“الرسامة واللص”.. سرقة تقلب حياة الجاني والضحية

قيس قاسم

يؤسس المخرج النرويجي “بينجامين ري” تحفته الوثائقية “الرسامة واللص” (بالإنجليزية: The Painter and the Thief) (بالنرويجية: Kunstneren og Tyven)؛ على قصة واقعية غريبة جمعت بين لِصّ وفنانة تشكيلية، ومع الوقت تطورت إلى مستوى صداقة حقيقية، غدت لوحاتها للّص المُدمن علاجا نفسيا، وجددت عند الرسامة قناعتها بأن الفن قادر على الغور في أعماق الكائن البشري من دون حواجز أو معوقات، كما أكدت قصتهما المنقولة على الشاشة بأسلوب بارع قدرة الفيلم الوثائقي على السرد الدرامي، وعلى نقل القصص الإنسانية مهما بلغت من تعقيد والتباس.

تأملات صانع الفيلم العميقة للعلاقة الغربية وغير المفهومة، وصبره على ملاحقة تفاصيلها؛ جعلت من فيلمه “الرسامة واللِصّ” -الحائز على جوائز مهرجانات سينمائية مهمة- رواية بصرية تستحق المشاهدة والتفكير العميق بمعنى الفن، وصعوبة فهم الإنسان مهما بدا مختلفا، من دون البحث في دواخله ومعرفة أكثر النقاط حساسية فيها.

 

“غاليري نوبل”.. سرقة هادئة استغرقت ساعة من الزمن

غرابة قصة الفيلم نابعة من أحداثها الواقعية، إذ تستند على واقعة سرقة لوحات من “غاليري نوبل” الذي نظم معرضا في أوسلو لأعمال الرسامة التشكيلية “باربورا كيسيلكوفا”، وقد جاء خبر سرقة لوحتين كبيرتين من أعمالها عبر وسائل إعلام نرويجية، واحدة منهما سمتها “أغنية البجع”، وأكدت الشرطة صحة الخبر.

من إعادة تسجيلات الكاميرات المثبتة عند مدخل البناية يظهر لِصّان وهما يقتحمان باب المعرض ليلا، ثم يقومان بانتزاع اللوحتين بهدوء من إطاريهما، ويطويانهما بعناية ويخرجان.

أثناء مراجعة الشريط لاحظت الرسامة أمرا غريبا يتعلق بطريقة انتزاع اللوحات من إطاراتها، فعادة يلجأ اللصوص لكسب الوقت إلى قطعها بمحاذاة الإطار بسكين حادة، إلا أن اللصين لم يفعلا ذلك مع لوحاتها، حيث قاما بقلع أكثر من مئتي مسمار صغير ثبتت بها، واستغرق هذا العمل أكثر من ساعة كاملة.

تخطيط لحوار الرسامة “باربورا” مع اللص “كارل” في المحكمة، بعد أن سرق الأخير لوحات الأولى

 

حوار المحكمة.. صفقة عادلة بين الجاني والمجني عليه

في اتصال للشرطة مع الرسامة يخبرونها خلاله أنهم تعرفوا على أحد اللِصّين ويدعى “كارل بيرتيل نوردلاند”، وأن موعد محاكته قريب، ورغم أن “كارل” لم ينكر سرقته، فإنه ادَّعى في المحكمة بأنه لا يتذكر شيئا عن اللوحة، ولا يتذكر أين وضعها.

داخل المحكمة تطلب الرسامة من القاضي الحديث مع اللِص، وحين تسأله عن سبب سرقته للوحاتها يُجيب: “لأنها جميلة جدا”. جواب أربكها، لكنه ولّد إحساسا داخلها بأنه صادق في قوله، حيث تنازلت عن القضية باتفاق معه على أن يكون عارضا لديها، ترسمه بشرط تحمله الوقوف أمامها ساعات طويلة من دون أجر.

أثناء الرسم كان اللص يتحدث إليها ويخبرها عن جوانب من حياته، فقد عاش طفولته وحيدا مع والده بعد أن تركته أمه وهجرت البيت، كما أن انشغال والده بعمل طويل وتركه وحيدا في البيت؛ أثّر سلبا على طفولته.

وفي مطلع شبابه رافق شباب السوء، فأصبح مدمنا على المخدرات وسارقا، يخبرها أن مجموعته تلك المكونة من 13 شخصا لم يبقَ منهم على قيد الحياة إلا اثنان، أما البقية فقد قضوا نحبهم انتحارا، أو بسبب تناولهم جرعات كبيرة من المخدرات.

