“المسابقة الرسمية”.. كوميديا الصراع النرجسي في ميلاد العجوز الثري

أمل ممدوح

“حُب الذات هو كرة منفوخة بالهواء، تخرج منها العواصف إذا ما ثقبناها”. هذا كان وصف “فولتير” الفيلسوف الفرنسي لحُب الذات بمنحاه السلبي الذي اصطلح على تسميته فيما بعد بالـ”إيغو”، وهو ما قد يكون رابضا في أكثر الشخصيات مثالية وثقافة، أو أكثر من يبدو منها عفويا أو سويا.

هذا المضمون يدور حوله بذكاء الفيلم الإسباني الأرجنتيني “المسابقة الرسمية” (Competencia Oficial) للمخرجين الأرجنتينيين “ماريانو كوهن” و”غاستون دوبرات”، وتأليفهما مع “أندريه دوبرات”، وقد عُرض في الدورة الـ78 لمهرجان البندقية السينمائي، وكان فيلم افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي مؤخرا في دورتها الـ43.

“دون همبرت”.. عيد ميلاد الثري العجوز البائس

يأتي المشهد الافتتاحي للفيلم بلوحة لمهرج حزين يقف أمامها الثري العجوز “دون همبرت”، ثم نراه يقف أمام هداياه القيّمة الكثيرة في عيد ميلاده الثمانين، لتبقى وحدها في الإطار متراصة بجوار بعضها بشكل برّاق، لكن وحدها كلوحة جامدة، وكأن لسان حالها يقول إنها لا تعني شيئا على كثرتها وقيمتها لقلب هذا الثري الحزين، لتكون هذه اللوحة مُلخصة لإحساس العجوز الثري الناظر بلا مبالاة حزينة لها ولهداياه، وتكون بدورها مفتاحا عاما لقراءة الفيلم بشكل عام.

 

لعل مكياج المهرج يبدو مع تعبيره الحزين كمظهر مُغاير للحقيقة، ونوع من التضاد مع الداخل الحزين، وحالة انقسام تصور صراعا بين الداخل والخارج، مما يذكرنا بقناع الدراما الإغريقية الشهير الذي يتكون من وجهين، أحدهما ضاحك والآخر باك كرمز للصراع الدرامي.

يتسع هذ القناع الدرامي في الفيلم ليشمل النفس وظلها، أو الذات وتناقضاتها كبؤرة الصراع الأساسية طوال الفيلم، بدءا من الثري الذي لم تمنعه ثروته من الشعور بالبؤس وعدم الجدوى، فهو يبحث عن شيء يُخلّده ويمنحه شعورا بالقيمة، فيختار بناء جسر كبير وإنتاج فيلم عظيم مفتوح الميزانية، يختار له مخرجة غريبة الأطوار ذائعة الصيت في الوقت الحالي هي “لولا” (الممثلة بينيلوبي كروز)، وحتى بقية شخصيات الفيلم، فكلها غريبة كما سيتضح فيما يأتي.

طاقم الفيلم.. التقاط الأكثر رواجا من كل شيء

يختار الثري لمشروعه الفيلمي كل شيء من الطراز الأول الرائج كضمانة لتميزه، فينتقي رواية حاصلة على جائزة مهمة، ومخرجة ذائعة الصيت بها لمحات جريئة جنونية وممثلين مهمين، وميزانية إنتاج مفتوحة.

الرواية المختارة فقط لأهمية جائزتها هي بعنوان “ريفالري” (Rivalry) أي التنافس، ويطلب من المخرجة أن تسرد له قصتها التي لم يقرأها بينما يأكل البوظة، فتسرد عليه أحداثها حتى جزء معين يُحجب عنا، وتختار لأداء الشخصيتين الرئيسيتين الشقيقين في الرواية ممثليْن من عالمين مختلفين بحسب تعبيرها، لهما شخصيتان وأسلوبان تمثيليان مختلفان.

