“تموت لتكون متعددة الثقافات”.. أمواج اللجوء تصنع وجها آخر لجنّة المهاجرين السويد

الصورة المستقرة في أذهان الجميع -خاصة في الجزء الجنوبي من العالم- هي أن السويد جنة المهاجرين واللاجئين الذين يفرون من بلادهم بسبب الحروب والمجاعات، ينشدون العيش في مجتمع يرحب بالغرباء ويمنحهم الدفء والأمان.

ولا شك أن السياسة العامة المتبعة في السويد تشجع وترسخ هذه الفكرة التي تستند على اعتبار السويد مجتمعا متعدد الثقافات، تتعايش فيه الثقافات في نسيج يثري البلاد، وهي سياسة أصبحت راسخة منذ سنوات من خلال التعليم والإعلام.

غير أن هناك من يبدي كثيرا من الشكوك إزاء تلك السياسة، ويوجه إليها انتقادات شديدة، ويتهمها بتحويل السويد إلى بلد متدهور، بدلا من جعلها بلدا مثاليا للتعايش والانصهار في منظومة واحدة تتغنى بالقيم الليبرالية، وتنشد السعادة للجميع من الوافدين والمقيمين والسويديين الأصليين والغرباء الذين يتدفقون عليها بأعداد كبيرة عاما بعد عام.

من بين هؤلاء المتشككين الكاتب والمخرج “بيلي نيروث” الذي قام بالاشتراك مع زميله “بول ريمنغتون”، بإخراج الفيلم الوثائقي “السويد.. تموت لتكون متعددة الثقافات” (Sweden, Dying to Be Multicultural)، ثم أصدر أيضا كتابا بالعنوان نفسه.

مدينة مالمو.. مخاوف في ملاذ اللاجئين المسلمين

يركز المخرج “بيلي نيروث” بشكل خاص على مدينة مالمو، مدينته التي أصبحت المركز الرئيسي في البلاد لتركز اللاجئين القادمين من بلدان الشرق الأوسط سوريا والعراق وأفغانستان، ومن الصومال في أفريقيا، أي اللاجئين المسلمين تحديدا.

يبدأ الفيلم بعبارة “نعوم تشومسكي” التي نراها مكتوبة على الشاشة: “الدعاية بالنسبة للديمقراطية كالهراوة بالنسبة للدولة الشمولية”، أي أنها وسيلة للقمع.

ومن هذه العبارة المقصودة يدخل الفيلم إلى موضوعه مباشرة، إلى المخرج نفسه الذي يمزج في فيلمه بين الذاتي والموضوعي، بغرض تقريب الموضوع من أذهان المشاهدين، فهو ليس دراسة موضوعية محايدة، بقدر ما يعبر عن المخاوف الشخصية لصاحبه، وهو بالتالي فيلم أحادي النظرة إلى حد كبير.

ينطلق الفيلم منذ البداية من فرضية مستقرة لدى مخرجه، وهي فرضية مغموسة في جرعة كبيرة من التشكك، وبالتالي يمكن اعتبار الفيلم طرحا مقصودا في الاتجاه المعاكس لكل الأفكار السائدة عن السويد، عن مجتمع العيش المشترك، عن سياسة الهجرة، عن مستقبل هذه السياسة في ضوء المتغيرات الدرامية التي تقع هناك، عن دور الإعلام والمؤسسات التعليمية وخاصة الجامعات ومراكز البحث العلمي، وكلها مناطق يسعى المخرج لسبر أغوارها والتطرق إلى ما نالها من تغيير، بفعل السياسة الليبرالية الرسمية السائدة في السويد منذ منتصف السبعينيات.

الثقافة السويدية تواجه التهديد.. هل يصبح السويديون أقلية؟

يعرض الفيلم آراء المعترضين على سياسة السويد، ويتهمون المسؤولين بتحويل السويد إلى بلد متدهور، بدلا من جعلها بلدا مثاليا للتعايش والانصهار في منظومة واحدة، تتغنى بالقيم الليبرالية وتنشد السعادة للجميع.

في لقطة من داخل قطار نشاهد “نيروث” جالسا يتأمل عبر النافذة، والقطار يعبر مناطق طبيعية، بالتوازي مع لقطات للقضبان وعجلات القطار التي تقطعها بسرعة، ويستجمع شتات أفكاره وهو في طريقه للعودة إلى بلده.