الرسامة التشكيلية “باربورا كيسيلكوفا” هي ذات أصل تشيكي، وخلفها تُعلق لوحاتها التي سٌرقت في معرض في أوسلو

 

حياة أبطال الفيلم.. ماض يتسرب من الأحاديث الجانبية

على غير المتوقع يكشف الوثائقي بطريقة بارعة وحاذقة جوانب من حياة الرسامة نفسها، لكن ليس على لسانها، بل على لسان “كارل” الذي صار يخرج معها ويتبادلان أطراف الحديث في جوانب مختلفة من الحياة.

الرسامة “باربورا” هي ذات أصل تشيكي، وتنحدر من عائلة فقيرة، وقد ارتبطت في براغ بشاب كان يعاملها بقسوة ويضربها ويعنفها، وعندما تعرفت على النرويجي “أوستين ستينه” قررت الانتقال معه إلى النرويج، لقد تغيّرت حياتها في أوسلو، وعاملها الرجل بطيب وكرم، حتى استعادت ثقتها بنفسها وكرست وقتها للفن.

كل ما يتعلق بها يسربه اللِصّ في أحاديث جانبية، وفيما يخص حياته فإن تفاصيلها تصل إلى المُشاهد عبر حركة بارعة للزمن السينمائي المتحرك الذي لم يلتزم الوثائقي بسياقه التصاعدي أبدا.

اللص “كارل” يبكي بحرقة أمام لوحة رسمتها صديقته له، وكان ينظر إلى اللوحة وكأنه ينظر إلى داخله مكشوفا

 

بكاء اللوحة الأولى.. لص يقف أمام دواخله

طيلة وجوده في مرسمها ظل يؤكد لها أنه لم يكن بوعيه يوم سرق لوحاتها، وأنه حقا لا يعرف أين تركها. لم يبح لها كثيرا عن تمزقاته الداخلية، لكن حالة إدمانه الدائمة كانت تشير إلى خواء روحي وصراع داخلي لم يفارقه.

وقد تفجر كل ذلك يوم عرضت عليه أول لوحة رسمتها له، حيث رأى نفسه فيها، ورأى داخله يشع منها، فانهار وأجهش بالبكاء، ولم تصدق عيناه ما تراه، كان ينظر إلى اللوحة وكأنه ينظر إلى داخله مكشوفا، يعترف للرسامة بأنها أول كائن يقترب منه بهذا القدر، ويرغب فعلا بالتعرف على دواخله.

لم تنظر إليه الرسامة كلِصّ، بل كإنسان دفعته الظروف ليكون على ما هو عليه الآن، وظلت مقتنعة بوجود إنسان طيب داخله، ويجلي تأثره بما ترسم بوضوح مقدار تأثير الفن على الناس، فقد ألهمته أعمالها شغفا بفن الرسم، ووجد في صنيعها الإبداعي لغة تشكيلية خاصة تخاطبه مباشرة من دون وسيط، لغة تحترم ذاته ومشاعره، وتقوّي علاقة صداقته بمبدعتها.

“كارل” في المستشفى بعد حادث قاتل تعرض له أدخله في غيبوبة وسبب له جراحا عميقة

 

حادث قاتل في سيارة الرسامة.. سلطان المخدرات

خلال وجود “كارل” في مرسم “باربورا” كانت تربطه علاقة بامرأة يحبها، لكن بسبب إدمانه لم تدم العلاقة طويلا، فقد رحلت عنه وتركته وحيدا.

لم تعالجها اللوحات الفنية حالة “كارل” النفسية المتأزمة، ولا صداقته مع الرسامة حسنتها كليا، لهذا كان في بعض الأحيان يهرب من قلقه وتوتره إلى المخدرات التي كاد بسببها أن يفقد حياته أكثر من مرة.

ففي إحدى المرات مرة يتوقف الوثائقي عندها، لما تشكله من منعطف مهم في حياته، فقد سرق سيارة الرسامة وهو تحت تأثير المخدرات، وأثناء قيادتها مسرعا انحرفت عن مسارها وانقلبت به، وكاد بسببها أن يتعطل جسده بالكامل.

