السينما الجزائرية والأدب.. قطيعة رغم دعوات التصالح

ضاوية خليفة

نفى يحيى مزاحم مخرج فيلم "لالة زبيدة والناس" أن تكون الصدمة التي يتلقاها صاحب النص الأدبي بعد رؤية عمله في صيغة بصرية سببا في عدم اتجاه المخرجين الجزائريين للاقتباس

لا يزال الجدل قائما، ولا تزال الإشكالية تنتظر فصلا في الجواب عما إذا كانت السينما هي التي تمنح الأدب رواجا أوسع وقيمة مضافة، أم أن الأدب هو الذي يمد السينما فصولا من المتعة والجمال والوفاء للشخوص والأحداث. ولعل الخيار الأنسب والجواب الأفضل لفكّ الجدال -ولو مؤقتا- هو التسليم بأن كليهما يكمل الآخر، مثلا الرواية التي تأخذ من وقت قارئها من ساعة إلى ساعتين في اليوم يمكن مشاهدتها مقتبسة في ساعتين أو أكثر، وللقارئ المشاهد أن يختار بأيّ المقاربات يقتنع وأيّ القراءات يُفضل، وذلك بعدما اجتهد الكاتب والمخرج والسيناريست معا أو على انفراد لتقديم مادة فنية أحداثها مستوحاة من الأدب العالمي أو المحلي، ضمن أعمال يلتقي فيها الواقع بالخيال، وتتقاطع فيها قوة المشاهد والشخصيات.

 

السينما الجزائرية.. لماذا تنكرت لأدبها المحلي؟

بعيدا عن مدى مطابقة النص المكتوب للعمل المصور، ومقارنة الروايات بالأفلام بعد اقتباسها، وتصرف المخرج في النهاية التي فرضها الكاتب على شخوص قصته، والخلافات التي قد تقع بين كاتب النص الأصلي والمتصرف فيه فنيا، في الجزائر لم نصل بعد لمرحلة النقاش أو الحديث عن الاقتباس كعملية متكاملة كمّاً ونوعية، لأن ما تم اقتباسه من الأدب الجزائري إلى السينما محدود جدا مقارنة بجودة النصوص الأدبية في الرواية أو القصة القصيرة أو الأنواع الأخرى، وأثبتت التجارب أن السينما الجزائرية لم تأخذ من الأدب المحلي ما يثري محتواها ويغني رصيدها، على الرغم من جودة النصوص والأعمال الأدبية وتفوّق أصحابها.

عدد محتشم من المخرجين بادروا للاقتباس وتنبتوا الفكرة والمشروع وصنعوا بذلك الاستثناء مقارنة بمخرجين آخرين، فالاستثناء صنعه عبد الرحمن بوقرموح سنة 1996، عندما اقتبس للسينما الناطقة بالأمازيغية “الربوة المنسية” لمولود معمري الصادرة سنة 1952، وحوّل عام 1975 محـمد سليم رياض “ريح الجنوب” لعبد الحميد بن هدوقة بعد خمس سنوات من صدور الرواية، ووثق للثورة أحمد راشدي في 1969 بـ”الأفيون والعصا” لمولود معمري، واستلهم عكاشة تويتة فيلم “موريتوري” من رواية “خريف الوهم” لياسمينة خضرا، بينما اتجه “رشيد بن حاج” إلى الأدب المغربي فاقتبس منه “الخبز الحافي” لمحمد شكري.

وعلى مستوى آخر اهتم المخرج الفرنسي “ألكسندر أركادي” بإحدى روايات الجزائري ياسمينة خضرا “فضل الليل على النهار”، فقدمها للجمهور بشكل سينمائي ونسق معين، حيث يرى النقاد أنه لا يتطابق كثيرا والنسخة الأصلية للرواية التي تتناول أحداثا تاريخية، مبررين ذلك بأهداف المخرج المولود بالجزائر سنة 1947، والذي يُعدّ من الأقدام السوداء، أي المستوطنين الأوروبيين الذين ولدوا أو سكنوا الجزائر خلال الفترة الاستعمارية (1830-1962).

قراءة واحدة للعمل في صيغتيه الروائية والسينمائية تجعل من يشاهده يلمس حنين المخرج إلى الجزائر بهدف العودة إلى أحضانها، إذ بدا في فيلمه مدافعا عن الاستعمار، ومخالفا للنص للروائي الذي أظهر فيه الكاتب ياسمينة خضرا الثورة الجزائرية بعيون جزائرية لا بعين المخرج الذي مجّد الاستعمار.