هل سيصبح المهاجرون في السويد مستقبلا أكثر عددا من سكانها الأصليين؟

ومن خارج الصورة يأتينا صوته قائلا: في مالمو وقع انفجار لعدد من القنابل اليدوية، ثلاث جرائم قتل في أول أسبوعين من عام 2017. تقول المؤشرات إن السويديين قد يصبحون أقلية في بلدهم بحلول عام 2040، فالثقافة السويدية تواجه التهديد، حقوق المرأة، الرقص حول حمامات السباحة في الصيف، وماذا عن اللغة السويدية؟ لقد أيدت السويد الحقوق القومية لليتوانيا وإستونيا وبلدان أفريقية، لكن غير مسموح للسويديين بالتعبير عن حبهم لبلدهم.. هذه هي الفرضية الأولى.

مخيمات اللاجئين.. إنفاق سويدي إنفاق الأمم المتحدة

يقول الفيلم إن السويد قبلت 163 ألف لاجئ في عام 2015، وجميعهم منحوا الإقامة الدائمة، وعلى خلفية لقطات من فيلم قصير صوره “ليو سبرانديو” لقناة “ناشيونال جيوغرافيك”، نشاهد من حلال الحركة البطيئة -وهو أسلوب يلجأ إليه المخرج من وقت لآخر- أطفالا ونساء في حالة مزرية في مخيمات اللاجئين التي أقيمت في العراء.

ويقول تعليق المخرج الصوتي إن ما أنفقته السويد على دعم اللاجئين يوازي كل ما أنفقته الأمم المتحدة على اللاجئين في العالم كله.

يأمل المهاجرون في السويد أن يحققوا الاندماج في المجتمع والتخلص من المعاملة العنصرية

ثم يتساءل لماذا تنفق السويد كل هذه الأموال على عدد قليل من اللاجئين، بينما كان من الأفضل تخصيصها لتحسين أوضاع اللاجئين الذين يعيشون في ظروف متدهورة داخل خيام منظمة الأونروا التابعة للأمم المتحدة في بلادهم؟ ولماذا منحوا الإقامة الدائمة، ولماذا تبلغ نسبة 71% منهم من الذكور؟ وكيف سيعاد بناء بلد مثل سوريا من دون الرجال؟ وهل سيعيشون حياة كريمة سعيدة منتجة في السويد؟ وكم منهم يعتقد أن الإسلام أهم من التقاليد السويدية والقانون؟

تعايش الثقافات.. طموحات المدينة الطوباوية في السويد

يستند الفيلم إلى فكرة تتكرر كثيرا عبر فصوله المختلفة، وتدور حول أن طرح مثل هذه الأسئلة محظور الآن في السويد، لأنها يمكن أن تقوض الأساس الذي تستند إليه النخبة الحاكمة في تحويل السويد إلى يوتوبيا (مصطلح بمعنى الطوباوية أو المدينة المثالية الخيالية) جديدة شجاعة تمثل تعايش الثقافات، ويظل يطرح باستمرار السؤال نفسه: ولكن ماذا لو فشلت هذه السياسة؟

تقول “أيرين” وهي أستاذة جامعية من أصول مجرية تقيم في السويد منذ 1996: ليس من الممكن تسويق هذه السياسة في أوروبا الشرقية، فشعوب هذه البلدان عانوا طويلا من هذه السياسة.

أما “بوجدان”، وهو سائق حافلة جاء أصلا من بولندا، فيرى أن وسائل الإعلام السويدية تشبه كثيرا أجهزة الإعلام البولندية في زمن الحكم الشيوعي. وتقول المترجمة “باربرا” وهي بولندية الأصل، إن المعارضين كان يُزج بهم في السجون في الاتحاد السوفياتي وألمانيا الشرقية، أما هنا فهؤلاء يفقدون وظائفهم.

يعتقد بعض الأوروبيين بأن تسويق سياسة التعايش لن تنجح في أوروبا الشرقية

النقطة الأخيرة هي التي سيسعى المخرج إلى التحقق منها، فيقابل أستاذ الفلسفة الجامعي السويدي “إريك أولسون” الذي يقول: إن محاولة التدقيق في المعلومات وفحص ما يقال إنه حقائق مستقرة يجعل المرء يصطدم بالنظرة الرسمية السائدة، وبالتالي يواجه المشاكل.

أما “غوران أدامسون” الأستاذ في علم الاجتماع السياسي ومؤلف كتاب “التعدد الثقافي من وجهة نظر يسارية”، فيرى أنهم ربما يشهدون أفول المجتمع الذي عرفوه منذ عصر النهضة.

