“الشاهد الأخير”.. من أرشيف المجازر الروسية في بولندا

أمير العمري

 

يجمع فيلم “الشاهد الأخير” The Last Witness) (2018)) بين السرد التاريخي والتحايل الدرامي الخيالي من أجل إعادة رواية حادثة مأساوية وقعت خلال الحرب العالمية الثانية، وأهملها التاريخ بسبب عملية التغطية المقصودة والتشويش الشديد الذي تعرضت له.

يكشف  الفيلم كيف تسترت القوى الكبرى التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية على الجريمة الإنسانية الكبرى التي شملت قتل 22 ألفا بقرار مسبق بارد ومن دون أي اشتباكات، ثم أصبحت هذه الدول تقصي بالموت كل من يسعى لكشف حقيقة المجزرة. فما هي الحقيقة التي يتناولها فيلم المخرج البولندي “بيوتر سكوبياك” الذي يقيم ويعمل في بريطانيا، وما مغزى الفيلم في وقتنا الراهن؟

غابة “كاتين”.. من الذي قتل 22 ألف بولندي؟

في أبريل/نيسان 1940 شنت قوات الشرطة الخاصة والمخابرات السوفياتية أوامر من المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي بقيادة جوزيف ستالين حملة واسعة النطاق داخل الأراضي البولندية، اعتقلت خلالها أعدادا كبيرة من ضباط الجيش البولندي، وأفراد النخبة المتعلمة من الأطباء والمهندسين والمحامين وأساتذة الجامعات والقساوسة، وكل من كانت ترى أنهم يمكن أن يصبحوا في المستقبل عقبة، أو يشكلوا مقاومة لاحتلال بلادهم وبقاء القوات السوفياتية فيها عند نهاية الحرب.

 

وقد قتل السوفيات خلال هذه الحملة 22 ألف بولندي، دفنوا أعدادا كبيرة منهم في مقابر جماعية في غابة “كاتين”، وكان في ذلك الوقت معاهدة بين هتلر وستالين تقضي بتقاسم الأراضي البولندية، لكن مع نشوب الحرب بين ألمانيا والاتحاد السوفياتي واجتياح الألمان الأراضي البولندية؛ أشاع السوفيات أن الألمان النازيين هم المسؤولون عن تلك المجزرة الرهيبة، وكان المناخ حينها مواتيا، فشجعت حكومات الغرب الموالية (الأمريكيون والبريطانيون بوجه خاص) هذه القصة ودعمتها، وروجت لها فاستقرت كحقيقة لا تقبل الشكّ.

إلا أن فيلمنا هذا لا يكتفي بكشف الحقيقة التي صارت معروفة، لكنه يكشف بشكل دقيق عن تستر الحكومة البريطانية تحديدا وعملائها على حقيقة ما وقع، وكيف تعاونت بعد الحرب مع الحكومة الشيوعية الموالية لموسكو في وارسو لكي تضمن بقاء الحقيقة مدفونة إلى الأبد.

أندروود.. حالات انتحار متزايدة بين الجنود البولنديون

تدور أحداث الفيلم عام 1947 (أي بعد عامين من نهاية الحرب العالمية الثانية). نحن الآن في منطقة قريبة من بريستول جنوب غربي بريطانيا، حيث إن بطل الفيلم -أو بالأحرى “البطل اللابطل”(Anti–hero)-  صحفي يعمل مراسلا محليا لصحيفة “تلغراف” ويدعى “ستيفن أندروود”، وهو يبحث عن قصة صحفية يمكن أن تُغري رئيس مكتب الصحيفة العريقة “فرانك هاملتون” (يقوم بالدور ببراعة الممثل البريطاني المخضرم مايكل غامبون)، ويثبت له أنه قادر على عمل تحقيقات صحفية تتناول القضايا الكبرى.

الصحفي “ستيفن أندروود” كان دائما شخصية درامية قوية ومدخلا لتناول الموضوع السياسي وفتح الملفات المسكوت عنها

 

ينطلق أندروود في البحث من ملاحظة ارتفاع حالات الانتحار بين عدد من الأفراد البولنديين الموجودين في المنطقة قرب الغابة، حيث يوجد معسكر لضباط وجنود من الجيش البولندي الذين كانوا قد لجؤوا إلى بريطانيا بعد احتلال الألمان لبلادهم، خاصة وأن بريطانيا هي التي استضافت وقتها الحكومة البولندية في المنفى واعتُبرت حكومة شرعية في أنظار الحلف المعادي للنازية. لكن فرانك لم يُرحب كثيرا بمتابعة القصة، فقد طلب من أندروود أن يقوم بدلا من ذلك بالكتابة عن مهرجان ريفي كانوا يقيمونه في تلك المنطقة لأنواع مختلفة من مشروب محلي، لكن أندروود استمر رغم ذلك في بحثه مدفوعا بالرغبة المهنية والشخصية في معرفة الحقيقة.

