السينما الإيطالية.. دوحة خالدة تنشر ظلالها على العالم

بلال المازني

كان سيبدو من الغريب أن تفوّت إيطاليا باعتبارها إحدى المراجع الأساسية للفنون في العالم عبر التاريخ؛ فرصة احتضانها بعشق أحد الفنون السبعة وهي السينما، وذلك بعد أشهُر من الثورة التي قلبت العالم، والتي أطلقها الأخوان لوميير بعرض آلتهما العجيبة، وهي آلة “السينماتوغراف”.

وقد يحفظ الإيطاليون وكل المهتمين بالسينما في العالم امتنانا كبيرا للبابا “ليون الثالث عشر” الذي قدّم مباركته أمام كاميرا السينمائي “فيتوريو كالتشينا” في فيلم طوله دقيقتين وعشرين ثانية، ويرجع إلى العام 1896، ويبدو أن بركات البابا قد حلّت على السينما الإيطالية التي صنعت مجدها من تحت أنقاض الحرب.

بدأت إيطاليا في حصد جمهور عريض لهذا الفن الجديد، بعد أن كانت الأفلام لا تجذب سوى الفضوليين لاكتشاف الفن السابع، فكانت مرحلة التأسيس قد بدأت في العام 1903، وذلك بإنشاء شركات إنتاج ودور سينما في المدن، وبدأ الاهتمام فعلا بالأفلام إنتاجا ومتابعة، وكان أول فيلم بمفهومه الحالي هو “الاستيلاء على روما” الذي أخرجه “فيلوتيو ألبرنيني” سنة 1905.

لكن العهد الذهبي للإنتاج السينمائي كان بين العامين 1910 و1918، حيث أصبحت الأفلام ذات جودة أعلى، مما جذب عددا أكبر من الجماهير، فكانت البداية مع فيلم “آخر أيام بومباي” (1913) للمخرج “ماريو كاسيريني”، والفيلم العبقري “كابيريا” (1914) للمخرج “جيوفاني باستروني”، وخلال تلك الفترة كانت إيطاليا تعيش على وقع حركة ما يسمى بـ”المستقبلية” التي ترتكز على القطع مع أطر الماضي في جميع الفنون.

كان فيلم “تايلاندي” (1917) للمخرج “أنطون غوليو براغاليا” أحد الأفلام التي تأثرت بتلك الموجة، فقد شهدت السينما الإيطالية في تلك الفترة ثراء كبيرا، وبرزت ممثلات كثيرات مثل “فرانشيسكا بيرتيني” و”ليدا بوريلي” و”ليدا جيز”، وكنّ من أوائل نجمات السينما اللاتي حلّقن في سماء الشهرة.

 

عهد جديد من المجد.. السينما تتحدى الحرب

كادت الحرب العالمية الأولى أن تقضي على السينما في إيطاليا، إذ مرت بفترة من الركود الكبير بعد أن أفلست بعض دور الإنتاج السينمائي وخسرت السوق الخارجية، لكن بعض منتجي أفلام الدراما العاطفية قاوموا الأزمة، رغم أن هامش الإبداع قد ضاق بسبب الأزمة الاقتصادية والحرب.

وكان المخرج “روبيرتو ليوني” المعروف باسم “روبيرتو روبيرتي” أحد روّاد هذا النوع من الأفلام، إضافة إلى “جوليو أنتامورو” أحد أبرز مخرجي الدراما العاطفية التي حاولت أن تقاوم الأزمة التي بدأت تنفرج بصعود الفاشيين إلى الحكم، والذين شجعوا السينما بتأسيس “معهد لوتشي” في العام 1924، وهو مؤسسة لبث الأفلام ذات المنحى التعليمي والدعائي، وفرض بث “نشرة لوتشي” بداية من العام 1927، على كل دور السينما قبل عرض أي فيلم، فقد راهن موسوليني على السينما باعتبارها “أقوى سلاح” كما وصفها.

