“الرسالة” و”المصير”.. رسائل التاريخ المبطنة في ثنايا السينما

د. أحمد القاسمي

جمع بين التاريخ والسينما تعاون مثمر صنع أروع الأفلام العالمية، وكلاهما يعترف بذلك، فلا يكابر أو ينكر، فالسينما تعبّر عن حاجتها للقصص المثيرة التي تهز المتفرّج المتطلع إلى اكتشاف عوالم الماضي، بينما التاريخ يطمع في وساطة الكاميرا ليخرج أحداثه من طيّ النسيان، وينفض عنها غبار الزمن.

لكن غالبا ما تنتهي هذه الشراكات إلى تبادل مشترك للاتهامات، فيعلن التاريخ افتقار الكاميرا للأمانة العلمية ودقّة المؤرّخ، واستغلال السينمائي للماضي ليطرح قضايا الراهن، أما السينما فتدين مناورات التاريخ، فكيف يدّعي ما يدّعي وهو يدرك أنّ الكاميرا آلة لصنع الخيال، ويعلم أنها لم تتجه إليه إلا لتصنع المجازات التي تُعبّر عن حاضر الإنسان وقضاياه، والعجيب أنّ صخب المعارك سريعا ما يفتر لتعلو الأصوات معلنة شراكات جديدة بين الطرفين.

ولم يكن التاريخ الإسلامي والسينما بمنأى عن هذا التعاون، ولا عن ما يعقبه من لوم وعتاب، فلهذا التاريخ أسرار كثيرة لم يبح بها بعد، أو ظلت طيّ كتب منسية بعيدا عن متناول القارئ. والسينما تجد في حنين المتفرج المسلم إلى ماضيه المجيد عنصر جذب يستدرجه إلى قاعات العرض.

ولنسلط الضوء على هذه العلاقة المتقلبة ننطلق من فيلمين مهمين في تاريخ السينما العربية متباعدين في الزمن والموضوع وأسلوب التناول، وهما فيلم “الرسالة” الذي أنتجه السوري مصطفى العقاد سنة 1976، وأخرجه بنفسه في نسختين إحداهما عربيّة تولى بطولتها عبد الله غيث ومنى واصف، وأما الأخرى فهي إنجليزية أسندت بطولتها إلى “أنطوني كوين” و”آيرين باباس”.

وأما الفيلم الثاني فهو فيلم “المصير” (1997)، وفيه يأخذنا مخرجه يوسف شاهين إلى أندلس القرن الـ12 الميلادي، أيام حكم الخليفة المنصور، ليعرض لنا الصراع بين الفكر التنويري المؤمن بالتواصل بين الشريعة والحكمة، ويمثله قاضي القضاة ابن رشد، وبين الفكر المتطرّف المنغلق الذي يمثله الشيخ رياض.

وبين التاريخين ستعرض السينما صورتين لا يزال المسلمون يعيشون على ذكرى الأولى منهما إلى اليوم، بينما يعانون بسبب الثانية ويتقهقرون.

 

بين آلهة البيت وصعود بلال.. عبقرية العقاد

لا يبخل التاريخ عن قاصديه بهباته الكثيرة، وكما كان ذاك الكهف العجيب يكشف كنوزه حالما ينادي علي بابا “افتح يا سمسم”؛ يفتح التاريخ عن عطاياه حالما يصيح المخرج “صمتا، نحن نصوّر”. وما عطاياه غير القصص المثيرة والصراعات الدرامية العاتية والمشهدية التي تأسر العيون وتسحر الألباب؟

يستهلّ مصطفى العقاد فيلم “الرسالة” بصورة مفترضة للجزيرة العربية أيام نشأة الدعوة المحمدية، فتصل وفود الحجيج إلى مكة، وتقدم القرابين إلى الآلهة التي تنتصب واقفة أمام باب الكعبة، ثم ينهيه بانتصار الإسلام بعد عقد الرسول الهدنة مع قريش ودخوله إلى مكة، فيدمر أصحابه  تلك الأوثان.

وبدل أن تتعالى الأناشيد التي تعظّمها، ينادي بلال من فوق الكعبة أن “الله أكبر” معلنا طورا جديدا من تاريخ الجزيرة العربية، مما سيجعلها منطلق نهضة قيمية وإنسانية.