أندروود هذا لديه شقيق ضابط في الجيش موجود في معسكر الجيش البريطاني القريب، كما يرتبط أندروود أيضا بعلاقة حب قديم مع “جانيت”، وهي ضابطة في القوة البريطانية الموجودة في المعسكر نفسه، ومتزوجة منذ فترة من “مايسون” مدير المكتب المحلي في المنطقة للمخابرات الحربية، بعد أن تعرضت علاقتها مع أندروود لبعض المشاكل وسوء التفاهم، لكنها لا تحب مايسون بل ما زالت تميل إلى أندروود.

لوبودا.. يوميات الشاهد الوحيد على المجزرة

يلفت نظر أندروود رجل بولندي يتردد على مقصف البلدة يُدعى “لوبودا” يزعم في البداية أنه روسي، وهذا الرجل يخفي سرا ما، وهو يقيم في مخيم مخصص لإيواء اللاجئين البولنديين، وكان قد فرّ من بولندا ولجأ إلى بريطانيا قبل نهاية الحرب مع كثيرين مثله.

تابعه أندروود وسرق منه صندوقا صغيرا يحتوي دفترا صغيرا فيه بعض الصفحات مدونة باللغة البولندية، فعهد به أندروود إلى مترجمة في مكتب الصحيفة كي يعرف ما فيه، ليتضح أنها يوميات دوّنها جندي بولندي كان معتقلا على أيدي القوات السوفياتية، وفيما بعد نعرف أن لوبودا كان الشاهد الوحيد الذي بقي على قيد الحياة، فقد كان فلاحا يعمل قرب غابة كاتين، وشهد عمليات الإعدام الجماعية التي ارتكبها السوفيات، بل وساعد النازيين في دفن جثث القتلى من الجنود البولنديين، ومن جيب أحدهم سقط هذا الدفتر الذي ظل محتفظا به.

لوبودا فرّ من بولندا ولجأ إلى بريطانيا، ليتبين لاحقا أنه الشاهد الوحيد الذي بقي على قيد الحياة في مجزرة غابة “كاتين”

 

ما يقوم به أندروود لا يخفى على المخابرات الحربية البريطانية التي تتابعه عن كثب، وتتابع كل من يتصل به، وتتعقد الأمور أكثر بعد أن عُثر على لوبودا مشنوقا في الغابة، وينتهي التحقيق في موته إلى اعتباره انتحارا حسب القصة الشائعة، ثم يختفي كل من اتصل بهم أندروود أو ساعدوه في الكشف عن الحقيقة واحدا تلو الآخر، فبريطانيا لا تريد للحقيقة أن تظهر بأي ثمن حفاظا على علاقاتها مع موسكو، وطبقا للاتفاق الذي أبرم فيما بينهما خلال الحرب، وسوف تبقى حقيقة ما حدث في “كاتين” خافية إلى أن يعترف “ميخائيل غورباتشوف” رئيس الاتحاد السوفياتي حينها عام 1990 بدور السوفيات في المجزرة كما تقول لنا العناوين التي تظهر في نهاية الفيلم.

تحقيق صحفي.. البحث عن حقيقة ترفضها الصحيفة

نحن هنا أمام موضوع سياسي تماما تتم معالجته بأسلوب الفيلم البوليسي أي أسلوب التحقيق، من خلال شخصية الصحفي الباحث عن الحقيقة مدفوعا بالرغبة في إثبات الذات في البداية ثم معرفة الحقيقة بعد ذلك مهما كلف الأمر. لكنه يجد نفسه وقد تعرض أولا لخيانة أقرب الناس إليه، ثم اختفاء من قدّموا له أي مساعدة في الطريق، وعندما يتوصل إلى الحقيقة يرفض رئيسه في مكتب الصحيفة نشر القصة بل ويطرده من العمل، والواضح أنه تعرض لضغوط من جانب السلطة الخفية التي تدير الأمور أي المخابرات، ليصل في النهاية إلى ملاقاة مصيره الحتمي.

في الفيلم الكثير من المشاهد الجيدة، والمواقف الدرامية، ولحظات الكشف، وهو قريب في بنائه من أفلام مشابهة كانت تتناول موضوعا سياسيا، لكن كاتبه ومخرجه يختار الشكل المتسلسل من دون تداخل في البناء على غرار فيلم “زد” الكلاسيكي الذي وضع حجر الأساس عام 1969 للفيلم السياسي في العالم، ويبدو اليوم أقرب إلى ما يحدث كثيرا في بلادنا من تداعيات أمنية تشمل الاغتيالات السرية وتلفيق التهم واستخدام شهود الزور وعملاء الأجهزة والقضاء الموجه سياسيا.

يعاني “الشاهد الأخير” من كثرة الشخصيات وتداخل الخيوط وتداعي التفاصيل مما يضر بالحبكة، وهو ما يجعل الفيلم يكتسي بنوع من الغموض والارتباك، في حين أن الهدف كان شرح وتوضيح كل الشخصيات ودوافعها.