في أواخر عشرينيات القرن الماضي استفاد بعض المخرجين من تعافي صناعة الإنتاج السنيمائي، مثل “أليساندرو بلاسيتي” رائد ما يسمى بـ”سينما الهواتف البيضاء”، وهو الذي أخرج فيلم “شمس” (1928)، والمخرج “ماريو كاميريني” صاحب فيلم “السّكة” (1929)، وبدأت السينما الإيطالية تُسطّر عهدا جديدا من المجد من خلال فيلم “أغنية الحب” للمخرج “جينارو ريغيللي”، وهو أول فيلم إيطالي ناطق.

كواليس تصوير فيلم “بن هور” في إستوديوهات مدينة السينما الإيطالية الشبيهة بهوليود

 

“مدينة السينما”.. هوليود الإيطالية

في الضفة المقابلة، كانت هوليود تنتج أفلاما دعائية، وهو ما قد يكون ألهم موسوليني لإنشاء مركز سينمائي كبير شبيه بهوليود سُمي بـ”سيني تشيتا” أو “مدينة السينما” في العام 1937، وقد احتوت هذه المدينة على مسارح ومدرسة سينما وخدمات تقنية، وأصبحت المدينة مشتلا لصناعة الممثلين والمخرجين وكتاب السيناريو.

كانت أولى خطوات “موسوليني” من أجل بناء نوع من السينما القومية هي إنشاء “سيني تشيتا”، وبعد عامين سنّ قانون يحظر استيراد الأفلام الأجنبية وبالتحديد الأمريكية، وأصبحت السوق الإيطالية محصّنة، فازدهرت صناعة الأفلام الدعائية والأفلام التاريخية، وما يسمى بكوميديا “الهواتف البيضاء”، وهو نوع من الأفلام ظهر في فترة قصيرة نسبة إلى الهواتف البيضاء التي كانت تظهر في لقطات الفيلم، والتي تحيل إلى النخبة فاحشة الثراء.

المخرج روبيرتو روسيليني رفقة الممثلة أنغريد برغمان

 

“أربع خطوات فوق السحاب”.. الطريق إلى الواقعية

كانت إيطاليا أرض خراب بعد الحرب العالمية الثانية، ومن تحت ركام البنايات بُعث جيل من المخرجين المطهرين لفترة السينما الدعائية، وقاد هؤلاء المخرجون ما يسمى بـ”سينما الواقعية الجديدة”، التي رأت في أحياء مدن إيطاليا ميدانا كبيرا لتصوير الأفلام يغنيها عن الإستوديوهات التي دمّرتها الحرب، وأصبح بعضها مخزنا للسلاح خلال فترة الصراع العالمي. ويعتبر كثيرون أن أول فيلم يمثل هذا التيار الجديد كان خلال فترة حكم الفاشية في إيطاليا، وهو فيلم “أربع خطوات فوق السحاب” (1942) الذي أخرجه “أليساندرو بلاسيتي”.

استمدت الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية جذورها من السينما السوفياتية التي بدأت مبكرا بتصوير الواقع، خاصة مع المخرج “زيغا فيرتوف” في بداية العشرينيات من القرن الماضي، لكنها اختلفت عنها وأشعّت بسبب مهارات متفردة في تقنيات المعالجة السينمائية للواقع، والتي انتهجها روّاد السينما الواقعية الجديدة الإيطالية، والذين تمسكوا بمحاكاة الواقع كما هو في قالب شبه وثائقي.

“هكذا تسير الأمور” هي عبارة حرّر بها “روبيرتو روسيليني” مخرجي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في إيطاليا من الإستوديوهات، وذلك بعد إنجاز فيلمه الخالد “روما مدينة مفتوحة”، فقد كانت أزقّة المدن وشوارعها وأسواقها ميدانا خصبا لإنتاج الأفلام، بل ذهب مخرجو الموضة الجديدة إلى أبعد من ذلك في الاعتماد على ممثلين غير محترفين، وإسناد أدوار رئيسة في أفلامهم، لقد تمكنوا بعبقرية كبيرة من خلق مساحة كبيرة للإبداع، فوق فاصل رفيع يفصل بين الفيلم الوثائقي والأفلام الروائية.