المخرج السوري مصطفى العقاد يتوسط الممثل أنطوني كوين وعبد الله غيث متقمصي شخصية حمزة

 

معاناة المؤمنين في ظل الجاهلية.. ألوان الصراع الدرامي

مثلت المساحة التي فصلت البداية عن النهاية ألوانا من العراقيل واجهها الرسول عليه السلام وصحبه في سبيل إعلاء كلمة الدين، فغذّت الصراع الدرامي وبنته على المواجهة بين قطب المؤمنين الذين يدافعون عن قيم العدالة والحق من ناحية، والمشركين من ناحية ثانية، وهم سادات قريش أصحاب الجاه والمصلحة الاقتصادية في بقاء الوثنيّة، ويمثلهم أبو لهب وأبو جهل وأبو سفيان، وتتزعمهم هند بنت عتبة.

يستدعي مصطفى العقاد عبقريته لتجسيد هذه المسيرة المظفرة سينمائيا، فيركز في طور الرسالة المكيّ على اللقّطات القريبة أو الكبيرة، ليعرض ملمح الشخصية وهي تواجه أذى القرشيين، فتلتقط الكاميرا ما يرتسم على وجوه المؤمنين من المعاناة، وتبرز ما تحملوا من عذاب في سبيل الدعوة.

ولمّا هاجر المسلمون واستقروا بالمدينة، وأمكن للرسول عليه السلام أن يرسّخ الدعوة، وأن يعلي من روح الجماعة، ويشكل من انصهارها وتضامنها وحدة الأمّة؛ يتحول الإخراج إلى اللقطة المتوسطة التي تجسد القدرة على الفعل والانتقال من الخضوع للأعداء إلى امتلاك أسباب القوة التي ستنشر الإسلام لاحقا في أصقاع الكون بأسره.

 

ترجمة كتب ابن رشد.. عقاب الحرق من الكنيسة

يأخذنا يوسف شاهين إلى الضفة الأخرى من العالم الإسلامي، وقد قفز بنا ستة قرون ليصل إلى أندلس أيّام حكم الخليفة المنصور، فيستهل فيلم “المصير” من ولاية اللونج دوك بفرنسا، ليعرض واقعة سحل المفكر “جيرار برول”، وحكم محكمة التفتيش بحرقه بتهمة الكفر، وحجته ترجمة كتابات ابن رشد.

ويكون ذلك على إيقاع يختلط فيه نعيق الغربان بقرع أجراس الكنيسة، فتختلط في الذّهن سطوة الكنيسة والكهنوت وقتها بصورة القتلى والجثث المتعفّنة، وتستغرق مشاهد السّحل والحرق خمس دقائق بأكملها، ثم يشرع في تقديم شخصيات الفيلم وطبيعة الصرّاع الذي سيُخاض، فإذا بالمتفرّج أمام قطبين؛ قطب يمثّله ابن رشد الذي يروم تقريب الشريعة من الفلسفة والعلوم والحكمة والفكر، ويعمل على نشر قيم العدل والتّسامح في عالم مرح مُحبّ للحياة قوامه الفنّ والرقص والغناء والموسيقى. ولأن هذا العالم لا يعترف بالتّراتبيّة يسود الدّفء العائلي بين مختلف أفراده، وتكون علاقة قاضي القضاة أفقية مع زوجته وابنته وطلبته الذين يُعامَلون معاملة الأبناء، ومع ابني الخليفة نفسه.

أما القطب الآخر فيمثله الشّيخ رياض الذي يعمل على نشر فكر متحجّر يُقصي العقل من دائرة الدّين، ويعمل على نشر الخرافات والرؤى والكرامات، معوّلا على الخطاب العاطفي سبيلا للسيطرة على العقول البسيطة وتطويعها ضربا لكل فكر تنويري.

الممثل المصري نور الشريف بدور ابن رشد وهو يكتب، وخلفه الناصر وشقيق الخليفة

 

صراع الظلام والنور.. يقظة الخليفة بعد فوات الأوان

تنقلنا محاولة حرق كتب ابن رشد الأولى إلى المواجهة بين تصورين للوجود؛ التّطرف الديني وما يورث من تخلف وانغلاق واكتئاب، وما يسبب من الإعراض عن كل مباهج الحياة ونشر الموت والخراب، والتصور الثاني هو الفكر التّنويري المتفتح المقبل على الحياة في اعتدال.

