السينما التونسية والسياسة.. انقطاع بعد صلة

بلال المازني

هذه واحدة من أبشع لقطات السينما التونسية في فيلم "صفايح ذهب" لنوري بوزيد

في غرفة مظلمة هي قبو من أقبية مراكز الأمن؛ رجل عار مضرّج بالدماء يُعذَّب ويُغتصب، ثم يفتح أحد أعوان الأمن سحاب سرواله ليتبول عليه.. كانت هذه واحدة من أبشع لقطات السينما التونسية التي شاهدتُها في فيلم موغل في السياسة إلى حدّ النخاع، وهو فيلم “صفايح ذهب” لنوري بوزيد.

خلال إعدادي لوثائقي “قبل العرض” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية عن الرقابة على السينما التونسية؛ التقيت نوري بوزيد وتحدثنا لساعات، ثم أخبرني صراحة أن “يوسف” بطل الفيلم الذي تم التنكيل به واغتصابه هو في الحقيقة نوري بوزيد الذي ذاق أهوال الاعتقال والسجن والاغتصاب في سجون الحبيب بورقيبة، حينها تيقنت أن السينما التونسية والسياسة جدلية معقدة موغلة في تاريخ البلاد وأعماق شعبها.

 

تونس ما بعد الاستقلال.. السينما بقبضة الدولة

بعد الاستقلال كانت تونس تبحث عن لملمة شتات ومحو جراح أكثر من سبعين سنة من الاحتلال، ورأى البعض أن الخروج من الملكية إلى الجمهورية طريق أمثل للنهوض من غياهب الماضي. وبعد تعيين بورقيبة نفسه أول رئيس للجمهورية، وفي أول جلسة للمجلس التأسيسي برئاسة جلولي فارس، طُلب من الرئيس الجديد إلقاء كلمة أمام الكاميرا يتوجه بها الى الشعب.

كانت تلك اللقطات التي تعتبر بمثابة النشرة الإخبارية تُعرض في قاعات السينما كل أسبوع قبل أحد الأفلام، وكانت تُصوّر في تونس وتُحمّض وتُطبع في فرنسا. وفي إحدى المرّات اكتشف المصور أن الكاميرا كانت فارغة من الشريط، لأنه لم ينتبه إلى أن المساعد غادر المجلس ولم يشحن الكاميرا بشريط جديد. منذ ذلك الحين عزم بورقيبة على إنشاء وزارة مختصة في الإعلام، تلتها وزارة الثقافة التي قام بتأسيسها الأستاذ الشاذلي القليبي والتي خرجت بثلاثة قرارات مفصلية في تاريخ السينما التونسية، وهي إنشاء الشركة التونسية للإنتاج والتنمية السينمائية، وأيام قرطاج السينمائية، والأمر بإنتاج أول فيلم تونسي طويل.

هنا أصبحت السينما بيد الدولة، ومن الطبيعي أن تكون إنتاجاتها الأولى أقرب إلى البروباغندا منها إلى السينما الاجتماعية، وتم إنتاج فيلم الفجر بإخراج عمار الخليفي وفريق تقني تونسي، وتدور أحداث الفيلم في السنوات الأخيرة من الاحتلال الفرنسي لتونس، وهو يسرد قصة ثلاثة شبان هم مصطفى وهادي وحسن، ينتمون لطبقات اجتماعية مختلفة، وينتسبون إلى المقاومة المسلحة، ويقومون بأعمال بطولية إلى أن استشهدوا.

وفي الحقبة نفسها أعقب فيلم “الفجر” فيلم آخر لعمار الخليفي بعنوان “الفلاّقة”، والذي سرد مراحل المقاومة المسلحة أيضا واستبسال المجاهدين التونسيين. وفي هذا الصدد يقول الناقد التونسي محمود الجمني “ما بين ‏سنوات الاستقلال وإلى غاية بداية الثمانينيات عرفت السينما التونسية أكثر من منحى مشترك في فيلم واحد، فنجد مثلا ‏‏سينما النضال الوطني التي برزت خاصة في أفلام عمار الخليفي “الفجر” و”الفلاقة” والتي تبرز دور الدولة في دعم السينما، فكانت أعمال عمار الخليفي سينما السياسة الرسمية وسينما الزعيم الرمز”.

