“الشرق في فنونهم”.. حين تكون الثقافة العربية محض اهتمام فنانين غربيين

عزة سلطان

عشر دقائق قد تصبح زمنا قصيرا لفيلم تسجيلي، لكنه يُقدّم فكرة واضحة، فإذا كان العمل حلقة من عدة حلقات، فإن كل فيلم يغدو بمثابة لقطة مُقربة من إحداها. “الشرق في فنونهم” سلسلة من الأفلام التسجيلية القصيرة التي تم عرضها عبر شاشة الجزيرة الوثائقية خلال شهر رمضان، حيث يقدم كل فيلم حالة فنية وإبداعية لأحد الفنانين الأوروبيين وكيف تأثر بالثقافة العربية، وتبدو وحدة الموضوع في هذه السلسلة هي المحور الأساسي في عدد من الأفلام تبلغ 30 فيلما.

ثمّة تصوّر أولي أن الموضوع مُحدّد لشكل وعناصر كل فيلم، وهذا هو الأمر الخاطئ، فحتى إذا كانت هناك وحدة للموضوع فإن كل فيلم هو وحدة مستقلة، فلا تتشابه الأفلام إلا في المقدمة والخاتمة مع مراعاة أن تكونا من الغرافيك، واندرجت كل الأفلام تحت الاسم نفسه “الشرق في فنونهم”.

 

“أستلهم لوحاتي من القرآن”.. جسر بين ثقافتين

يبدأ هذا الفيلم القصير بلقطات من مدينة فينيسيا بما يصنع مقدمة تقليدية للفيلم المرتبط بمكان وشخص، حين تخرج الفنانة “شاميرا مينوتسي” إلى قلب الكادر، وتبدأ في الكشف عن وجودها داخل الفيلم من خلال تأثرها بنمط العمارة العربية التي تملأ فينيسيا (مدينة البندقية قديما).

يعتمد المخرج والمنتج المنفذ محمد قناوي في هذا الفيلم سياقا تقليديا، وكأن الفيلم عبارة عن بورتريه للفنانة التشكيلية “شاميرا مينوتسي”، وتتميز الصورة بأنها دالة ومعبرة عن المحتوى، فالفنانة التي تصف تأثرها بالقرآن الكريم تبدأ جملة الفيلم الافتتاحية بـ”أستلهم أفكار لوحاتي من قراءاتي لمعاني القرآن”، وفي المقابلة مع الفنانة يكون اختيار مكان المقابلة هو المرسم الذي يمتلئ باللوحات التي توضح مدى تأثرها بالثقافة العربية.

ووفق النمط التقليدي في معالجة هذه النوعية من الأفلام، سيمضي المخرج في الانتقال بين الفنانة وهي ترسم، وبين مقابلة معها متخللة لوحات توضح سمات الثقافة العربية، بل إن “شاميرا” لا تكتفي بنقل الحرف العربي في لوحاتها، وإنما تصنع جسرا بين الثقافتين العربية والإيطالية، حيث تشير إلى الأسد رمز مدينة فينيسيا وقد رسمته بالخطوط العربية، وهنا نرى رسالة الفنانة التي لم تكتفِ بتأثرها بالثقافة والفن الإسلامي، بل سعت إلى تقديمها لمواطنيها.

الفنانة “شاميرا مينوتسي” بين لوحاتها المُستلهمة من الثقافة العربية

 

الحلقة الأولى.. كتاب لا يقرأ من عنوانه

بطل الحكاية في هذا الفيلم بل والأفلام التالية هو البحث والإعداد الجيد الذين قام بهما المخرج واختياراته للفنانين، ونوعية الفنون التي يقدمونها، فقد راعى تنوعا يثري الثقافتين العربية والإسلامية، ويوضح الآثار المتعددة لفنون الشرق على فناني أوروبا مهما اختلفت جنسياتهم، وهو الأمر الواضح في التنوع المكاني وكذلك التنوع النوعي.

ففي الحلقة الأولى اختار فنانة يبدو تأثرها واضحا بشكل جلي، وهي أوروبية غير مسلمة، فبات التأثر ناجما عن أثر حقيقي للثقافة الإسلامية، وكشف تأثرها بالقرآن رغم كونها لا تعرف اللغة العربية، بل تستعين بالترجمة الإيطالية لتقف على معنى الكلمات قبل أن تنقل الحروف والآيات في تشكيلات جمالية.

فيلم “شاميرا” هو الأول في هذه السلسلة، لكنه سيكون معيارا ظالما إذا ظن المشاهد أن الأفلام التالية ستتبع نفس خط المعالجة التقليدي.

 

ضوء من الشرق.. حين يترعرع المرء مع المهاجرين

من غرب فرنسا وليلها سيبدأ هذا الفيلم الذي تكون اللقطة الأولى فيه أضواء منعكسة على صفحة النهر، ثم نرى شخصا يقوم بعدد من الحركات غير المفهومة، يستمر الأمر لدقيقة تصنع حالة من الارتباك لدى المشاهد، مُخلّفة رغبة في الفهم تنشأ من هذا الارتباك.

يلجأ المخرج لصنع مناطق تشويق خاصة في فيلمه القصير الجديد، فالحركات الغريبة للشخص تدفع للتساؤل عمّا يفعله قبل أن يكشف المخرج عن هويته وعلاقته بموضوع الشرق والفنون.

إنه “جوليان بريتون” الذي يرسم بالضوء، ولذلك وقع اختيار الليل كافتتاحية للفيلم، ليأتي بعدها التعريف بهذا الشخص عبر مقابلات تكشف علاقته بالثقافة العربية إلى ما بعد تقديم هذا الفن الغريب على ذهنية المشاهد العربي. حيث يوضح بريتون أنه تربّى في منطقة تعجّ بالمهاجرين خاصة العرب، مما صنع حالة التواصل بينه وبين الثقافة العربية، ثم ينتقل لشرح فنه.

يكسر المخرج قناوي القواعد في أعماله، فهو لا يلجأ إلى نمط محدد في المعالجة، فكل فيلم داخل سلسلة الأفلام يحدد معالجته بما يخدم الفكرة، ويقدم حالة مختلفة يكسر رتابة التتابعية في حلقات يومية.

الخطاط “جوليان بريتون” يخطّ باللغة العربية

 

اقرأها متصلة أو منفصلة.. سلسلة مرنة

أصبحت الإشادة بالصورة في هذا الوقت محض استرسال، إذ ساهمت التقنيات الحديثة وجودة الكاميرات في إنتاج صورة مميزة، لكن الإشادة تأتي باختيار زوايا التصوير والأماكن، وقد تشارك فيها كل من مدير التصوير “لويجي فيرزيللي” و”محمد قناوي” متعدد الأدوار في هذا العمل.

“الشرق في فنونهم” درس مهم لصنّاع الأفلام المقدِمين على تقديم أعمال متسلسلة، والذين يشرعون في صناعة قالب واحد تأتي كل الحلقات عبره، هذا القالب الذي كسره قناوي لصنع أفلام يمكن أن تُشاهد كل فيلم منها على حدة، دون الإخلال بالموضوع أو الفكرة.