إيفان وفيليكس أثناء البروفات ودوما في طرفين متقابلين

 

أحد الشقيقين هو “فيليكس”، وهو بطل أفلام تجارية ذائع الشهرة جماهيريا، ويتميز بشعبيته وبكثير من التلقائية والرعونة في شخصيته الواقعية وفي أدائه، وقد اختير ليؤدي دور “مانويل”، فأداه حقيقة بشكل ممتع شديد الإجادة والتنوع الأدائي (الممثل أنتونيو بانديراس).

وأما الثاني فهو أستاذ تمثيل أكاديمي شديد الرصانة والانضباط والثقافة، وهو “إيفان” (الممثل أوسكار مارتينيه) الذي قام بأداء دور “بيدرو”، وهو أخو “مانويل” الأكبر في الفيلم ذي الأصل الروائي، وفيه يتسبب “مانويل” بتأثير سكره إثر احتسائه للخمر في حادث سيارة يودي بحياة والديهما، فيبلغ أخوه الأكبر الشرطة، ويوجه اتهاما رسميا إلى “مانويل”، مما يتسبب في سجنه لعدة سنوات.

تحجيم الأنا.. موقف خطر لترويض النرجسية والغرور

ينتمي الفيلم لنوعية “الميتا فيلم”، فهو فيلم بداخله فيلم يدور الكلام عنه، وشرحه وتنفيذه أمامنا بشكل واضح، وهو تعريف “الميتا فيلم”، فتُسرد حكايته وتجري المناقشات حوله أمامنا لشخصياته وأحداثه وتحليلها، ونرى كواليس التصوير والإعداد له، لكننا أثناء ذلك ننجرف مع أحداث الصراع بين الممثلين المتنافرين المشبعين بالغرور كطاووسين متنافسين كل بطريقته.

يحلم “فيليكس” بجائزة الأوسكار عن هذا الفيلم، بينما يحلم بها “إيفان” بغرور أعلى، فيتمنى الجائزة كي يرفضها ويتباهى بذلك أمام الجميع، ويتخيل هذا الموقف ويستمع للتصفيق حوله، ويتلو بيان اعتذاره أمام مرآته، وكأن كليهما متشابهان، لكن في صورة البطل المضاد للآخر.

 

يعقب مشهد بيان “إيفان” أمام المرآة مباشرة مشهد يجلس فيه مع “فيليكس” أسفل صخرة معلقة بآلة رافعة، حيث يوجد مبنى يجري بناؤه، وذلك بناء على طلب “لولا” منهما، فبصريا يضع الفيلم باتباع هذا المشهد للمشهد السابق كلا منهما في موقف خطر يسخر من غرورهما ويحجمهما إزاء وطأة شيء أكبر منهما يبين ضآلتهما، وهو تماما ما أرادته “لولا” بهذا الوضع الذي نكتشف في نهاية المشهد أنه كان ديكورا لتحجيم أناهما وترويضها ووضعهما تحت توتر، متلاعبة بهما لقيادتهما، ومن ذلك هزها لثقتهما في أدائهما عند بدء البروفات، حين بدأ كلاهما أداءه بثقة مفرطة.

فرم الجوائز.. تجريد من الأمجاد أمام الأعين العاجزة

تتأكد نرجسية “فيليكس” و”إيفان” بصريا بكثرة المرايا، فنرى “فيليكس” في أحد المشاهد تنعكس صورته في أكثر من مرآة، بينما كان يكلم “لولا” عن “إيفان”، وفي مشهد آخر نجد صورة كل منهما تنعكس في مرآة بجوار الآخر، فكل منهما صورة معكوسة للآخر تظهر نقصه، مما يبرز نرجسيتيهما المتضادة التي تتأكد كذلك بوجودهما كثيرا على طرفين متقابلين متباعدين من طاولة النقاش، لتبدو لولا في المنتصف غالبا كالحكم.

يستمر ترويض “لولا” لنرجسيتهما التي أرهقتها رغم معرفتها مسبقا بها، واختيارهما عمدا بهاتين التركيبتين المتضادتين، فتصل لأن تطلب من كل منهما إحضار الجوائز التي حصل عليها من قبل ويعتز بها كثيرا، فيحضرانها ككنز يتفاخران به، فتجمعهما في مسرح وتطلب إحضار هذه الجوائز.