 

أفلام المقاومة الواقعية.. الوجه الخام لإيطاليا

كانت إيطاليا ميدانا للحرب والدمار خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت “سيني تشيتا” هدفا عسكريا خلال الحرب، فقُصفت ثم تحولت إلى مخزن للأسلحة بين العامين 1945 و1947، لكن لم يكن هذا سببا في أن يدير مخرجو أفلام الواقعية الجديدة ظهورهم للإستوديو، فقد كان رهانهم هو تصوير معاناة الفقراء في المجتمع الإيطالي، وحتّم ذلك عليهم الاستغناء عن بعض تقنيات تصوير الفيلم الكلاسيكية مثل الإضاءة، والاستعاضة عنها بالإضاءة الطبيعية، والتعويل على اللقطات الطويلة وعلى تصوير أحداث حقيقية، وإسناد أدوار البطولة إلى ممثلين غير محترفين.

كان فيلم “الهاجس” (1942) للمخرج “لوكينو فيسكونتي” بمثابة السكّين الذي قطع الحبل مع أفلام “الهواتف البيضاء” التي صوّرت المجتمع الإيطالي من زاوية ضيقة جدا، فكان تجسيدا واضحا للواقعية الجديدة، واستعمل “فيسكونتي” كاميرات خفية واحتوى الفيلم على لقطات طويلة، لكن يظل فيلم “روما مدينة مفتوحة” (1945) للمخرج “روبيرتو روسيليني”؛ أول فيلم يفتح الباب على مصراعيه لصناعة أفلام الواقعية الجديدة، فقد صوّر “روسيليني” حركة المقاومة في شوارع روما خلال فترة الحرب، كما اعتمد على أشخاص عاديين في أدوار البطولة. لقد صوّر الفيلم الحياة الحقيقية للإيطاليين، بل وقدّم الوجه الخام لإيطاليا في فترة صعبة خرجت منها بلاده مهزومة في الحرب، ووُصم فيها الإيطاليون بالفاشية.

 

“الأرض تهتز”.. عام كريم للسينما الإيطالية

نجحت أفلام الواقعية الجديدة في محو هذه الصورة من ذهن العالم عبر تصوير الآثار المأساوية للحرب على الإيطاليين، فكان فيلم “سارق الدراجة” للمخرج “فيتوريو دي سيكا” (1948) عرضا عبقريا لمعاناة الإيطاليين، من خلال صورة الأب الذي دُمرت أحلامه بإيجاد وظيفة بسبب دراجة.

وفي العام ذاته أخرج “لوكينو فيسكونتي” فيلم “الأرض تهتز”، الذي صوّر تمرّد عائلة الصيادين في صقلية ضد الطبقة الثرية التي تستغلهم، وقد أنجز فيسكونتي الفيلم اعتمادا على ممثلين غير محترفين، وعايش الصيادين أشهرا حتى يكون وفيا في نقل صورة عيشهم في فيلمه.

كان العام 1948 عاما كريما بالنسبة للسينما الإيطالية والعالمية أيضا، فقد جاد أيضا بفيلم خالد للمخرج “روبيرتو روسيليني” بعنوان “ألمانيا.. العام الصفر”، اعتمد فيه على أسلوب جمالي في المعالجة السينمائية، فرغم واقعيته التي تنقل صراعا مريرا للطبقة الفقيرة وتضررها الكبير من الحرب، فقد كان يبعث بنوع من الأمل دون أن يصل إلى درجة الوهم.

لقطة من فيلم “الطريق” للمخرج فيديريكو فيليني، والذي وصفه بأنه “الكاتالوج الكامل لعالمي الخيالي”

 

“الحياة جميلة”.. تعرية الواقع بالخيال

تميزت فترة خمسينيات القرن الماضي بمنحى جديد في السينما الإيطالية، فقد قادها مخرجون نشؤوا ضمن الحداثة الجديدة بعد الحرب، مثل “مايكل أنجلو أنطونيني”، و”باولو بازوليني”، و”فيديريكو فيلّيني”، وقد ابتعدوا تدريجيا عن التيار الواقعي خاصة في الجانب التقني، وذلك بعودة الخيال إن صحّ التعبير، لكن أفلامهم الجريئة كانت تعبيرا محضا عن وعي دقيق بالبنية الاجتماعية والثقافية في إيطاليا.