 ورغم أن البعض صوّر المخرج عمار الخليفي بوق دعاية لنظام بورقيبة، فإننا لا ننكر أنه فتح الأبواب أمام السينما في تونس لتخرج من محليتها إلى نوع من العالمية وإن كانت بسيطة، وهو ما حدا بالدولة حينها كي تشجع الهواة الشباب على دراسة السينما في دول أوروبا وإعطائهم منح وامتيازات كبيرة، لكن الدولة حينها لم تعلم أبدا أن هؤلاء الشبان الجدد سيعودون من المهجر بسينما ثورية موغلة في السياسة أسقطت صورة الحاكم الأوحد بورقيبة.

عبد اللطيف بن عمار كان رائد سينما المعارضة في وقت من الأوقات بفيلمه "سجنان"، والذي يقول صراحة إن بورقيبة لم يكن حاملا لواء الاستقلال

السينما التونسية.. إسقاط سلطة الأب

كانت رياح المعارضة قد بدأت أصلا تعصف بالواقع الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، وعادت من المهجر أجيال من المثقفين وخاصة السينمائيين المشحونين بأفكار ثورية أمثال نوري بوزيد ورضا الباهي وحمّودة بن حليمة، وظهرت أعمال بقدر من الشجاعة الكبيرة كفيلم “شمس الضباع” و”عتبات ممنوعة” لرضا الباهي، والفيلم الوثائقي “حنظل” لمحمود الجمني، وفيلم “صراع” للمنصف بربوش.

كان الصدام بين السلطة والمثقف في تونس قد وصل مرحلة حاسمة، خاصة بعد أن ألقت أحداث مايو/أيار 1968 في فرنسا بظلالها على تونس، حيث بدأ جيل المخرجين الثوريين بالتكتل، وبدأت سينما المعارضة بالظهور، وربما كان عبد اللطيف بن عمار رائدها في وقت من الأوقات بفيلمه “سجنان”، والذي يقول صراحة إن بورقيبة لم يكن حاملا لواء الاستقلال.

كان بن عمار أحد الشباب الذين توجهوا إلى السينما بعد الاستقلال واجتاز مناظرة الدخول إلى مدرسة IDFC في باريس، وهي من أهم مدارس السينما في العالم. وعلى الرغم من أن دراسته كانت ممولة من الدولة فإنه عاد عام 1965 حانقا على الصورة الرسمية التي روجت لها السلطة. وبعمله مصورا سينمائيا للأحداث التونسية، أي الأخبار المعروضة في قاعات السينما، تنقّل بن عمار بين شمال البلاد وجنوبها ورأى صورة أخرى مخالفة للمتداول عند الإعلام الرسمي، ولمس رفضا على مستويات ثلاثة؛ رفضا لسياسات الدولة الاقتصادية خاصة تجربة التعاضد، ورفضا لسلطة الأب الواحد والقائد المخلص، ورفضا لرواية السلطة بشأن الاستقلال.

دفع كل هذا الزخم المخرج الشاب لبداية سرد الواقع برواية أخرى عبر فيلم “حكاية بسيطة كهذه” عام 1970، وشهد هذا الفيلم نجاحا هاما، حيث سيكون الفيلم الوحيد الذي ترشح ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان.

في المرحلة نفسها ارتفعت وتيرة عمل المنظمات السينمائية كجامعة نوادي السينما وجامعة السينمائيين الهواة، وأصبحت الحركة داخل هذه الجامعات حركات فن وسياسة، أولا لتأثرها بالجو الوطني والعالمي العام، بالإضافة إلى أن القائمين على هذه النوادي متشبعون بالانتماءات السياسية، وهو ما أدى إلى ظهور نخبة من الهواة الذين سيغيرون مجرى الكتابة السينمائية فيما بعد، ويبثون الكثير من التسييس في أعمالهم اللاحقة.