الصحفي أندروود كان يرتبط بعلاقة مع جانيت، وهي امرأة تحتل مكانا في الجيش البريطاني، وقد ساعدته في البداية في البحث عن الحقيقة لكنها اضطرت للتعاون مع المخابرات.

 

هنا على سبيل المثال تبدو علاقة أندروود مع جانيت ملتبسة، خاصة وأن زوجها يعلم بعلاقتها مع أندروود، ويقول لها مباشرة إنه لا يمانع في هذا، مقابل أن تقبل جانيت نفسها تزويده بما يرغب من معلومات تتعلق بنشاط أندروود.

هذه التفاصيل تبدو غير مقنعة في السياق، ولا تبدو أنها تخدم الفيلم كثيرا، كما يعاني الجانب البصري في الفيلم من الغموض والتشويش، فكثير من المشاهد تعاني من الطابع المسرحي الجامد، مع ضعف واضح في الأداء من جانب الممثل الرئيسي “أليكس بيتيفير” الذي يبدو غير منسجم مع الشخصية، غريبا تائها فيها مع افتقاده القدرة على الانسجام مع باقي الممثلين من حوله.

كما ترتبك الحبكة بكثرة المصادفات، مثل وجود معسكر الجيش ومعسكر إيواء اللاجئين البولنديين في المنطقة نفسها، ثم مصادفة أن شقيق الصحفي ضابط موجود في المعسكر البريطاني نفسه، وأن الصحفي على علاقة قديمة بامرأة في منصب عسكري في الجيش، وزوجها رئيس لمكتب المخابرات بالمنطقة، وكلها مصادفات غير مقنعة.

يحصل أندروود أخيرا على وثيقة مصورة تكشف ما وقع في غابة “كاتين”، يشاهدها في عرض خاص داخل أحد أقبية المخابرات البريطانية بتوصية من شقيقه الذي يُرسله إلى هناك، فيتمكن من الوصول إلى أكثر الأماكن سرية داخل المخابرات، من دون أن يبدو هذا الأمر مقنعا لنا كمشاهدين، لكن الأكثر مدعاة للإحباط أن تأتي الوثيقة المصورة نفسها (وهي فيلم سينمائي وثائقي قصير) ضعيفة تماما، ولا تعتبر دليلا على وقوع “مذبحة” جماعية، بل مجرد عملية فردية لإطلاق رصاص بواسطة مسدس على رأس جندي واحد يعقبه قتل جندي آخر وهكذا، مما يضعف كثيرا من تأثير القصة الأصلية، فما حدث في غابة كاتين أكبر بكثير من مجرد عمليات اغتيال فردية.

الشاهد الأخير.. ينتصر لروح شاهد على المجزرة

لو اعتبرنا الفيلم كما أراد له صناعه فيلما من أفلام التحقيق البوليسي المثيرة، فلا بد أن نعتبره عملا ينقصه الكثير، لأنه يفتقد أساسا إلى السيناريو المتماسك الذي يقبض على جميع الخيوط بقوة، ويدفع الأحداث تدريجيا كي يكشف في كل مشهد عن مفاجأة جديدة، أو يتلاعب بالحبكة كي يشد المتفرج إلى متابعة ما يحدث على الشاشة، وهو العنصر الذي كان متوفرا بشكل مثالي في فيلم “زد” المشار إليه لـ”كوستا غافراس”.

بطل الفيلم الصحفي أندروود في مواجهة رجل المخابرات

 

كما يعجز أسلوب الإخراج التقليدي في العثور على مواقف بارزة بين ثنايا الموضوع يمكنه الاستناد والبناء عليها، وكذلك لا ينجح المونتاج في توليف الخيوط المختلفة في بناء جدلي مثير يتمتع بالثراء، فيكتفي المونتير بالتوليف التقليدي المتتابع في رتابة لا تفي بالغرض، خاصة بعد أن كُشف اللغز في الثلث الأول من الفيلم، وفقد الموضوع بالتالي جاذبيته.

أراد المخرج “بيوتر سكوبياك” أن يأتي هذا الفيلم بمثابة تكريم لروح جدّه الذي كان شاهدا على ما وقع هناك وتم التستر عليه طويلا، قبل أن يكشف غورباتشوف الحقيقة ويعترف بدور بلاده في المذبحة ويعتذر عنها عام 1990.

لكن المشكلة أن سيناريو الكاتب البولندي “بول سامبووسكي” (المعد عن مسرحيته) لم يساعد سكوبياك في تقديم التحية الواجبة، بل وجعل فرص الفيلم ضعيفة في التأثير الجماهيري كما ينبغي، لكنه سيبقى العمل الأول المخصص بكامله لهذا الحدث الكبير بمغزاه التاريخي والإنساني.

مذبحة غابة كاتين مثلها مثل مذابح كثيرة أخرى تُرتكب في عالمنا، يدفع ثمنها الأبرياء ويتستر عليها الجبناء، ويقف فوقها الأوغاد، حيث ينسبونها إلى غيرهم، أو يبحثون عن تبريرات مستحيلة لها.