السينما المصرية.. ذاكرة تخلد انتصار حرب أكتوبر

الفنان المصري هشام عبد الحميد

برغم قلة الأفلام المصرية التي تناولت حرب أكتوبر أو نكسة 1967، فإن الملاحظ أن ما أنتجته هذه السينما في السبعينيات كان أكثر تأثيرا وتميزا بالمقارنة مع إنتاج التسعينيات وما بعدها، وتأسيسا على هذه الفكرة سنعرض الأفلام المصرية التي تناولت نصر أكتوبر تباعا.

 

“أغنية على الممر”.. أموت وتعيشي يا ضحكة مصر

نبدأ بفيلم “أغنية على الممر” (1972) الذي أنتج بالتعاون بين جماعة السينما الجديدة والمؤسسة العامة للسينما، وقد صُنع الفيلم في زمن الطموح السينمائي والحلم بسينما تحمل هموم الإنسان العربي، وكتب سيناريو الفيلم والحوار مصطفى محرم، عن مسرحية الكاتب علي سالم “أغنية على الممر”.

أخرج الفيلم علي عبد الخالق، وكتب الأشعار عبد الرحمن الأبنودي، وقام بالتمثيل محمود ياسين ومحمود مرسي وصلاح قابيل وأحمد مرعي وصلاح السعدني ومديحة كامل.

يتعرض الفيلم لكتيبة مصرية تحرس موقعا استراتيجيا بسيناء وهي منفصلة عن باقي القوات، لم تصل الكتيبة أي معلومات عن انسحاب الجيش المصري، ولا تحطم الطيران الحربي المصري بالكامل من قبل الطيران الإسرائيلي، لكون الجهاز اللاسلكي معطلا، وبالتالي فهم معزولون لا يدرون من أمرهم شيئا.

يتسرب إليهم مع مرور الوقت إحساس بأنهم محاصرون، وأن ثمة هزيمة حدثت، يمر الوقت بطيئا ليعود لكل منهم بفلاش باك مستعرضا طموحاتهم، أحلامهم وعوالمهم الشخصية، إنهم شرائح مختلفة من شباب مصر يحملون في صدورهم الكثير من الأمل في غد أفضل، بلا شك إنها قراءة سياسية واجتماعية لتلك الفترة.

يُعّد الفيلم الأول للمخرج علي عبد الخالق، ومما هو جدير بالذكر أن الفيلم عندما عُرّض لم يلاقي النجاح الجماهيري الذي يليق بمستواه الفني، ولعل عرض فيلم “خللي بالك من زوزو” للمخرج حسن الإمام بنفس التوقيت كان له بالغ الأثر السلبي على نجاح “أغنية على الممر”، ولا يسعني هنا إلا أن أعرض جزءا من كلمات الأغنية المحفورة في الأذهان:

“إلى الآن..أبكى.. أنزف.. أموت وتعيشي يا ضحكة مصر.. يا مراكب يا صواري، يا شوارع يا حواري، يا مزارع يا صوامع، يا مصانع يا مطابع يا منادر يا بنادر.. يا منازل.. يا بيوت.. أبكي.. أنزف.. أموت وتعيشي يا ضحكة مصر”.

 

“الرصاصة لاتزال في جيبي”.. باكورة أعمال حرب اكتوبر

لعل فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” يُعّد من باكورة أعمال انتصار حرب أكتوبر الذي سجلت فيه القوات العسكرية المصرية الانتصار على الجيش الإسرائيلي، وهو فيلم من إنتاج رمسيس نجيب، وقصة إحسان عبد القدوس، وإخراج حسام الدين مصطفى، وموسيقى عمر خورشيد، وتمثيل محمود ياسين ونجوى إبراهيم ومحيي إسماعيل وسعيد صالح وحسين فهمي.

يدور الفيلم حول عودة محمد (الممثل محمود ياسين) من غزة كمجند بعد نكسة 67، ويبدأ بالتعافي ويكون على علاقة حب بفاطمة (الممثلة نجوى إبراهيم)، ثم يُستدعى لحرب أكتوبر، فينتهز الفرصة عباس (الممثل يوسف شعبان) لينال من محبوبة محمد (الممثلة نجوى إبراهيم)، فيغتصبها ثم يهرب من البلد بعد ذلك الفعل الخسيس.

