“السلاح المثالي”.. عالم هش في مواجهة رياح القرصنة الإلكترونية

محمد موسى

لا شيء يقف أمام القراصنة الإلكترونيين الروس حين يضعون نصب أعينهم هدفا ما. هذا ما أثبتته التجارب في السنوات الماضية، وأكده مجددا ما حدث في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام 2020، وذلك عندما هاجموا في وقت واحد عدة وزارات ووكالات أمنية أمريكية حسّاسة.

من وزارة الدفاع الأمريكية إلى التجارة مرورا بالصحة؛ تنوعت أهداف العملية الإلكترونية التي اكتُشفت بالصدفة من قبل الجهات الأمنية الأمريكية، ولا يعرف حتى الآن الأضرار التي سببتها في الأنظمة الإلكترونية لهذه الوكالات، أو المعلومات التي نجح القراصنة في الاستحواذ عليها.

وعلى الرغم من أن الوكالات الحكومية الأمريكية تحظى بأنظمة حماية إلكترونية قوية، فإن القراصنة الروس نجحوا في اختراقها، مما زاد حرج الوضع على الحكومة الأمريكية التي تفشل منذ سنوات في الحفاظ على سيادتها الإلكترونية، وهو الأمر الذي ترك الكثير من الآثار العميقة كما كان الحال أثناء الانتخابات الأمريكية عام 2016.

قبل ذلك قام القراصنة بتنفيذ عملية قرصنة عام 2017 في ضربة واحدة استهدفت مؤسسات حكومية وشركات خاصة، وقد تعرضت حواسيب هذه المؤسسات في 155 بلدا إلى عمليات اختراق إلكتروني وسيطرة على كل البيانات التي تحتويها. حيث كشفت هذه العملية الشديدة التنظيم -التي لا يُعرف حتى اليوم موقع تنظيمها أو الذين يقفون خلفها- عن مدى خطورة الحروب الإلكترونية التي يشهدها العالم اليوم، إذ لم يسبق في التاريخ الإنساني أن وجه مثل هذا الأذى لهذا العدد الضخم من البلدان في يوم واحد كما حدث في هذه العملية.

 

هجوم 2017.. أكبر ضربة في التاريخ والجغرافيا

لم يكن الهجوم الإلكتروني في عام 2017 الأول عالميا، بيد أنه كان الأوسع في مجاله الجغرافي وأضراره، إذ أدى لخسارات بملايين الدولارات الأمريكية، دفعتها المؤسسات الحكومية والشركات المتضررة التي رفضت الخضوع لشروط القراصنة الإلكترونيين الذين سيطروا على الحواسيب، وطلبوا حينها مبالغ مالية مقابل الإفراج عن البيانات الخاصة بهذه الشركات.

بينما وافقت بعض الشركات -بل وحتى بعض المؤسسات الحكومية الأمريكية- على دفع مبالغ حددها القراصنة، حتى لا تخسر مبالغ أكثر لإعادة بناء أنظمتها الالكترونية التي وعد القراصنة بتدميرها إذا لم يُستجب لمطالبهم.

بين أيدينا الفيلم الوثائقي الأمريكي “السلاح المثالي” (The Perfect Weapon) الذي أخرجه “جون ماجيو” عن قصة “ديفيد سانغر”، ويتوفر اليوم على خدمة قناة “إتش بي أو” على شبكة الإنترنت، ويستعيد أهم عمليات القرصنة الإلكترونية في العقدين الأخيرين، ليُبين كيف يُمكن أن يشل هذا الخطر الجديد الحياة في دول مُتقدمة من التي تعتمد على الشبكات الإلكترونية في تسيير مرافقها العامة.

كما يوجه الفيلم الانتباه لخطر الحروب الإلكترونية في إشاعة الفوضى وتغيير مسارات العمليات السياسية في بلدان عديدة، وذلك كما حدث في الانتخابات الأمريكية في عام 2016.

 

تحالف “بوش” والموساد.. عودة البرنامج النووي إلى الصفر

يبدأ الفيلم من عام 2007، وهي السنة الأخيرة للولاية الثانية من حكم الرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش” الذي لم يكن الأخير يرغب بأن يترك البيت الأبيض دون توجيه ضربة للبرنامج النووي الإيراني، بيد أنه لم يكن قادرا على جمع التأييد المطلوب لعملية عسكرية سواء في الولايات المتحدة أو من حلفائه، فحرب العراق كانت في أوجها، وكان النقد عارما داخل الولايات المتحدة لسياسات “بوش” الذي أخذ الولايات المتحدة لحرب بحجة أسلحة الدمار الشاملة العراقية التي لم يعثر عليها أبدا.