 

عزوف عن السياسة ونزوع إلى الجنس

“ميعةٌ أنت واليسار الذي تنتمي إليه، فرّقوكم في رمشة عين، هل تعتقدون أنكم تعرفون أعماق البلاد، وأنت وأمثالك ستحكمون هذه البلاد؟ من يزعم أنه ثوري والآخر ماركسي لينيني والآخر تروتسكي ماوي والآخر دخل له قطار في عقله والوطد والاتحاد العام لا أدري ماذا والقومي العربي والدستوري والناصري والبعثي”.. جملة من حوار مهيب حقا لأكثر الأفلام تغلغلا في السياسة؛ “صفائح ذهب” لنوري بوزيد، وهو فيلم كُتب في عهد بورقيبة وصُوّر في عهد بن علي، وهو شاهد على حقبة الأدلجة بين زمنين.

بوجه متأثر يخبرني نوري بوزيد أن هذا الفيلم الذي يروي فيه قصته الحقيقية مع السياسة هو استنتاج أخير بأن انتماءاته الأيدولوجية كلها فشلت، وهو لملمة لنفسٍ تكسرت على صخور الكتب والنضالات والسياسة والسجون.

لم يكن نوري وحيدا في استنتاجه، بل صورت السينما التونسية ذلك ببداية ابتعادها شيئا فشيئا عن السياسة، وبدأت الأفلام تلتحم أكثر فأكثر بمواضيع أخرى كالجنس والمرأة والفقر، ورغم ذلك بقيت بعض السياسة تلوح هنا وهناك، وذلك في إشارة تُظهر أن المخرج لا يمكن أن يعتزل السياسة حتى وإن بدا العكس، مثلما صورت مفيدة التلاتلي في فيلمها “صمت القصور” سلطة البايات وتسلطهم، أو فيلم “عصفور سطح” لفريد بوغدير حين محا صليح كلمة القائد وكتب مكانها كلمة الشعب، أو فيلم “حرب الخليج وبعد” لنوري بوزيد، أو “الرديف 54” لعلي العبيدي.. ومرت سنوات التسعين وما بعدها بأفلام بدأت السياسة تخبو فيها وفجأة كانت الثورة.

المخرج التونسي فريد بوغدير أخرج فيلم "زيزو"، وهو فيلم يروي الثورة بطريقة طريفة

الثورة.. حين يصبح الممنوع متاحا

أعطت الثورة التونسية مجالا كبيرا للسينمائيين التونسيين لإنتاج أفلام روائية ووثائقية تتناول مواضيع كانت محرّمة خلال فترة حكم الرئيس السابق بن علي، وأصبح الممنوع متاحا للعرض، إذ لم تعد هناك حدود مرسومة، وأصبحت عدسة الكاميرا أكثر اتساعا لتنقل بطريقة فنية وتوثيقية كل ما عاناه التونسيون بسبب الفساد الذي ينهش جسد الدولة منذ أكثر من نصف قرن.

وكانت المبادرة من المخرجين الشبان لتقديم أفلام بنَفَس جديد فيها مزج السياسي بالاجتماعي، حيث قدمت المخرجة الشابة ليلى بوزيد فيلمها الأول “على حلّة عيني”، وتدور قصة الفيلم حول صراع  فتاة تونسية من أجل تحقيق رغبتها في الانضمام إلى فرقة موسيقية ملتزمة مسرحها الشارع، وتواجه خلال ذلك عنف المجتمع والدولة الذي يسلّط على كل المعارضين للنمط السياسي والاجتماعي الموجود.

وقام المخرج التونسي مراد بلشيخ برواية أحداث زعزعة كرسي حكم أعتى الأنظمة في العالم العربي، وذلك في فيلمه “لا خوف بعد اليوم”، حيث روى أحداث الثورة التونسية والمظاهرات التي أدت إلى هروب بن علي يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011.