يتعرض الفيلم بالتفصيل لعملية العبور وإسقاط خط بارليف، وقصف الطيران المصري للمواقع الإسرائيلية وتدميرها، ويعود محمد بعد النصر لتحتفي به جموع المصريين في بلدته، ويبقى على حبه لفاطمة.

رغم النزعة الوطنية للفيلم فإنه يحمل بطياته نقدا قاسيا للاتحاد الاشتراكي والجمعيات التعاونية، فقد كان عباس المغتصب يدير هذه الجمعيات، ويعرض بعضا من السلبيات السريعة لآليات النظام الاشتراكي، وبالطبع كانت فرصة ذهبية لصناع الفيلم لكي يعروا آليات النظام الاشتراكي مشيرا بشكل غير مباشر إلى أنها أحد أسباب النكسة، وذلك تمهيدا لتقديم الحل الرأسمالي لمرحلة مغايرة وقادمة تفرض آليات ومعطيات جديدة.

الجدير بالذكر أيضا أن هذا الفيلم استقدم من أجله رمسيس نجيب خبراء إيطاليين لإدارة المعارك الحربية، كما أسند لرأفت الميهي كاتب سيناريو الفيلم أن يُشرف على تصوير أحداث حرب الاستنزاف، وتولى رمسيس نجيب أثناء تصوير الفيلم الإشراف على وحدات معارك أكتوبر.

أحدث الفيلم دويا هائلا عند عرضه ونجح نجاحا ساحقا لدرجة أن الرئيس السادات كان يطلب نسخة من الفيلم لكي يعرضها في المؤتمرات التي كان يعقدها في الغرب، وفي رأيي أنه -رغم بعض التحفظات على الفيلم برغم فارق الزمن في الإمكانات- يظل أفضل فيلم صُنع عن نصر أكتوبر على الأقل إلى الآن.

لقطة للممثلة نجوى إبراهيم من فيلم “حتى آخر العمر” التي تجمعها مع الممثل محمود عبد العزيز علاقة حب

 

“حتى آخر العمر”.. معا على الحلو والمر

فيلم “حتى آخر العمر” هو فيلم من قصة وسيناريو وحوار يوسف السباعي، وإخراج أشرف فهمي، وإنتاج رمسيس نجيب، وتمثيل الوجه الجديد آنذاك محمود عبد العزيز ونجوى إبراهيم وعمر خورشيد، وموسيقى عمر خورشيد نفسه الذي وضع موسيقى “الرصاصة لا تزال في جيبي”، ولعلنا نذكر هنا أنه خلافا نشب بين حسين فهمي ورمسيس نجيب على الأجر، مما أدى إلى انسحاب حسين، فما كان من رمسيس إلا أن أسند دوره إلى الوجه الجديد محمود عبد العزيز، فكان ميلاد نجم من رحم اعتذار نجم آخر.

نعود إلى أحداث الفيلم التي تدور حول قصة حب بين (الممثلة نجوى إبراهيم) و(الممثل محمود عبد العزيز) الذي يُستدعى إلى الجيش في اختصاص السلاح الجوي ليشكل الضربة الجوية بنصر أكتوبر، ولكنه يُصاب وتتسبب هذه الإصابة بشلل له، وعندما يعود مقعدا على كرسي متحرك يعاني معاناة شديدة، لكن نجوى إبراهيم تقرر أن تظل معه حتى آخر العمر.

تذكرنا هذه التضحية النبيلة بفيلم “تعال إلى البيت” (Coming Home) عن حرب فيتنام من بطولة “جين فوندا” و”جون فويت”، وفيه يذهب “جون فويت” إلى حرب فيتنام ويعود قعيدا من الحرب، ولكن “جين فوندا” تضحي بحياتها من أجل أن تظل بجانبه.

دفعت “جين فوندا” الثمن غاليا لوقوفها بجانب فيتنام ضد السياسة الأمريكية، ولعلها مثال صارخ لصدام الفنان مع السلطة بسبب مواقفه وآراءه السياسية، فقد ضيق على “جين فوندا” في عملها بعد أن كانت نجمة هوليوود المدللة وتراجع نجمها كثيرا نتاج هذا الحصار، بل بصق أحدهم عليها أثناء تكريمها، ولكن لم يفت هذا من عضد إرادة النجمة الكبيرة واختياراتها المنحازة للإنسانية بالدرجة الأولى.