في مونتاج موازٍ يقدم الفيلم الوثائقي مشاهد لقوات أمريكية في العراق بعد أن بدأت تواجه مقاومة عراقية شرسة، هذا إلى جانب مشاهد للرئيس “بوش” نفسه وهو يحذر في إطلالات إعلامية من خطورة ما أسماه “السلاح النووي الإيراني”. ورغم الواقع الواقع المعقد فإن “بوش” لم يستسلم، وقرر التخطيط لعملية سريّة سانده فيها جهاز الموساد الإسرائيلي، وذلك لتوجيه ضربة مدمرة للجهود الإيرانية عبر عملية إلكترونية غير مسبوقة.

لا يعرف الكثير عن هذه العملية، ولا كيف وصل الفيروس الإلكتروني الأمريكي/ الإسرائيلي إلى المفاعل النووي الإيراني، وخاصة أن الشبكات الإلكترونية لهذا المفاعل لم تكن متصلة بشبكة الإنترنت، لكن ما إن وصل الفيروس إلى الشبكات الإلكترونية، حتى بدأت العملية التي ستخدع موظفي المراقبة الإيرانيين، وتُسرع عمل الآلات الموجودة في المفاعل مؤدية في النهاية لتدميرها، ليتكبد الإيرانيون خسائر فادحة، ولتشكل العملية ضربة فتاكة للبرنامج النووي الإيراني برمته، حيث أعادته إلى نقطة البداية.

 

قنبلة نووية في الصحراء الإيرانية.. طهران تضرب لاس فيغاس

بعد الضربة التي تعرض لها المفاعل النووي التفتت إيران إلى أهمية الحروب الإلكترونية، لتستثمر الملايين في تدريب قراصنة إلكترونيين إيرانيين، وقد كان أول ردودها المعلنة على تدمير مفاعلها هو عملية إلكترونية في مدينة الملاهي الأمريكية في لاس فيغاس، إذ دمرت الشبكة الإلكترونية واحدة من الشركات الكبيرة هناك، ويملكها أمريكي اسمه “شيلدن أدلسون”، وهو معروف بعدائه الكبير للنظام في إيران.

“على الحكومة الأمريكية أن ترمي قنبلة نووية في الصحراء الإيرانية كتحذير، وإذا لم يرتدع النظام الإيراني، فعندها يجب أن نقصف طهران بالنووي”. هذا أحد التصريحات المتطرفة للغاية التي أدلى الأمريكي الغني “أدلسون” ونقلها الفيلم، وقد ألفت تطرف هذا الأمريكي مفتي الثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي، ليرد عليه في تصريح مباشر، لكن الرد الذي لم يكن يتوقعه “أدلسون” هو الهجوم الإيراني على الشبكة الإلكترونية لشركته، وهذا ما حدث في خريف عام 2013.

“فجأة لم يعد بإمكان أي موظف في الشركة فتح الحاسوب الخاص بالعمل، حيث توقف كل شيء، وكان شيئا غريبا..”. هكذا صرح أحد العاملين في شركة “أدلسون”، لكن الفيلم أخفى هويته خوفا من أي ملاحقات قد يتعرض لها. لقد دمر الهجوم الإيراني شبكة “أدلسون” الإلكترونية، وبلغت الخسائر التي تكبدتها الشركة ما يقارب 40 مليون دولار، وتعرف العالم للمرة الأولى على الذراع الإلكتروني لإيران الذي يشكل اليوم تهديدا متواصلا للمصالح الأمريكية في الولايات المتحدة وحول العالم.

 

“المقابلة”.. كوميديا أمريكية تفسدها التراجيديا الكورية

يهتم الفيلم في دقائق طويلة بقضية فيلم “المقابلة” (The Interview) التي ستتحول لنموذج للحروب الإلكترونية ولاعبيها المتنوعين. وقد بدأت القصة عام 2014 عندما أعلن عن قرب عرض الفيلم الكوميدي “المقابلة” الذي يتناول بكوميديا فاقعة عملية استخباراتية أمريكية لقتل ديكتاتور كوريا الشمالية “كيم جونغ أون”.