وقد واظبت الرسامة على زيارة “كارل” في المستشفى، وبعد غيبوبة طويلة دخل فيها وعمليات جراحية معقدة؛ خرج ليواجه حكما بالسجن لمدة سنة كاملة، وذلك لخرقه قوانين المرور وتعريض حياة الناس للخطر.

 

انقطاع الحبال بين الإلهام والفن.. حلقة مفقودة

تنقطع علاقة اللص والرسامة في السجن، فكل محاولاته الاتصال بها هاتفيا لم تنجح. ويكرس الوثائقي جزءا من وقته (109 دقيقة) لمتابعة أحوال الرسامة، فعلاقتها بصديقها النرويجي تخللتها بعض المنغصات، بسبب عدم فهم الرجل أسباب انغمارها بعلاقة صداقة مع شخص من أرباب السوابق، قد يسبب لها مشاكل هي في غنى عنها.

تربط الرسامة بين اهتمامها باللِصّ وفنها، فلا يمكنها فصل الجانبين، حتى وجودها في النرويج له علاقة بإبداعها، عيشها البسيط سببه عدم توفر فرص عرض لأعمالها في المعارض الفنية، وبالتالي تقل إمكانية بيعها كثيرا، وتظل تعاني من وضع اقتصادي مقلق. وثمة أواصر قوية أخرى تجمع بين لوحتها “أغنية البجع” وبين وضعها السابق في بلدها، ويصعب فهمها دون فهم علاقتها بالشخص الذي سرقها.

جاءت “باربورا” إلى أوسلو من براغ محبطة تعاني من آثار علاقة عاطفية غير سوية، وقد احتاجت وقتا طويلا للشفاء منها واسترجاع نفسها والعودة ثانية للرسم، وأولى لوحاتها في مرحلة “الشفاء” العاطفي والنفسي كانت “أغنية البجع” التي سُرقت من المعرض، وضياعها بالكامل يعني ضياع جزء من حياتها الجديدة، وهذا ما لم يفهمه صديقها النرويجي.

 

“لقد عثرت على اللوحة المفقودة”.. عودة المياه إلى مجاريها

مكوث “كارل” في السجن غيّر فيه الكثير، وساعده على اتخاذ قرار التخلص من ماضيه وبدء حياة جديدة، معه يبقى الوثائقي يلتقط علامات التغيير ويتابعها خارجه في بيته الجديد الذي أصلحه ورتّبه بمساعدة صديقته الجديدة، وقد تخلص من المخدرات كليا.

يظهر “كارل” أمام عدسات الكاميرا وكأنه إنسان آخر مختلف، ليس هو ذاك الشخص نفسه الذي التقطت صورته قبل مدة ليست ببعيدة. الشيء الوحيد الذي بقي يحزّ بنفسه هو فراق صديقته الرسامة، يكتب لها رسالة عن وضعه الجديد، وكيف بفضلها وفضل فنها استطاع العودة للحياة ثانية بعدما كان غارقا في الظلام.

لا ينتظر الوثائقي طويلا ليظهر الصديقان وقد عادا سوية، ومع الرسامة مفاجأة كبيرة تخبر بها صديقها: “لقد عثرت على اللوحة المفقودة”. لم تشأ أثناء مرضه إخباره بذلك خشية من إرباك وضعه، وربما بسببها سيعود ثانية للمخدرات، أما وقد تخلص منها الآن، فيمكنها حكاية مغامرتها التي استعادت بها ما كان مفقودا منها.

 

وكر العصابة.. مغامرة استعادة اللحظات والذكريات

في سبيل بحثها عن اللوحة اتصلت “باربورا” باللص الثاني الذي كان رفيق “كارل” في سرقته، وسألته عن مكان اللوحة، فأخبرها أنها عند شخص يرأس عصابة، ويسكن في عمارة سكنية في منطقة خطرة، وقد راحت تخطط للدخول إليها، حتى وصلت إلى مستودع حفظ الأغراض أسفل العمارة ووجدتها هناك.

وباسترجاع اللوحة استعادت الرسامة ذكريات نهوضها الداخلي الجديد في النرويج، وبلقائهما استعاد “كارل” ذكرى صداقتهما، واللحظة الدراماتيكية التي أثرت فيه كثيرا حين رأى لأول مرة اللوحة التي رسمتها له، وظل ذلك الشعور مترسبا داخله، وربما هو ما ساعده على تغيير ذاته وبدء حياة جديدة.