 

“العمر لحظة”.. خذلان المخرج الذي حز في مفصل الفيلم

لعل أسوأ حظ مر به فيلم هو فيلم “العمر لحظة”، وهو من إنتاج ماجدة وإخراج محمد راضي، وقصة وسيناريو وحوار يوسف السباعي، وتمثيل ماجدة ومحمد خيري وأحمد مظهر وناهد شريف ونبيلة عبيد وأحمد زكي، وموسيقى بليغ حمدي، وبرغم الإنتاج الضخم الذي وفرته ماجدة لهذا الفيلم، فإنه لم يُعرض في توقيته المناسب، بل اضطرت ماجدة لعرضه بعد أكتوبر/تشرين الأول بخمس سنوات، مما عرضها لخسارة كبيرة.

يدور الفيلم حول قصة نعمت الصحفية المتزوجة من عبد القادر (الممثل أحمد مظهر) رئيس تحرير مجلة ضخمة، وهما دائما الخلاف في وجهات النظر، ولا سيما أن الزوج يتحلى بروح اليأس والسلبية، وهي مؤمنة بروح الأمل بالانتصار.

تلتقي نعمت الصحفية بضابط الصاعقة (محمد خيري) في زيارتها للجبهة، ثم تتطور الأحداث ويحدث النصر، لكن بقي الفيلم -برغم تكلفته الضخمة- فيلما متواضعا، وأعتقد أن سبب ذلك يعود إلى اعتذار مخرجه الأصلي مدكور ثابت في آخر لحظة، لأنه كان معترضا على إصرار ماجدة على الوجه الجديد آنذاك محمد خيري، ويُعّد انسحابه بمثابة ضربة موجعة للعمل.

 

“بدور”.. هشاشة المعالجة ورومانسية النصر

فيلم” بدور” هو من تأليف وإخراج نادر جلال، وتمثيل محمود ياسين ونجلاء فتحي وهدى سلطان ومحمد رضا وهالة فاخر ومجدي وهبة، وتدور القصة حول صابر عامل المجاري الذي يعمل في هيئة الصرف الصحي، وبدور (الممثلة نجلاء فتحي) وهي لصة تلتقي به بينما كان يطاردها بعض الأشخاص، وبعد حدوث التعارف بينهما تعيش في شقته.

يُستدعى صابر إلى الجبهة ليعود منتصرا ويتزوج من بدور، ولعل هذا الفيلم وفيلم الوفاء العظيم يعدان من أضعف المعالجات التي كتبت عن حرب أكتوبر نظرا لسطحيتها وعدم عمقها واعتمادها على التوابل والكليشيهات السينمائية التي عبرت عن وقت النصر وحلاوته، ولكن بمزيد من التأمل في هذين العملين نجد أنهما احتويا على مشاهد اجتماعية رومانسية تدغدغ ذائقة الجمهور وقت ذاك دون الأخذ في الاعتبار بأهمية وخطورة الحدث.

 

“أبناء الصمت”.. انتصار الفن على المجاملات

فيلم “أبناء الصمت” هو من تأليف مجيد طوبيا، وموسيقى بليغ حمدي، وإخراج محمد راضي، ويبدأ الحدث في القصة عن مرحلة ما بعد الهزيمة، وانشغال القوات المسلحة المصرية بالتحضير لعمليات الاستئناف، ليؤدي هذا الجهد الجبار لانتصار حرب أكتوبر.

الجدير بالذكر هو اشتراك كتيبة ضخمة من أهم الفنانين في تاريخ السينما المصرية في هذا العمل الضخم الأقرب إلى الملحمة، مثل محمود مرسي وميرفت أمين ونور الشريف وأحمد زكي ومحمد صبحي ومديحة كامل.

استطاع هذا الفيلم أن يقف بثبات أمام ضخامة ونجاح فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” نظرا لتميز الكتابة الدرامية، فالمعروف أن الدراما المحبوكة هي أساس العملية الفنية، وخاصة أن كاتبها هو مجيد طوبيا، وقد اكتسب الفيلم عمقا وتأثيرا، وكان له عظيم الأثر في تميزه الكبير، وسنذكر هنا حادثة تدل على الأخلاقيات وصدق الفنان، وقتئذ صُوّرت مشاهد الفيلم ولم يبق إلا لقطة الجندي الذي يرفع علم مصر ليُصّاب برصاص العدو.