إيفان وفيليكس أثناء البروفات ودوما في طرفين متقابلين

 

تقوم المخرجة بتكتيف الأخوين معا في لفافة بلاستيكية لاصقة شفافة واحدة، فلا يستطيعان الحراك، ليكون احتفاؤها بهذه الجوائز بفرمها جميعا أمام أعينهما في مفرمة قوية، بينما يكاد يجن جنونهما دون أن يستطيعا الحراك أو النطق أو الفكاك من بعضهما؛ فهي تجردهما من مجدهما، وتقوض أناهما أمامهما قائلة “فائدة الجوائز أنها تمرين للإيغو”، ليختتم المشهد بشكل أكثر هزلية بمجيء عاملة التنظيف لتكنس ببساطة بقايا ما فرمته المفرمة كمجرد نفايات.

حبتا كرز بفرع واحد.. نقص مُتصل وتناص بين الأبطال والشخصيات

إن كلا من الشقيقين يظهر نقص الآخر وكأنهما وجهان لشيء واحد متصل، وهو نفس الوصف الذي وصفت به “لولا” شخصيتي البطلين الروائيين؛ كأنهما حبتا كرز في فرع واحد، إن سقطا يسقطان معا، فنحن تدريجيا نشعر بتناص بين شخصيتي الفيلم وممثليْهما، فطبيعة ملابس “إيفان” الكلاسيكية وألوانها القاتمة الرصينة تشبه ملابس شخصية “بيدرو”، وملابس” فيليكس” الاستعراضية بألوانها الواضحة والفاقعة أحيانا تشبه ملابس شخصية “مانويل” الطفولي والبسيط مثل “فيليكس”، حتى أن سطوة وغرور “إيفان” يشبهان تركيبة “بيدرو”.

إيفان وفيليكس وقد قيدتهما لولا بورق شفاف لاصق يربطهما معا

 

تتسلل أثناء التصاعد الدرامي طبقة أكثر عمقا، ونص تحتي بشكل كوميدي ساخر ومبسط في الوقت نفسه وبسيط يناسب التلقي الجماهيري، مع تلميحات سريعة لفهم أعماق الدراما، كتحليل “إيفان” لشخصية “بيدرو” في القراءة الأولى للنص بأنه يخبئ جانبه البدائي ويسعى للتفوق على أخيه، واستخدامه لكلمة “جروتسك”، ذلك المصطلح الدرامي الذي يصف به “إيفان” ساخرا ما يحدث من مواقف مع زميله، وهو بالفعل يعد تقنية مستخدمة في الفيلم، ويقصد به التشويه الكاريكاتوري لما يبدو أمامنا، مع عبارات “لولا” السابقة عن الإيغو عند تدميرها للجوائز.

استخدام درامي للفراغ والمسرح

تتسم أماكن الفيلم بكثرة الفراغات والتجريد الشديد ضمن حالة تبسيطية، حتى أننا نرى تصويرا مبدئيا للفيلم الداخلي في مسرح بشكل حداثي يتفق مع هذا النمط البصري، فيكون خيار الاستخدام الدرامي للمسرح مع الحالة التجريدية السابقة خيارا ذكيا يحقق تكثيفا دراميا، وتوجيها للتركيز الشديد للفعل وما وراءه بتجنيب التفاصيل البصرية، مع إتاحة وضوح الإضاءة المسرحية لإبراز أغوار الشخصيات وحقيقة صراعاتها، مما يبطن المشاهد بنوع من السخرية والرؤية العبثية للحياة عموما.

فيليكس وإيفان أثاء القراءة المبدئية، وألوان ملابسهما تعبر عن شخصيتيهما

 

نرى المشاهد الأخيرة الممثلة من الرواية تمثل أمامنا في سياق مسرحي، بحيث تبدأ من حيث توقفت “لولا” من قبل في السرد، لتكون هذه المشاهد من أجمل مشاهد الفيلم، تلعب فيها الإضاءة دورا هاما ما بين اللونين الأزرق والأحمر اللذين يبرزان في اجتماعهما الصراع الدرامي وتصاعده، والتعبير عن اشتعال أعماق “مانويل”، بانغماس محيطه في الإضاءة الحمراء المتناسبة مع تنفيذ انتقامه من أخيه الذي ينتهي في المسبك المملوك لهذا الأخ.