نصف مليون من المهاجرين.. أرقام تقلب ديموغرافيا المدينة

تهبط الكاميرا إلى المدينة لتستعرض أولا أشكال التنوع السكاني في الوجوه والملابس، في الشوارع ومحطات القطارات والمحلات التجارية، ثم ننتقل إلى مقطع أقرب ما يكون إلى فيلم إعلاني عن السويد، جنة الأرض التي حققت التقدم العلمي والصناعي، وهو مجتمع الرفاهية الذي كان الجميع مبهورين به في الستينيات.

لكن المشاهد سرعان ما يدرك أنه من خلال التعليق الصوتي الذي يظهر عليه، ليس سوى استطراد على طرح التساؤلات السابقة عن الهجرة، فهذه الصورة الناعمة المثيرة للإعجاب التي شاهدناها للرجل والمرأة في مجتمع الوفرة السويدي، سرعان ما تقطعها صورة أخرى مغايرة، تجسد المشكلة التي يحذر الفيلم منها ويرى أنها قد تغير صورة المجتمع السويدي إلى الأبد.

في البداية يقدم المخرج في استعراض سريع الشخصيات الرئيسية التي ستظهر في الفيلم، ثم ننتقل إلى مدينة مالمو التي يطلق عليها “طائر الكناريا في منجم فحم”. فمن الأرشيف نشاهد لقطات من الحياة في المدينة من عام 1958، حيث الساحات العامة النظيفة، وسكان قليلون يتجولون في الشوارع، وأطفال سعداء تبدو على وجوههم علامات الصحة، والتجانس البشري واضح في هذه اللقطات.

لقطات من الحياة في المدينة مالمو من عام 1958 حيث الساحات العامة النظيفة، وسكان قليلون يتجولون في الشوارع

ثم يقفز باستخدام لقطات أخرى قديمة من عام 1988، أي بعد مرور 30 سنة، ونرى الأماكن نفسها أصبحت مليئة بالقاذورات، لنشاهد جزءا من تقرير تليفزيوني عن الأوضاع في المدينة. ثم نشاهد تقريرا آخر عن مالمو في 2007، يقول التعليق إن سلطات مالمو تواجه وضعا صعبا في المدينة التي تعاني من تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين المسلمين، والغالبية العظمى منهم عاطلون عن العمل، وهم غاضبون من أوضاعهم المعيشية، ويوجهون غضبهم نحو البلد الذي آواهم.

ويعرض التقرير لآراء بعض السكان المحليين عن ما يتعرضون له من تحرشات واعتداءات وتكسير سيارات، فنشاهد رجال الشرطة والإطفاء يكافحون للتدخل لحل المشاكل التي تنشب. يقول المعلق إنه في معظم الأحوال لا تتمكن سيارات الإسعاف من دخول الأحياء المليئة بالمهاجرين من دون حماية الشرطة.

ويضيف قائلا إن المدينة التي كان عدد سكانها يبلغ ربع مليون شخص أصبح يقيم فيها حاليا ربع مليون مسلم، وهم لا يقيمون وزنا للقانون السويدي والتقاليد، ومسموح لهم باستقدام أقاربهم. ويحاور المذيع مدير مدرسة سويدية يقول إن لديه ألف تلميذ، فيسأله: كم طفلا سويديا من بينهم؟ فيقول: اثنان فقط، والباقون من أبناء المهاجرين.

“إنها أشياء كلها جاءت من الخارج”.. ثقافة السويد

يستعيد المخرج ذكرياته من خلال شريط من الصور الفوتوغرافية العائلية منذ أن كان طفلا نشأ في مالمو، حين كانت المدينة ميناء كبيرا رئيسيا في أوروبا، وكانت تأتيها السلع من كافة أرجاء العالم، وكان الطابع العام للمدينة أنها مدينة الطبقة العاملة، وكانت النقابات العمالية قوية والحكومة اشتراكية.

لقطات للعمال وللميناء، إقامة أكبر جسر في أوروبا، تشييد ميناء جديد، ناطحات سحاب حديثة.. ثم بدأت المدينة تقبل اللاجئين، فأصبح 44% من سكانها من الشرق الأوسط وأفريقيا، و25% من سكان المدينة من المسلمين.

يقدر بأن 44% من سكان مالمو جاءوا من الشرق الأوسط وأفريقيا، وأن 25% من سكان المدينة مسلمون

إنه يقسم المدينة إلى مالمو1 وهو الحي النظيف الراقي الذي يعتبر دليلا على انسجام المهاجرين مع السويديين والعمل والتعاون المشترك، ومالمو2 الذي تعم فيه الفوضى، وينتشر العنف وجرائم القتل والاغتصاب، ويُرجع الفيلم ذلك إلى البطالة والأوضاع التي يعيشها اللاجئون ورفضهم الاندماج وازدرائهم المنتظم للقانون.