والقائمة قصيرة جدا فيما تعلق بالاقتباس من الأدب للسينما، في المقابل وعلى سبيل الذكر لا الحصر فإن “نجمة” لكاتب يس و”ابن الفقير” لمولود فرعون المُترجمتان لأكثر من لغة؛ لم تنالا حظهما في السينما الجزائرية، إلى جانب أسماء أدبية أخرى برزت بأعمالها وطَرْحها على فترات، وحتى الأقلام الشابة التي أبانت تجاربها عن تميزها في الكتابة ببناء فني يتناسب واللغة السينمائية.

ومن النقاط التي يجب التوقف عندها ارتباط مشروع أفلمة الأدب بالرواية على حساب ألوان أدبية أخرى، مع العلم أن فترة ما بعد الاستقلال (1962) شهدت اعتماد كبار المخرجين -في التلفزيون أو السينما- كمحمد زينات في “تحيا يا ديدو” على القصيدة الشعبية للشاعر حيمود إبراهيم، واستلهام “عبد العزيز طولبي” أحداث فيلمه من إحدى قصص الروائي الطاهر وطار الواردة ضمن مجموعة قصصية، واهتمام المخرج غوثي بن ددوش بالحكاية الإذاعية، وغيرها من الأجناس الأخرى التي تخلت عنها السينما والتلفزيون، لتستحوذ الرواية على اهتمام السينمائيين المهتمين بالموضوع والدارسين المشتغلين على الإشكالية.

ينظر للموضوع الرئيس من زوايا عديدة، أبرزها أن العدد الهائل للروايات الجزائرية التي صدرت بالداخل والخارج قبل الاستقلال وبعده والى غاية يومنا هذا كان بإمكانها أن تصالح بين الجنسين الإبداعيين السينما والأدب، لكنها لم تفعل. وإن سلمنا بذلك يجب أن نبحث في الأسباب، وما الذي تضيعه السينما الجزائرية من مكاسب في ظل القطيعة.

وبعدما ارتبط الحديث سابقا في إشكالية الاقتباس بمسائل الخيانة أو الوفاء للنص الأصلي، هل تغير مفهوم وتعامل المبدع مع فكرة الاقتباس اليوم أم ظلّ المفهوم ثابتا؟ وهل تُعد مقارنة جودة النص الروائي بالعمل السينمائي ظاهرة صحية طبيعية أم ممارسة تجاوزها الزمن؟ لأن لكل جنس خصوصياته وبناؤه الفني وطبيعته السردية، ما دامت تجارب دول عربية وغربية تمتلك صناعة سينمائية رائدة أكدت أن تعدد السيناريوهات يغني الرصيد السينمائي، ويمنح النص الأدبي دعاية مجانية وإضافية.

 

“السينما والرواية.. علاقة تكامل لا تفاضل

يرى الدكتور بومدين بلكبير صاحب رواية “زوج بغال” التي تتناول معاناة عائلات مزقتها الحدود الموصدة بين الجزائر والمغرب، أن موضوعات وأسئلة الرواية الجزائرية لا يمكن النظر إليها بمعزل عن المرحلة التي عاشتها البلاد قبل الاستقلال وبعده، فاشتغال الكتّاب في تلك الفترة انصبّ على ثيمة التاريخ والهوية، لتأخذ الرواية بعد الاستقلال منحى آخر اقتصرت على مسائل التنمية. هذه التجربة تحديدا غرقت في الأيدولوجيا، بينما تناولت موضوعات فترة التسعينيات والسنوات التي بعدها العشرية السوداء، مما أوقع أصحابها في الاستسهال والاستعجال، وبالتالي فإن أسئلة ورهانات الرواية الجزائرية تغيرت بتغير الأوضاع.

أما الإشكالية التي تتكرر باستمرار عن مدى استفادة السينما من الرواية، وكيف خدمت السينما الرواية، فيراها بلكبير أنها مجرد نقاش وجدل عقيم، مشبها ذلك بسؤال الدعابة من ظهر أولا البيضة أم الدجاجة، إذ اعتبر أن الروائي الذي ينتصر لهذا اللون الفني عنصري، والسينمائي الذي يلغي الرواية ويرافع لأجل السينما وحدها غير موضوعي وغير محترف تماما، لأن الجنسين حسب التجارب لا يمكن النظر إليهما إلا من زاوية التكامل والتفاعل.