يستعيد “سيث روغن” -الذي مثّل وكتب هذا الفيلم- التفاصيل الغريبة التي رافقت عمليات الترويج للفيلم، إذ تلقت الشركة المنتجة للفيلم “سوني” تحذيرات من كوريا الشمالية لوقف عرض الفيلم، وعندما رفضت الشركة المنتجة ذلك بدأت العملية الكورية الشمالية التي اخترقت أنظمة الشركة وتكلفها خسائر بالملايين.

بالإضافة إلى الخسائر المادية التي تكبدتها “سوني”، فإنها خسرت الكثير من سمعتها، إذ سرّب القراصنة مراسلات حصلوا عليها من الشبكة الإلكترونية للشركة بين مسؤولين فيها، وتتضمن السخرية من نجوم معروفين، وقد طبع بعضها الفوقية والذكورية. كما كشفت المراسلات عن تفاصيل غير معروفة تخص أجور النجوم التي بينت تفاوتات مفاجئة للبعض.

وفي رد على عملية “سوني”، تعرضت شبكة الإنترنت في كوريا الشمالية إلى عملية تخريب كاملة، بيد أن “مايكل رايلي” الصحفي العامل في بلومبيرغ نيوز وصف العملية تلك بالقليلة الأثر، إذ تسمح شبكة كوريا الشمالية للإنترنت لـ28 موقعا فقط تابعة جمعيها للحكومة.

الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية عام 2016، والتي يُتهَم فيها الروس باختراقهم لشبكة الحزب الديمقراطي الأمريكي

 

فوز “ترامب”.. لعبة الاختراق التي قلبت مزاج الناخبين

يهتم الفيلم الوثائقي بعرض أبرز عمليات التدمير الإلكترونية الكبيرة التي شهدها العالم في السنين العشر الماضية، فيصل في نصفه الثاني إلى عملية اختراق الروس لشبكة الحزب الديمقراطي الأمريكي في عام 2016 التي يعتقد البعض بأنها كانت حاسمة في تغيير مزاج الجمهور الأمريكي، ورجحت في النهاية فوز “دونالد ترامب” برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.

ولعل سير الأحداث التي أعقبت قرصنة الحزب الديمقراطي الأمريكي يشير إلى المصالح الكبيرة التي تقف وراء العملية، وكما بين “جون بوديستا” رئيس حملة “هيلاري كلينتون” في حديثه للفيلم، فإن القراصنة لم يكتفوا بسرقة البيانات، بل قدموها إلى موقع ويكيليكس الذي وزعها على العالم كله.

وإذا كان من غير المؤكد تحديد الجهة التي تقف وراء قرصنة الحزب الديمقراطي الأمريكي، فإن هناك أدلة تشير إلى تورط أجهزة مخابراتية روسية في القضية، وهي التهمة التي نفاها على حد سواء الروس وترامب نفسه.

بث الفوضى والكراهية.. عبث الروس بمواقع التواصل الاجتماعي

لم يكن التدخل الروسي في انتخابات عام 2016 مقتصرا على قرصنة مؤسسات أمريكية ضخمة، بل حاولت روسيا بث الفوضى عبر وسائل التواصل الاجتماعي الأمريكية، فقد أدارت آلاف الصفحات المزورة على هذه المواقع.

ويستعيد فيلم “السلاح المثالي” بمونتاج سريع مئات الصفحات المزورة على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما يشرح خبراء في الفيلم أن هذه الصفحات خلقت الكثير من الفوضى في المجتمع الأمريكي، فبعضها كان ضد العنصرية، والآخر ضد الإسلام والسود والجنسيات المختلفة.

وبيّن خبير أمني أمريكي أن روسيا أرسلت بعض الروس إلى الولايات المتحدة ليدرسوا سلوك الناس هناك، حتى يمكن التأثير بهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.

دميترو شيمكيف أحد موظفي رئاسة الجمهورية الأوكرانية الذي كشف تحوّل بلاده إلى تجارب لآلة التخريب الإلكترونية الروسية

 

أوكرانيا الجارة.. حقل تجارب الأسلحة الإلكترونية الروسية

من الشخصيات المهمة التي نجح الفيلم في محاورتها “ديميترو شيمكيف”، وهو أحد موظفي رئاسة الجمهورية الأوكرانية، وقد كشف أن بلاده تحوّلت إلى حقل تجارب لآلة التخريب الإلكترونية الروسية، حيث قامت بتجريب عدة خطط على أوكرانيا أولا، قبل أن تبدأ بتطبيق الخطط ذاتها على عدد من دول العالم، وبالخصوص الولايات المتحدة.