كانت أعمال هؤلاء بمثابة تعرية للواقع، لكن بطريقة مختلفة حديثة وأعمق، إذ لا يمكن إنكار سطوة تجربة “بازوليني” الذاتية سواء كانت في سنوات شبابه الأولى التي قضاها في مأوى مدينة كاساركا، والتي بدأت بتعرية هويته الجنسية، أو خلال السنوات التي أعقبتها، وتُوجت بأفلام في غاية الجرأة تحدّت المجتمع وليس المجتمع الإيطالي فحسب، بل قد تكون سبّبت صدمة عالمية آنذاك في فيلمين بارزين، الأول يحكي قصة المسيح بعنوان “الإنجيل كما رواه القديس متّا”، والثاني فيلم “120 يوما في سادوم”، والذي كان مليئا بمشاهد العنف الجنسي، وقد تكون أفلامه التي دخلت دائرة المُحرّم هي التي جنت عليه، حيث قُتل في العام 1975 دهسا.

خرج “فيديريكو فيليني” في تجربته السينمائية من مدرسة الواقعية الجديدة ثم حاد عنها، فقد كان يتعامل مع المشاهد في أفلامه وفقا لخياله، وكانت لديه قدرة على خلق شخصيات خالدة في أفلام عبقرية، مثل فيلم “الطريق” (1954)، ووصفه بأنه “الكاتالوج الكامل لعالمي الخيالي”.

يقول “فيلّيني” إن “الفن هو التفاصيل غير المتناهية”، وهو ما نقله في فيلمه “الطريق” الذي أراد أن يبعث به بارقة أمل للإنسان الذي دمّرته الحروب بسبب شرور قادة طموحين، وذلك من خلال المشاعر الإنسانية التي تنبثق من رجل السيرك القاسي، الذي جسّده الممثل الأمريكي أنطوني كوين.

ولعل فيلم “الحياة حلوة” (1960) هو الفيلم الذي ظهر فيه أسلوب “فيليني” الذي ابتعد فيه عن تيار الواقعية، والفيلم العبقري “ثمانية ونصف” في العام 1963 الذي يُعتبر تحفة فنية خالدة، والذي يقول عنه: “هو مزيج من زيارة مُرتبكة لطبيب نفسي ووعي مضطرب يسيطر على المخرج في موقع التصوير”، حيث امتزج الواقع بالخيال وظهرت عبقرية المخرج في سرد قصة هي أقرب إلى السيرة الذاتية للمخرج، والتي يقول إنها محض خيال.

 

شيخوخة السينما الإيطالية.. ظلال في كل مكان

كانت سنوات الستينيات أعوام مجد السينما الإيطالية والعالمية بحق، فقد أعاد المخرج الإيطالي “مايكل أنجيلو أنطونيني” تعريف السرد في السينما متجاوزا النهج التقليدي، فكانت الأولوية في أفلامه للتصميم والصورة والفكرة على حساب الحبكة، وكان فيلم “المغامرة” (1960) فيلما مذهلا ارتكز على بنية سردية غير معتادة متجاوزا السرد التقليدي، دون أن ننسى أفلامه عن الطبقة الوسطى مثل فيلم “الصديقات” (1955)، و”الصرخة” (1957)، وهي أفلام تشترك في تصوير معاناة اغتراب الفرد عن المجتمع.

كان العقد الأخير من القرن العشرين قد بشّر بأفول تدريجي للسينما الإيطالية، لكنه أبى الخروج دون أن يقدم تحفتين للمخرج “جوسيبي تورناتوري”، وهما فيلم “سينما باراديزيو” (1988)، و”مالينا” (1990).

ربما فهمت إيطاليا عبر الزمن أنها تتربع على عرش الفنون، وأنها تنزل منه من تلقاء نفسها تاركة هذا العرش لتجارب أخرى بعد أن تنثر عليهم من جمالها وحكمتها. وربما اليوم لا نرى السينما الإيطالية في كل قاعة وفي كل محفل، وكأنه نوع من جنون العظمة والغرور بأنها لا تريد أن تختلط برعاع الفن ولقطاء الجمال، لكن سينما إيطاليا تبقى مدرسة نلحظها في موسيقى أفلام بوليفيا وديكور أفلام تونس ولباس أفلام هنغاريا، إنها السينما الخالدة، إنها الأم.