ويضيف محدثنا أن “تجربة السينما الجزائرية في أفلمة الرواية يمكن الحديث عنها مثلا من فيلم “ريح الجنوب” لمحمد سليم رياض المستوحى من رواية حاملة للعنوان نفسه للكاتب عبد الحميد بن هدوقة، فلا يمكن النظر للجنسين أو للعملين (نص مكتوب أو عمل مصور) بمعزل عن بعضهما، بل يجب إظهار علاقة التكامل التي حدثت، فالرواية أمدت السينما بقيمة فنية وإنسانية جميلة جدا، والفيلم منح الرواية رواجا إضافيا وأوسع، ومن يسلّم أو يعتقد عكس ذلك أظنه جاحدا ومتعصبا لفن على حساب الثاني”.

ومع ذلك يرى الدكتور بومدين بلكبير أنه يجب تجاوز الطرح الذي يبحث عن القيم التي تمنحها السينما للرواية أو العكس إلى أسئلة وإشكاليات أهم وأعمق قد تساعد على إيجاد قناة توصل السينما بالأدب. ويضيف “صحيح أن هناك أعمالا أدبية خدمت السينما ونجحت لأنها مقتبسة من روايات، لكن يجب أن نتعامل مع الأشياء بواقعية، فالمبدع والجمهور اليوم أمام قطيعة وفجوة كبيرة تشعرني أن السينمائي في واد والكاتب في واد آخر، لا توجد فضاءات ولا مؤسسات داعمة لمشروع يجمعهما، وفي هذه الحالة يجب التوقف عند الأسباب واستعراضها ودارستها حتى نتمكن من إعادة الوفاق بين لونين يصنعان بتكاملهما لوحات فنية متفردة”.  

أجيال سينمائية جزائرية متعاقبة

المخرج والأديب.. تنافر وتصادم

نفى يحيى مزاحم مخرج فيلم “لالة زبيدة والناس” أن تكون الصدمة التي يتلقاها صاحب النص الأدبي بعد رؤية عمله في صيغة بصرية سببا في عدم اتجاه المخرجين الجزائريين للاقتباس، مبررا ذلك بصعوبة عملية الإنتاج الذي تحتكر دعمه الدولة وتعقيداته، هذا من جهة، يضاف إلى ذلك تكاسل البعض منهم في إقناع الكتّاب بشراء أعمالهم وإعادة صياغتها بشكل فني آخر من جهة أخرى. ولهذا يتجه أغلب المخرجين لكتابة السيناريو بأنفسهم لاكتساب تجربة جديدة، والاعتزاز بأنهم أصحاب السيناريوهات الأصلية، والاستفادة كذلك من أجر إضافي نظرا لقلة الإنتاج والفرص.

وفي سؤال عن اهتمامه كمخرج بالفكرة قال مزاحم “كنت قارئا جيدا ومداوما في السابق، بينما أشعر اليوم بالتقصير. فكرت سابقا في تحويل عدة أعمال إلى السينما كمسرحية تاجر البندقية أو رواية البؤساء، وفعليا حاولت تحويل رواية “بما تحلم الذئاب” للجزائري ياسمينة خضرا الذي لم يرفض الفكرة، غير أن شراء الحقوق لمدة قصيرة يكلف الكثير، والخوف من وقوع أي صعوبات تحول دون إنجاز المشروع، كنت أتمنى أن أعمل على تجسيد قصص هذه الرواية التي تتضمن مواضيع عشتها في فترة العشرية السوداء، وفي مجتمع يتقاطع فيه الواقع بين ما يحدث وما هو متوقع، فالكاتب لا حدود لخياله، بينما المخرج ملزم بالتقيد بميزانية محددة، وهنا يحدث التصادم”.

وترى الدكتورة هاجر قويدري أن روايتها “نورس باشا” الصادرة سنة 2015 تعكس تأثرها بالسينما، الأمر الذي جعلها تكتب بطريقة المشهدية، أي أنها لا تكتب الأفكار بل تتجه لكتابة الفعل والحدث، مما يجعل المشهد واضحا، كما أن تعاملها مع الصورة بشكل مستمر بحكم اشتغالها سابقا بالتلفزيون الجزائري غذّى هذا الجانب، لكنها في المقابل عبّرت بقناعة أنها ليست المعنية الأولى بتحويل النص المكتوب إلى السينما قائلة “لو تقدم أي مخرج وطلب مني تحويل واحدة من رواياتي أو كتابة سيناريو لها سأرفض، أضع رواياتي تحت تصرف كل المبدعين والسينمائيين ولمن يرى أنها صالحة للتصوير، أما فكرة تحويل روايتي أمر مستبعد تماما، لو اتجهتُ للسينما فسوف أكتب سيناريو منفردا لا علاقة له بالرواية، هذه بصراحة قناعتي”.