ولئن أمكن للقطب الأول أن يستدرج الخليفة إلى صفه ويشوّه ابن رشد وفكره، وأن يستدرج ابنه الأصغر عبد الله ويحوّل غرامه بالرّقص إلى رياضة في الجبال تكدّ الجسد وتنتزع منه الرّغبة في الحياة وتغرس فيه كراهية الوجود، ولئن أمكنه أن ينسّق مع المسيحيين لمهاجمة الأندلس والإطاحة بالحكم؛ فإن القطب الثّاني كان يبني بدل الهدم، فيعمل على إنقاذ كتابات ابن رشد واستنساخها وحمايتها بإيصالها إلى بلاد الفرنجة وإلى مصر وإلى مختلف عواصم العلم والمعرفة.

ومع وصول الصّراع إلى ذروته، يستقيل ابن رشد من خطة القضاء، وينجح المتشدّدون في تأليب الخليفة عليه بتهمة نشر الكفر والإساءة إلى كبار المفكّرين المسلمين من أمثال الغزالي، فتُحرق كتبه ولا ينقذها ندم الخليفة واكتشافه تواطؤ المتشدّدين على حكمه، لكنّ الأمل يظلّ قائما، فقد وقع تأمين نسخ منها هناك في البلدان القاصية.

الممثل أنطوني كوين حامل رسالة العقاد للمتفرّج الغربي

 

“الرسالة”.. مغازلة السياق الثقافي العربي والغربي

لقد جاد التاريخ بما عنده فبسط مادته ووضعها تحت تصرف السينما، لكن هذين المخرجين نقضا العهد، فلم يعودا إلى الماضي ليعملا عمل المؤرخ الذي لا يزيد عمله على الإخبار ظاهرا دون أن يحقق الأحداث ويراجعها، فقد جعلاه مطية لطرق باب الحاضر وعرض قضايا العصر، فلم يصوّر العقاد مرحلة الإسلام المبكر إلا لينفتح على السياق الثقافي العربي والإسلامي الراهن، وليحث المسلمين على إعادة التفكير في حاضرهم ومقارنته مع زمن الفعل في التاريخ عبر الثبات على المبدأ، والتكافل ودعم روح الجماعة، ويذكرهم بمسؤولياتهم باعتبارهم حملة رسالة إلى العالم.

وفي الوقت نفسه ينفتح على السياق العالمي، ليعرّف المتفرج الغربي على الرسالة المحمدية، وليقدم العرب المسلمين باعتبارهم بناة حضارة ارتقوا بالإنسان من طور عبادة الأوثان إلى التوحيد، ومن التناحر القبلي إلى الفعل في الكون، كما ارتقوا بسلم القيم من التمييز والعبودية ووأد النساء، إلى نشر قيم التسامح وحسن معاملة الأسرى أوان الحرب والمساواة بين الجنسين.

يرتقي الفيلم بالخطاب إلى مستوى الحوار بين الأديان، ليذكّر العالم على لسان جعفر بن أبي طالب -وهو في قصر النجاشي في الحبشة- بما كان عليه العرب من ضلال، وما أضحوا عليه من توحيد وكفّ عن المحارم واحترام للأديان، مبرزا أن ذلك يشترك في ذلك مع الديانة المسيحيّة.

المخرج المصري يوسف شاهين الذي أخذنا  إلى أندلس القرن الـ12 الميلادي بفيلمه “المصير”

 

يوسف شاهين.. صراع بين دُعاة التعقل وغلاة التشدد

على نفس النحو الذي سلك العقاد في “الرسالة” ينفتح “المصير” على السياقين المحلي والعالمي، وإن غلبت عليه مسحة من التشاؤم، فينتهي من حيث بدأ، رغم تغيّر الفضاء والسياق والشّخصيات، حيث الخليفة يأمر بحرق كتب ابن رشد، كما أمرت الكنيسة بحرق “جيرار برول” وحرق كتبه، فلا يصل البداية بالنهاية فحسب، وإنما يصل الماضي بالحاضر.