إننا نرى مثلا الاعتداء أمام الكاميرا مباشرة على مذيعة تلفزيون أسترالية وفريقها من جانب مجموعة من الشباب الأفريقي الملثم، مباشرة بعد أن تبتعد الشرطة عن مكان التصوير، ففي هذا الحي تبلغ نسبة العاطلين عن العمل 74%، فهل هذا يشجع على الاندماج وخلق المجتمع المتعدد الثقافات؟

وتعليقا على هذا نشاهد في أحد المشاهد اشتعال الحرائق في السيارات، وأعمال العنف، فهي تتقاطع مع شريط دعائي عن امتزاج الثقافات تروج له الحكومة.

المصور يتعرض لهجوم من قبل بعض المهاجرين بعد مغادرة الشرطة

والشخصية الوحيدة التي تظهر في الفيلم وتدافع عن التعددية الثقافية هي شخصية رجل يدعى “روستان” ويعمل مديرا لوحدة طبية في المدينة، فهو يرى أن هناك كثيرا من المبالغات التي يبثها أنصار الحزب الديمقراطي المناوئ للهجرة، ويرى أن السويد يجب أن تقبل مزيدا من اللاجئين، لأن أعداد كبار السن في ارتفاع، وهناك حاجة إلى سواعد الشباب.

وعندما يسأله المخرج عن خطورة قبول ثلاثة أو أربعة ملايين شخص على الثقافة السويدية يقول له ببساطة: وما هي الثقافة السويدية؟ إنها أشياء جاءت كلها من الخارج.

نقد سياسة التهجير.. خط أحمر لدى السلطة القضائية

من الغريب أن ممثل الحزب المناهض للهجرة هو شاب إيراني يدعى نعمة غلام علي بور، ويتحدث إلى المخرج عن الممارسات الملتوية التي تمارسها الحكومة ضد حزبه لتهميشه وتقليص دوره في المشهد السياسي، مؤكدا أن هناك فرقا كبيرا بين اللاجئين أنفسهم الذين يتعاطف معهم، وبين الحديث عن سياسة الهجرة وأضرارها على البلاد على المدى البعيد.

وهذا الرأي عبر عنه غيره، وكان مصيره العقاب الشديد، ومن هؤلاء أستاذ جامعي تعرض للتحقيق والتهديد بالطرد من العمل، لمجرد أنه وصف طالبة منقبة بالسيدة التي تضع نقابا فوق وجهها، فما كان منها إلا أن قاضته وكاد يفقد عمله، وقد ظل عدة أشهر موقوفا عن العمل.

ممثل “الحزب المناهض للهجرة” الإيراني نعمة غلام علي بور

وهناك أستاذ جامعي آخر يتحدث عن صعوبة إخضاع القضية لمفاهيم ومقتضيات البحث العلمي، فإذا اقتربت من المساس بفكرة التعددية الثقافية واجهت مصيرا سيئا، وهناك من فقدوا أصدقاءهم وأفراد أسرهم، بسبب الإعلان عن موقفهم أو رأيهم في القضية.

وعندما يسأله المخرج: كيف يتعامل زملاؤك الذين يشاركونك الرأي؟ يقول له إنهم ببساطة يلغون تفكيرهم.

أحادية الطرح والانحياز الفكري.. هنات الفيلم

القضية الأساسية التي يعرضها الفيلم هي قضية حرية التعبير والنقد، وهو يرى أنها قد أصبحت غائبة بعد أن تحولت إلى أمر محظور الاقتراب منه في نظر المجتمع، على غرار ما كان سائدا في البلدان الشيوعية.

ورغم ما يمكن أن يؤخذ على الفيلم من تكرار الفكرة من زوايا متعددة والتأكيد عليها، وعدم وجود مساحة كافية للرأي الآخر، تضمن توازنه الفكري وتقلل من شبهة انحيازه؛ فهو يتميز بصوره الجذابة، وجرأته في اقتحام أماكن لم يسبق أن دخلتها الكاميرا، والعثور على أشخاص من الشريحة الاجتماعية العليا يمكنهم الحديث بحرية أمام الكاميرا، كما أنه احتوى في الوقت نفسه على الكثير من اللقطات الوثائقية التي تربط بين الماضي والحاضر.

وعلى الرغم من كل ما ذكر، فإن هذا الفيلم لن يمكنه أن يتفادى الاتهام بالتعصب والنظرة الأحادية والطابع الدعائي للفكرة أيضا، ولكن بوسائل فنية جذابة. لكن لا شك أنه يصلح في النهاية أن يكون مادة جيدة لمناقشة جادة وموضوعية حول القضية.