الدكتور بومدين بلكبير صاحب رواية "زوج بغال" التي تتناول معاناة عائلات مزقتها الحدود الموصدة بين الجزائر والمغرب

الرواية والسينما.. عدم التطابق ضرورة

واعتبر الناقد والأكاديمي الدكتور محمد لمين بحري عدم تطابق رؤيتا الرواية والسينما ضرورة وحتمية لخلق مسافة جمالية وفكرية وإبداعية، مستشهدا بتجربة الغرب في ذلك، فالرواية نفسها تُصاغ لها سيناريوهات عدة لمخرجين مختلفين في الرؤية والتكوين، وهذا الاختلاف والتنوع يمنح الجمهور فسحة جديدة وقراءات أعمق، في حين أن ذهنية المشاهد الجزائري وفقا لبحري “لا تتقبل تلك المساحات الإبداعية والجمالية واللمسات الاقتباسية الجديدة”، مستشهدا بالنهاية المختلفة والمناقضة التي وضعها المخرج الجزائري محمد سليم في فيلم “ريح الجنوب” لرواية صاحبها عبد الحميد بن هدوقة. ويضيف أن “النهاية التي فرضها سليم رياض لرواية بن هدوقة جعلت الكثير يتهم المخرج بخيانة نص ومُراد الكاتب”.

ولم يستبعد كذلك دور أو غياب مشاركة المستثمر الاقتصادي في دعم القطاع الثقافي في تأزيم الوضع، وجَعْل شركات الإنتاج تنتظر الرضا قبل التمويل من الجهات الرسمية، كلها عوامل لا تشجع عملية الاقتباس.

وفي سياق متصل أكد صاحب كتاب “الأسطوري.. التأسيس والتجنيس والنقد” (2018)، أن أساس مشكلة عدم أفلمة الأدب والرواية تحديدا هو تدخل الكاتب في عملية إنتاج العمل وإدارة الممثلين وتسيير الإنتاج، ومطالبته بأن يُستشار في كل صغيرة وكبيرة ليصبح شريكا في العملية التي تتطلب حضور أهل الاختصاص، فتدخل الروائي في شؤون المخرج والمنتج وحتى الممثل وبعض الجزئيات التي لا تخضع لوصايته ولا لمجال عمله، يُفقد العمل الكثير، مثلما حدث مع الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي الذي أساء حضورها وتدخلها في مسلسل نجدت أنزور “ذاكرة الجسد” المستوحى من روايتها الحاملة لنفس العنوان”.

وفي سياق آخر أشار الناقد الدكتور محمد لمين بحري أن اهتمام المخرج باقتباس الرواية دون غيرها من الأنواع الأدبية الأخرى؛ يعود للاهتمام والرعاية الإعلامية التي تحظى بها الرواية المكتوبة بطريقة أقرب إلى السيناريو ومنها إلى السرد الروائي، فضلا عن تزكيتها من الداخل والخارج، والجوائز التي ما فتئ يحصدها هذا الجنس الأدبي، وكذلك الاهتمام الذي باتت توليه المؤسسات والجماهير العربية للرواية والأسماء الجزائرية على وجوه الخصوص.

من أهم المكاسب التي تُضيعها السينما الجزائرية اليوم في عزلتها عن الأدب؛ الطرح الإنساني العميق الموجود بالقطعة الأدبية، هذا ما أكدته الدكتورة خيرة بوعتو من جامعة مستغانم والتي تستشهد في حديثها بالرواية باعتبارها أكثر الآداب والفنون قبولا وانتشارا في الجزائر، إذ إن الروائي يهتم بتفاصيل الحكاية من فكرة وعقدة وأزمات رئيسية وثانوية وشخصيات، فتفاصيل الاشتغال عليها يساعد كثيرا المقتبس في الحصول على سيناريو متكامل، خاصة التفاصيل الإنسانية والحياتية التي يتطرق إليها كل من المخرج وصاحب النص الأصلي. وأشارت إلى أنه ليس كل مُخرج مقتبِس جيد إلا في حالات نادرة، ولهذا تتطلب عملية نقل الثقل الأدبي إلى السينما الاستعانة بوسيط وهو السيناريست.

