “رسائل النور” وتعليم أبناء الناحية، قررت الحكومة تسفيره من ناحية بارلا إلى منطقة إسبارطة، وسجنه هناك بتهمة التحريض ضد الحكومة ورفض تطبيق تعليماتها.

مراقبة مشددة لسعيد النورسي من قبل “القوة الخفية” التي تحاول تصفيته مرارا وتكرارا

في هذا الفصل يجري التركيز على محاولات تصفيته جسديا بناء على توجيهات تصل من جهات متنفذة في أنقرة يطلق عليها الشيخ “القوة الخفية”، وذلك في إشارة منه إلى دول غربية تعمل على تحويل تركيا إلى تابع لها بحجة “العَصرنة” و”الأَوربة”، وضرورة تحجيم التأثير الديني والموروث العثماني، بوصفهما عوامل تعيق مشروع “تركيا الحديثة”.

وقد وقف النورسي ضد هؤلاء معلنا أكثر من مرة بأنه جمهوري يؤمن بالعلم وسيلة لتخليص الأمة من تخلفها، ومع ذلك كانت السلطات توجه له تهم الخيانة والعمل ضد الجمهورية، وتحيك ضده المؤامرات وتخطط لتصفيته، لكن لم تنجح محاولاتهم المتكررة، وفي كل مرة كان يتخلص من الموت بأعجوبة، مما يزيد من حنقهم عليه ويدفعهم لتدبير مزيد من المؤامرات ضده.

أمير داغ.. إقامة جبرية في منزل محاط بالسموم

يعطي الفيلم وقتا كافيا من زمنه (160دقيقية) لعرض المحاكم الصُورية التي يقف النورسي وسطها، ويدافع عن أفكاره بحجج قوية تُحيّر القضاة، وتدفعهم في كل مرة لإطلاق سراحه.

هذا الفعل المتكرر دفع رجال الشرطة والأجهزة الأمنية المُسَيرة من قبل “الأعداء الخفيين” إلى ابتكار وسائل جهنمية للحد من حريته، لمعرفته بأنه رجل حر لا يطيق صبرا على حجر جسده ولا منع أفكاره، لذا فقد فرضوا عليه الإقامة الجبرية في منطقة أمير داغ، وأسكنوه بيتا تصل إلى غرفه غازات وسموم مُبيّض نحاس يعمل بجواره، أرادوا تسميم جسده، لكن رفاقه القدماء وطلابه وصلوا إليه في اللحظة المناسبة ونقلوه إلى مكان آمن.

محاكمة صورية لبديع الزمان سعيد النورسي، حيث يدافع عن أفكاره بحجج قوية تُحيّر القضاة، وتدفعهم في كل مرة لإطلاق سراحه

وقد أثار نشاطهم ومؤازرتهم لمعلمهم غضب السلطات ضدهم، فقامت بحبسهم من دون محاكمة. الصراع يتصاعد والشيخ النورسي لا ينفك ينصح مؤيديه بالعمل السلمي ونبذ العنف، وبذلك صار مثالا للمناضل السلمي الحقيقي.

الرجل الحر.. عودة مثقلة بسنوات السجن الطوال

بعد فشل السلطات في تسميم النورسي بيتوا له محاولات ومؤامرات كاد أن يموت في واحدة منها حين حقنوا دمه بمصل ادعى رجال شرطة -تنكروا بزي ممرضين صحيين- أنه لقاح طبي ضد وباء كان منتشرا في البلد ذلك الوقت، ورغم شدة مرضه كان يوصي طلابه بعدم الانتقام له، والعمل بدلا من ذلك على نشر “رسائل النور”.

ويكشف لهم العروض والامتيازات التي قدمها له “كمال باشا” مقابل تأييده لـ”أَوربة” تركيا وإنهاء عثمانيتها، وقد رفض ذلك كما رفض الخنوع للتهديدات، وتقديمه المتكرر أمام محاكم صُورية أصدرت واحدة منها عام 1909 حكما عليه بالموت، وبسبب ضعف أدلة الإدانة فقد خففت المحكمة العليا الحكم إلى السجن لسنوات طوال بدأت تظهر تأثيراتها السلبية على “الرجل الحر” المسن والمتعب، لكثرة ما تعرض له من الأذى في حياته.

بعد سنوات من السجن يخرج النورسي وسط ترحيب طلاب ومؤيدين له في الخارج، ويقرر الذهاب إلى المكان الذي نشر فيه “رسائل النور” وأقام فيه مدرسته الأولى في ناحية بارلا التي استقبلته بحفاوة، وعامله أهلها وكأنه واحد منهم فارقوه سنوات، وها هو يعود اليوم إليهم، بذات العزيمة التي عرفوها صفة ملازمة له يوم جاء إليهم منفيا من قريته الكردية البعيدة.

نهاية يكملها الفيلم بعبارات ومقاطع من “رسائل النور”، ومشاهد للنورسي وهو يرتقي قمم الجبال العالية.