طاووسان جريحان على السطح.. صراع قابيل وهابيل

بانتهاء بروفات الفيلم وقبيل تصويره بيومين يُقيم منتج الفيلم احتفالا فخما بهذه المناسبة، وتضطر “لولا” مخرجة الفيلم لإلقاء كلمة بشكل مفاجئ، فتقول: علينا أن نكون حذرين جدا حول ما نحب، فكل منا يرى ما يفهمه، وما لا يفهمه الشخص لا يحبه، بينما الأشياء المهمة تلك التي لا نفهمها.

وكأنها بكلمتها تُعيد توجيه التركيز على المناطق الخفية فينا التي تعمل تحت السطح، وفكرة كراهية ما لا نفهم أو ما يستعصي علينا، وبمعنى آخر ما ينقصنا.

يعود التناص بين أحداث الفيلم الداخلي وشخصيتي بطليه، وبين ممثليه حتى خارج سياق تمثيلهما للفيلم، حيث نجد “فيليكس” و”إيفان” بالاحتفال نفسه في ملابس متشابهة، ويحتسي “إيفان” مزيدا من الشراب يخرج ما يعتمل في عقله غير الواعي، فنراه في السطح يبوح برأيه السلبي حول “فيليكس” مع مساعد المنتج، وهو تضاد درامي شديد التوفيق، حيث يخرج على السطح ما يعتمل في القاع، ويبدو وجهه فقط بين ظلام دامس، وذلك في تعبير بصري لمعاناة ذاته النهمة.

مشهد لإيفان وفيليكس أسفل صخرة معلقة برافعة، وضعتهما تحتها لولا

 

يسمع “فيليكس” صدفة كلمات “إيفان” عنه، فيتواجه معه على السطح في لحظة كان فيها وحده، وذلك في مشهد يحيلنا تلقائيا لأشهر صراع في بدء الخليقة بين الأخوين قابيل وهابيل، إذ يتصارع “فيليكس” و”إيفان” وحدهما على السطح أمامنا وسط الظلام كطاووسين جريحين، لينتهي المشهد بسقوط إيفان أرضا من أعلى السطح، دون أن يُعرف تماما ما حدث، بينما نظرات “لولا” توحي بفهمها بأسى لما كان.

منطقة مظلمة يصعب التنبؤ بها.. صراع ثلاثي للإيغو

تمر قفزة زمنية لنصل لمشهد ما بعد أن انتهى تصوير الفيلم، ووصل للمشاركة في المسابقة الرسمية والتنافس في إحدى المهرجانات، لتبدو أمامنا طبقة أوسع من التناص، ما بين الفيلم الداخلي المبني على فكرة التنافس ورواية بالمسمى نفسه، ومسار الفيلم الإطاري لهما وعنوانه الدال على التنافس والتسابق كذلك.

كانت المفاجأة أن “فيليكس” قد قام أيضا بدور “إيفان”، وهي الفكرة التي كان قد طرحها “إيفان” على “لولا” من قبل بالاستغناء عن “فيليكس” والقيام بدوره، وكأن “إيفان” و”فيليكس” وجهان للعملة ذاتها ولذات نهمة، كمنطقة مظلمة لها وجوه صادمة يصعب التنبؤ بها، ليذيل فرع تخرج منه كرزتان نهاية عنوان الفيلم في الملصق الدعائي له، وذلك في لمحة ذكية ترجعنا لما قالته “لولا” من قبل في شرحها للشخصيتين والإشارة لأصلهما الواحد.

لم تخل “لولا” أيضا من الإيغو، لكنها كانت الأكثر وعيا بترويضه، فشهد الفيلم في حقيقة الأمر صراعات لإيغوهات ثلاثة في إطار من التراجيديا الكوميدية، بعمق مركب وبساطة معا، بكتابة وتعبيرات بصرية ذكية، وأداءات جيدة من الأبطال الثلاثة، خاصة “أنتونيو بانديراس” و”بينيلوبي كروز”، مما يجعلني أراه من أذكى وأفضل الأفلام لعام 2021.