هذا الكلام وفقا لبوعتو “يقودنا للحديث عن ضعف التكوين المتخصص، فكيف يمكننا اليوم الحديث عن تحويل النصوص من الأدب إلى السينما ونحن ننادي باهتمام الطرفين بتكرار وتجديد اللقاء بينهما، ونادرا ما نرى حضور أديب في العروض السينمائية والمسرحية، وقليلا ما نلمح مشاركة مخرج أو ممثل أو منتج في لقاءات أدبية، يجب أن نصلح البيت من الداخل ونتدرج في الإصلاح حتى نصل إلى أهدافنا على المدى القريب والمتوسط”.

 

ياسمينة خضرا.. استثناء قد يؤكد القاعدة

وتعتبر كتابات الجزائري ياسمينة خضرا (اسمه الحقيقي محمد موسهول) أوفر الأعمال الأدبية حظا، وذلك من ناحية الترجمة والاقتباس مسرحيا وسينمائيا في الجزائر ودول أخرى، مثل روايتي “خريف الوهم” إخراج الجزائري عكاشة تويتة، و”فضل الليل على النهار” التي حركت حنين وفضول المخرج الفرنسي ألكسندر أركادي فاشتغل عليها، لكنه خان الحكاية والأحداث التي سردها ياسمينة خضرا، أو بالأحرى أخذ من العمل الروائي ما يهمه كطرف فرنسي، فقد عمد ياسمينة خضرا في نصه إلى إظهار معاناة الجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية من مآسٍ إنسانية وحرق للممتلكات وسلب للأراضي الزراعية، أما طرح المخرج أركادي فجاء مغايرا تماما لخطاب خضرا، إذ أظهر قصصا أخرى تميل إلى الرؤية الفرنسية التي تُبيّض صورة المستعمر وتدّعي أن الجانبين الجزائري والفرنسي كانا في حالة تعايش سلمي نسبيا بعيدا عن أهوال الحرب، فجاء التركيز على حياة المعمرين وعائلاتهم بقرية ريو سالادو أو المالح (إحدى البلديات الواقعة في الغرب الجزائري)، والأكيد أن العمل لو أشرف على إخراجه جزائري لكان أمينا أكثر لنص ياسمينة خضرا وللتاريخ الجزائري.

وفي هذا السياق يقول الدكتور محمد ساري -وهو أكثر من ترجم لياسمينة خضرا، وصاحب أكثر من 25 مؤلفا بين الترجمة والرواية والنقد الأدبي والدراسات الأكاديمية- “يجب الأخذ بعين الاعتبار نقطة مهمة، وهي أن لكل مخرج أهدافا معينة يدخل منها بوابة الاقتباس، قد يقتبس ما يريده هو من الرواية وليس كل الرواية مثلما حدث مع ألكسندر أركادي المعروف بأنه من الأقدام السوداء، فما أعجبه في الرواية هو وضعية وحياة المعمرين الذين كانوا يعيشون في قرية ريو سالادو، أما بقية الأحداث فلا تخدم رؤيته كفرنسي، ولا حتى الجمهور الذي يتوجه إليه ويستهدفه. مثلا لو ركز على قضية تعذيب وتهجير الجزائريين لثار عليه قدماء المعمرين الفرنسيين وأثاروا موجة من الاحتجاجات، فالفرنسيون يهمهم كثيرا تاريخ الجزائر ويتابعون كل ما يكتب عنه وكل ما له علاقة بالجزائر وفرنسا، لهذا علينا أن نؤجج أقلامنا ونكتب تاريخنا كما نراه نحن وكما ورد، ونحارب كل محاولات التزييف والتشكيك”.

غير أن ياسمينة خضرا لم يتبرأ من رؤية أو طرح أو فيلم ألكسندر أركادي مثلما تبرأ من فيلم “الصدمة” المأخوذة من روايته الحاملة لنفس العنوان بعد إهمال المخرج اللبناني زياد دويري لمعاناة الفلسطينيين وتركيزه على علاقة الشخصية الرئيسية سعيد الجعفري بزوجته سهام التي تحاول تنفيذ عملية انتحارية في تل أبيب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فيلم دويري أثار مجموعة انتقادات واسعة في لبنان جعلت السلطات تتراجع عن عرضه، مما دفع ياسمينة خضرا -المقيم في فرنسا منذ سنوات- للتبرؤ من العمل في نسخته المصورة، الأمر الذي لم يحدث مع فيلم ألكسندر أركادي “فضل الليل على النهار”.