وإذا بالفيلم فيلمان في الوقت نفسه، الأول فيلم فِعلي يخرجه يوسف شاهين، ومداره صراع الفكر التنويري مع التّطرف، فيعود بنا إلى التّاريخ الأندلسي حين أخذت الدولة الأموية في التقهقر. والفيلم الثاني فيلم لا يعرض في القاعات، وإنما على شاشة الذهن، وهو يعود بنا إلى الحاضر ويعرض علينا الصراع بين دعاة العقلانية والتّنوير والحداثة وغلاة التشدّد الذين يسحبوننا إلى الخلف ويعيقون التّطور.

وهنا لا بدّ للمتفرّج أن يستعيد ظهور العنوان في المقدمة، فيتذكر عبارة “المصير” وهي تخرج من ألسنة اللّهب، بما يشبه سبابة وهمية يوجّهها المخرج ليقول “هذا هو المصير الذي يتهدّدنا إن اتبعنا طريق التّطرف. وهذا ما حدث في فرنسا (الغرب) وانتهى بها إلى الجهل والتّخلف لأحقاب طويلة، ولمّا انتصرت إلى التّفكير الحر والتنوير تقدمت وحققت السلم الاجتماعيّ. هذا هو القانون الكوني، فالحضارات تزدهر ما ازدهر العقل، وتنتكس ما انتكس، فإما أن ننتصر إلى الاعتدال وتبني الحضارة، أو أن ننتصر إلى التّطرف فننتهي إلى الخراب والدمار”.

ولا شكّ أن المتفرّج سيستحضر -وهو يعيد مشاهدة الفيلم اليوم- حادثة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة  سنة 2015، ليأخذ تحذير يوسف شاهين مأخذ الجدّ، وليجد في الفيلم شيئا من نبوءة المبدعين، فتبرز عواقب التّطرف بداية من التّقهقر والجهل، وصولا إلى الديكتاتورية المدمّرة، فيصيح الخليفة مأخوذا بزهوه وكبره “الأندلس هي أنا”، ويأمر بحرق كتب ابن رشد في ساحة عامة وسط الحشود التي تتابع بنفس الذهول الذي تابعت به حشود الكنيسة اللونج دوك حرق المفكر “جيرار برول” وحرق كتبه.

 

برودة المؤرخ وحماس المخرج.. مكمن الخلل في السينما

لم يكن الماضي في فيلمي “الرسالة” و”المصير” غاية في حدّ ذاته، ولم ينهج المخرجان نهج نيازي مصطفى في فيلم “من عظماء الإسلام” (1970)، إذ يعرض حياة الخلفاء الراشدين الأربعة، أو نهج صلاح أبو سيف في فيلم “فجر الإسلام” (1971)، إذ كان يصوّر من خلاله حياة العرب في الجاهلية، ويبرز التحول الجذري في سلّم القيم بظهور الإسلام أو غيرهما.

بل بدا كلاهما متحمسا إلى وجهة نظره حماسة أفقدته برودة المؤرّخ وصرامته، واقعا تحت تأثير فتنة القصّ وتوهّجه، فقد جعل العقاد الماضي فردوسيّا، وبالغ في تسليط هالة قدسية على كل أحداثه التي تحول دون إعادة قراءة موروثنا بطريقة موضوعية بريئة من التّشنج والإسقاط الإيديولوجي، فأهمل الإشارة إلى الظروف الموضوعية والاقتصادية.

 

كنوز التاريخ ومصابيح السينما.. مصالح متبادلة

رغم كل جسور التقارب وأسوار التنافر تظل العلاقة بين السينما والتاريخ الإسلامي متقلبة، فحاجة التاريخ لمقاومة النسيان تجعله يفتح كهفه لقاصده ليقتبس أحداثه.

وفي اللحظة التي يرهق فيها المخرجون أنفسهم بالبحث عن حكايات مثيرة بين دفات كتبه، تبحث مئات الوقائع والسير عمّن يخرجها من ظلمات النسيان ويضيء طريقها، لتدرك على الشاشة الفضية. لكن علي بابا السينما ليس هو نفسه علي بابا الخرافة، فهو لا ينسى كلمة السرّ حينما تلتمع كنوز الكهف أمام عينيه، ولا يضيع طريقه نحو الخيال ونحو المجازات التي تطرح قضايا الراهن، وهو ينسج حكاياته من خيوط الماضي.

لكن أين يقف التسجيل ومتى يبدأ التخييل؟