نقلت السينما التغيير السياسي الذي عاشه التونسيون، وذلك بخليط من الفخر وخيبة الأمل، ففي فيلم “كلمة حمراء” لصاحبه إلياس بكار؛ وثق المخرج الخطوات التي قادت إلى التحرر من نظام بن علي، وذلك انطلاقا من شوارع العاصمة وبقية المحافظات، وعكست كاميرا المخرج رضا التليلي خيبته وخيبة الشباب الثائر من عدم تحقيق ما طمحوا إليه عند خروجهم إلى الشارع احتجاجا على نظام بن علي.

ويروي الفيلم الروائي “تالة حبيبتي” للمخرج الشاب مهدي الهميلي ما عاشه المخرج من أحداث حقيقية في تالة مدينته الأم، والتي سقط فيها شهداء خلال مظاهرات مناهضة لبن علي، وذلك عن طريق بطلة الفيلم العاملة بمصنع للنسيج المشاركة في التحركات الشعبية قبل هروب بن علي، وعاندت زوجها الذي كان يخشى سطوة البوليس.

ولم تكن هذه “الهبّة” لنقل ما عاشه التونسيون خلال الثورة حكرا على المخرجين الشبان، فالمخرج التونسي محمد الزرن روى في فيلمه “ارحل” قصة محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه ليكون بذلك شرارة اندلاع الثورة التونسية، كما قام المخرج التونسي فريد بوغدير بإخراج فيلم “زيزو”، وهو فيلم يروي الثورة بطريقة طريفة.

تدور قصة "على حلّة عيني" حول صراع  فتاة تونسية من أجل تحقيق رغبتها في الانضمام إلى فرقة موسيقية ملتزمة مسرحها الشارع، وتواجه خلال ذلك عنف المجتمع والدولة الذي يسلّط على كل المعارضين للنمط السياسي والاجتماعي الموجود

هل تجردت السينما التونسية من السياسة؟

المتمعن في السينما التونسية يرى بوضوح أن السياسة عادت بقوة في السنوات الثلاث الأولى من الثورة، لكنها اختفت بعد ذلك، وربما أصبحت السياسة في السينما ممقوتة أصلا في ذهن المشاهد التونسي.

ويقول الناقد كمال بن وناس نائب رئيس الفدرالية الأفريقية للنقد السينمائي في أحد حواراته مع موقع إذاعة سويسرا العالمية (swissinfo) التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية؛ “إن السينما في العقود الماضية تم استغلالها للدعاية السياسية، في تونس وفي بداية عهد الاستقلال استعمل بورقيبة السينما في الدعاية لنظامه، أما الآن فهناك ثلاثة عناصر تلتقي مع بعضها البعض لتجعل من السينما شيئا جديدا: الأوّل هو التطوّر التكنولوجي وظهور السينما الرقمية، والثاني هو انهيار الأيدولوجيات (أيّ حزب سياسي لم يعد بمقدوره استعمال السينما للدعاية مثل استعماله للتلفزيون، وهذا ما يفسّر التجاذب الكبير اليوم في تونس حول الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري “الهايكا”، بينما تبقى السينما وقضاياها في مكاتب النقابات والدوائر الضيّقة للمشتغلين بها)، أما الثالث فهو ما يسمى بعصر ما بعد الحداثة.

ومنذ ثورة 14 يناير/تشرين الثاني ظهر جيل جديد من المخرجين له نظرة جديدة وقيم يدافع عنها، وله طريقة خاصة في الإنتاج وفي التعامل مع الجمهور. أما التغيير الأهم فقد تجلّى في مستوى الموضوعات التي يتطرّقون إليها.

وأخيرا ورغم موجة السينما الجديدة التي انتهجها مخرجون أمثال نجيب بلقاضي وعبد الحميد بوشناق والتي قطعت مع الماضي ومواضيعه المتخبطة في السياسة، فإن السينما في تونس لا يمكن أن تتجرد من الأدلجة وإن لم تكن ظاهرة للعيان، فإنها في أحيان كثيرة تخرج لنا بإشارات بسيطة تحت مسمى “سينما المؤلف” أو “السينما الاجتماعية”.