عدد محتشم من المخرجين بادروا للاقتباس وتنبتوا الفكرة والمشروع، بينما اتجه "رشيد بن حاج" إلى الأدب المغربي فاقتبس منه "الخبز الحافي" لمحمد شكري

أفلمة الأدب.. دعوات لردم الهوة

لا يختلف اثنان على جودة النص الأدبي الجزائري رواية وشعرا وقصة قصيرة، ولا يتقبل أي امرئ أن يصفه غيره بالجاحد الذي يبخس حق المخرج والمنتج السينمائي الجزائري المناضل لضمان البقاء والاستمرار فنيا وتقديم الأجود والأحسن جماهيريا، فالسينما الجزائرية التي يرهقها الحديث عن قلة الإنتاج، وتغرقها ندرة قاعات العرض، ويؤزم وضعها نقص التمويل، من المستبعد أن تلتفت في الوقت الراهن إلى الأدب المحلي أو العالمي، فهو حديث سابق لأوانه ما دام النقاش لم يرتق ليكون خطوة واقعية تكسر الصمت المتبادل بين الفنين، وبقي مجرد خطاب وإشكالية تتكرر في الندوات واللقاءات السينمائية والأدبية، ولا وجود لداعم من القائمين على المؤسسات الثقافية الرسمية لمبادرة تصالح بين الجنسين.

وفي ظلّ كل هذه المعطيات لا يمكن أن نتقدم خطوات ونحقق الكثير من الإنجازات في هذا الجانب، وبالتالي فإن تغيُّر الوضع مرهون ببعض التفاصيل المهمة، كأن يجد الكاتب والمخرج معا الأرضية اللازمة والإمكانيات المساعدة، وأن تُضاعف الدولة من اهتمامها ودعمها لفكرة أفلمة الأدب، وذلك من خلال تخصيص ميزانية إضافية كل سنتين للمشروع، إلى أن تُقنع المستثمر الاقتصادي بالدخول كشريك له ما له وعليه ما عليه.

أما فكرة أن يعمل كل مبدع بمعزل عن الآخر فهي ظاهرة يجب أن تعرف طريقها إلى الزوال، ففي الأخير لا يوجد كاتب يرفض أن تُمنح قطعته الأدبية أبعادا ورؤى جديدة، وتوزع نصوصه على كل الفنون دون إقصاء أو تمييز (سينما، مسرح، فنون تشكيلية..)، ولا مكان لمخرج غير متصالح مع باقي مكونات الإبداع في كل تجلياته وصوره، وإن شابه الاقتباس الترجمة ولازمته صفة الخيانة في بعض التفاصيل، فكما هي الترجمة خيانة، لأن المترجم لا يمكنه مهما فعل أن يترجم النص الأصلي لصاحبه بنفس العبارات والجمالية.

كذلك الاقتباس يشبه الى حد كبير الترجمة فكلاهما المترجم والسناريست أو المخرج الذي حوّل القطعة الأدبية يتهم أو يشعر بالخيانة اتجاه النص الأصلي وصاحبه، يجب أن تُخان القطيعة ويعود الأدب لأحضان السينما، ويحتوي سابع الفنون كل الآداب، فالحركة الأدبية مثقلة بعديد النصوص والأحداث، وعامرة بأسماء عالمية من الجيلين كآسيا جبار ومولود فرعون ومحمد ديب ورشيد بوجدرة وأحلام مستغانمي وأمين الزاويو وعمارة لخوص وإسماعيل يبرير وسعيد خطيبي.. واشتغالهم على التفاصيل ورسمهم الدقيق لملامح الشخصيات وتركيبة المدينة وارتباطهم الوثيق بالتراث الشفوي والأرض.

كلها مقومات تعزز النص الأدبي بكل تجلياته، وعامل قد تستند إليه الرؤية السينماتوغرافية، وتؤسس لمرحلة جيدة في تاريخ سينما البلد الذي له أسماء كبيرة في عالم الإخراج مثل رشيد بوشارب ومحمد لخضر حامينا وإلياس سالم وكريم موساوي وياسمين شويخ.. والقائمة طويلة. وبالتالي الأمر ليس بهذه السهولة ولا بذاك التعقيد، بل يجب العمل على الموضوع والاهتمام به أكثر، فمثلما للنص الأدبي خصوصياته فإن للصورة جماليتها أيضا.