لسنوات طويلة جرت إشاعة الفوضى في أوكرانيا عبر التزييف الإلكتروني الذي أخذ صورا عديدة، منها بث الدعايات بين الناس ونشر الأخبار الكاذبة، وذلك لزحزحة الحكومة الأوكرانية التي انفصلت عن روسيا قبل أعوام.

ويضرب الفيلم مثالا على ما حدث قبل فترة في أوكرانيا بعد الأزمة العالمية التي سببها كورونا (كوفيد-19)، فبعد نجاح الحكومة الأوكرانية في مساعدة الأوكرانيين العالقين بدول أخرى بسبب توقف السفر الجوي؛ وجد هؤلاء بمجرد وصولهم إلى بلدهم أن البعض كان ينتظر وصولهم بالحجارة، بعد أن نشرت صفحات مجهولة على مواقع التواصل الإلكترونية أن العائدين يحملون فيروس كورونا.

 

سارق التكنولوجيا.. يد الحكومة الصينية الطويلة

تتنوع الحروب الإلكترونية في العالم اليوم كما يفصلها فيلم “السلاح المثالي”، فبعد أن تناول حروبا إلكترونية بدوافع سياسية، سيركز في ربعه الأخير على القرصنة التي تهدف إلى سرقة المعلومات والتكنولوجيا، ومن الواضح أن الصين تتصدر هذا النوع من القرصنة.

يستعين الفيلم بحادثة حصلت في العام الماضي، وذلك حين وقعت قرصنة حسابات شركة تكنولوجية أمريكية تختص بالبث الفضائي، ولما استشارت هذه الشركة مؤسسة أمنية متخصصة في حماية البيانات الإلكترونية؛ تبيَّن أن مصدر الهجوم كان من الصين، ومن مجمع حكومي أمني يُحاط بحراسة مشددة.

تهديدات القرن الـ21.. عصر الحروب الإلكترونية

يُحذر الفيلم من أن أغلب التهديدات التي سوف يواجهها العالم في القرن الحادي والعشرين ستكون إلكترونية، وهذا ما يؤكده وصول التهديدات الإلكترونية إلى المرتبة الثالثة في قائمة التهديدات المحتملة التي تواجهها الولايات المتحدة في السنوات الماضية، وفق القائمة التي أصدرتها الأجهزة الأمنية الأمريكية في عام 2012. ومن الجدير بالذكر أن الاعتداءات الإلكترونية لم تكن في قائمة التهديدات التي صدرت في عام 2007.

جمع الفيلم مجموعة كبيرة من الخبراء والشخصيات التي شهدت على الأحداث، حتى أنه نجح في إقناع “هيلاري كلينتون” نفسها للحديث في الفيلم، رغم أنها قليلة الحضور إعلاميا، إضافة إلى مجموعة من الشخصيات الأخرى التي شاركت في هذا الفيلم، ومنهم “مايكل رايلي” من بلومبيرغ نيوز، و”جون هولتكويست” مدير شركة “فو” الأمنية، و”إيمي زيغارت” الأستاذة في جامعة ستانفورد، و”كيث إلكسندر” مدير وكالة الأمن القومي الأمريكي (من 2005 وحتى 2014)، و”جيمس كلابر” مدير المخابرات الوطنية (من 2005 وحتى 2014)، و”ديفيد سانغر” الصحفي المعروف في جريدة “نيويورك تايمز”.

 

مماهاة عوالم القرصنة.. قالب الفيلم الفني

على صعيد الشكل الخارجي اختار الفيلم أن يُماهي عوالم عمليات القرصنة الإلكترونية باستخدام رموز البرمجة الإلكترونية، فتظهر أحيانا على أطراف الشاشة، وتفصل أحيانا أخرى بين مقاطع الفيلم، كما اختار الفيلم أن يكتب الأسماء والعناوين كما تُكتب في البرمجة الإلكترونية.

وعلى رغم أن “السلاح المثالي” ليس الأول وثائقيا على صعيد مقاربة قضية الحروب الإلكترونية وجسامة آثارها، فإنه الأوسع بتناوله وربطه بين الإمكانات التي توفرها التكنولوجيا لإضافة مزيد من العنف على الصراعات الفعليّة المتواصلة في العالم اليوم. كما يبين أن الخسائر التي سيدفعها العالم جراء الحروب الإلكترونية، تتناسب مع تطور التكنولوجيا التي نستخدمها، ومدى اتكالنا على هذه التكنولوجيا لتسيير كافة شؤون الحياة.