من كان يقوم بتلك اللقطة هو أحمد زكي الذي كان وقتها وجها جديدا، وكان وقت الغروب يلوح في الأفق، كان السيد راضي شقيق المخرج محمد راضي يُمّثل بالفيلم، وهو من أراد هذه اللقطة الدرامية، وتشاجر مشاجرة كبيرة مع أخيه إلى أن تم له ما أراد، لكن المخرج محمد راضي حدد موعد تصوير سري في الفجر، دون علم أحد وأعاد اللقطة مع أحمد زكي.

جاءت اللحظة الفصل في العرض الخاص للفيلم بحضور رئيس الجمهورية وقتها، وكان السيد راضي يجلس بكل زهو قريبا من الرئيس، ولكنه فوجئ بتغيير المشهد فصرخ في العرض “أخويا خانني”، وعندما استفسر السادات عن سبب تلك الصرخة وعلم بالتفاصيل شَدّ على يد المخرج محمد راضي وقال: “انتصر الفن على المجاملات”، وما أحوجنا اليوم إلى هذه الأخلاقيات.

 

“حائط البطولات”.. 20 عاما من الأشواك والعوائق

فيلم “حائط البطولات” (1999) هو فيلم لعادل حسني، من قصة إبراهيم رشاد، وإخراج محمد راضي، وتمثيل محمود ياسين وفاروق الفيشاوي وخالد النبوي وندى بسيوني، وقد تطرق الفيلم مرة أخرى لحرب الاستنزاف، والعمليات الجوية التي كان يشنها الطيران الإسرائيلي على أهداف عسكرية داخل مدن الأراضي المصرية، وتصدي قوى الدفاع الجوي المصري برسالة قوية ضد هذا العدوان.

تطرق الفيلم أيضا لعمليات التطوير التى شهدتها القوات المسلحة المصرية، وبالأخص القوات الجوية حتى أصبحت جاهزة للمعركة المصيرية، وقد أشرف اللواء محمد علي فهمي قائد القوات الجوية سابقا على تصميم المعارك الحربية بالفيلم، إلا أنه من سوء حظ الفيلم أن أُعيق عرضه بطرق شتى منها المباشر وغير المباشر لمدة 20 سنة.

جاء الخبر لاحقا أن السبب هو إرادة محمد حسني مبارك لأن يكون دوره الرئيسي بالفيلم وهذا ما لم يكن موجودا كما يجب، ويقال أيضا إن الرئيس والأجهزة المعنية استاءت من اللقطات التي ظهر فيها المنتج عادل حسني لثواني قليلة مؤديا دور مبارك، وعلى أي حال فإن هذه الأسباب أدت إلى ولادة هذا العمل مجهضا، ولم يكن في مستوى الآمال المعقودة عليه.

 

“يوم الكرامة”.. مسيرة مخرج لم تشفع له

فيلم “يوم الكرامة” هو من إنتاج قطاع الإنتاج بالتلفزيون المصري (2002) عن قصة إبراهيم رشاد، وإخراج علي عبد الخالق، وهو عن عملية تدمير المدمرة إيلات في 21 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1967، وقد كانت تلك العملية من ضمن العمليات النوعية لحرب الاستنزاف، وذلك تمهيدا لحرب السادس من أكتوبر.

يختلف هذا الفيلم عن فيلم “الطريق إلى إيلات” الذي أنتجه التلفزيون أيضا، فالأول كان معنيا بتدمير المدمرة إيلات، والثاني كان معنيا بتدمير ميناء إيلات، ولكن الفيلمين لم يُحققا الآمال المعقودة عليهما، رغم أن مخرج الفيلم الأول هو المخرج الكبير علي عبد الخالق الذي قدم لنا من قبل تحفته “أغنية على الممر”.

وأخيرا نتمنى أن نكون قد ألقينا بعضا من الضوء على الحرب وتأثيرها على السينما المصرية وكيفية تعامل صناعها مع هذه اللحظة المفصلية من يوم العبور السادس من أكتوبر.