الطاقة.. موضوعاً وثائقياً

قيس قاسم

مع ازدياد الحديث عن الطاقة وعلاقتها بالبيئة تتجه كثير من الأفلام الوثائقية لخوض جانب من هذا السجال الكثير التعقيد ، والذي يُبرز الحاجة لرفع مستوى التناول واقتراح المقاربات بما يتناسب مع مستوى الجدل الدائر والذي بعضه ينسف الكثير من البديهيات أو الكليشيهات السائدة كمفهوم الطاقة البديلة أو النظيفة وتشجيع الدول الفقيرة للتفكير بإنتاج طاقة شمسية رخيصة وغيرها من الأفكار التي تُناقشها وثائقيات جديدة من منظور مختلف يحفز العقل على معاينة أمر الطاقة من زوايا مختلفة كما يقترح علينا النمساوي هيوبرت كانافال في فيلمه “سُلطة الطاقة” والذي ينطلق من سؤال جدلي: إذا كانت الطاقة البديلة خلاصاً للبيئة من خرابها فلماذا لا نتجّه الى استخدامها وينتهي الأمر؟ ليجيب على السؤال يقدم أولاً معادلته البسيطة عن علاقة الطاقة والسلطة ثم بعدها يذهب للغوص عميقاً في بحث تفاصيلها انطلاقا من مسلمة أن مَن يمتلك الطاقة يمتلك المال وبالتالي السُلطة.

 للتوصل إلى هذا الإستنتاج المنطقي احتاج هيوبرت كانافال أن يقطع مساحات شاسعة من الكرة الأرضية ـ من القطب الشمالي مروراً بأوروبا ووصولاً إلى القاهرة في القارة الأفريقية ـ لكي يضعه موضع نقاش، ورفض قبوله كمُسلَّمَة، صنع هذا الفيلم، مقترحاً معاينة أخلاقية للآثار التدميرية التي تتركها هذه الرغبة الجامحة للسيطرة على الطاقة وللحصول على مزيد من المال والسلطة على حساب البيئة والإنسان.
 يُحاجج “سلطة الطاقة”، بمنطق قوته التعبيرية السينمائية المدهشة، بسؤال مُلحّ يقول “ما دامت هناك بدائل للطاقة التقليدية (النفط والغاز أهم عناصرها) والتي وضعت العالم على شفا الانهيار البيئي، فلماذا لا نأخذ بها ونُنهي المشكلة برمتها؟

سيدخل كانافال وفريق عمله في تفاصيل البحث عن الإجابة أو على الأقل الدنو منها من خلال مسح للحالة “الصحية” المتدهورة للأرض مدعوماً بمشاهد مدهشة، قلّ نظيرها، تُظهر تقزّم الأراضي الشاسعة أمام ضخامة وعملقة أماكن الحفر والنقل في كل مكان في البحار واليابسة، ليضع بعدها سؤالاً جديداً عن دور الحكومات والسياسيين في الحدّ من اندفاع شركات النفط والطاقة ومن عبثهم المطلق بالأرض.

واحدة من استنتاجاته المذهلة أن أغلبية الحكومات تقف في المنطقة “الرمادية”، فهي ليست مع الشركات علناً ولكنها تسكت عنها وعن أفعالها بل وتدعمها بقوة حين تحين اللحظة التي تتطلّب التدخل لحمايتها! فهناك في هذا الحقل تجري حروب حقيقية غير مُعلنة بين الدول التي تمتلك شركاتها العالمية مصادر الطاقة لهذا تمنحها الحكومات حمايتها العسكرية والأمنية، كما سجلتها عدسات كانافال برؤية صانع الأفلام النبيه. وحتى يُوسّع من حقل بحثه، يذهب إلى عرض تجارب محدودة، بعضها شخصي، في النمسا وألمانيا ودول أفريقية لإيجاد بدائل للطاقة التقليدية أو ما يسمى بـ “المستدامة” و”صديقة البيئة” وغيرها. لكنه سيتوصل إلى أن كل هذا، على أهمّيته، لن يجدي نفعاً، إذا لم تتغيّر العقلية الربحية لأصحاب الشركات الكبرى وإذا لم يتحرّر سوق الطاقة من مركزيته.

لعنة السدود

على مستوى مقارب يذهب فيلم “لعنة السدود” ليطرح فكرة مغايرة ومتناقضة عما يعرفه البشر عن السدود وتأثيراتها السلبية على البيئة من منظور جديد يراعي فيه التناقض الموجود بين الشعور بالفخر القومي لبنائها وبين التفكير في التخلص من بعضها وليس الدعوة إلى وقفها نهائيا انسجاماً مع واقع الحال وليس مع المفترض والذي يبدو في أحيان كثيرة أنه يتساوق مع حدود الطموحات الطوباوية كما يقدمها الأمريكيان بن نايت وترافيس رامل اللذان ينطلقان من وصف الشعور الذي تولدّه السدود عند ناظريها وما تتركه من رهبة وإعجاب بقدرة الإنسان على الخلق وتحدي الطبيعة.

فبالنسبة للأمريكيين، كان يصاحب بناءها على الدوام إحساس بالتفوّق وبعظمة أمة تفخر بأنها، وخلال أقل من قرن من الزمن، بنت أكثر من 75 ألف سدٍ، وبالتالي فإن الحديث عن سلبياتها وما تتركه من أثر مدمّر على البيئة لا يجد طريقه إلى عقول الناس ولا يتقبلون مناقشته بالسهولة عينها التي يتقبلون بها مناقشة بقية المواضيع الإشكالية ذات الصلة بالبيئة والطاقة.

 من هذه الحقيقة انطلق المخرجان بِن نايت وترافيس رامِل لتأسيس فكرة فيلمهما الوثائقي “لعنة السدود” الذي أراداه أن يكون سجلاً بصرياً أكثر منه موضوعاً سجالياً. منجز أقرب إلى ألبوم صور يسرد قصة السدود كما هي: عظمتها الهندسية ومردوداتها الكبيرة ولكن أيضاً الخراب الذي تُحدثه في الطبيعة!. سيتوقف المعنيون بصناعة الفيلم الوثائقي أمام خلاصة منجزهما طويلاً، لأن “لعنة السدود” وبحق تحفة بصرية نادرة، درس في التصوير والمعنى الحقيقي لمفهوم الوثائقي السينمائي.
 كل لقطة فيه لوحة تشكيلية مبهرة، إلى درجة سيتنحى فيها المتن الحكائي لصالح الجمالي وبه يمضي الفيلم، مخاطباً الضمائر، مقترحاً فكرة التخلص من السدود القديمة، الآن على الأقل، وفيما بعد الذهاب أبعد في مطالبته الحدّ من الاندفاع المحموم لبنائها. يبني المخرجان الأمريكيان حجتهما في رفض الارتهان الكامل لرغبات السياسيين ومراضاة طموح رأس المال بالرجوع إلى تاريخ المعارضين لإقامتها من دون تمحيص شديد في نتائجها الخطيرة، من سياسيين وعلماء ونشطاء بيئيين.
 وعلى المستوى الآني، يرافق الشجعان من رسامي الغرافيتي في مغامراتهم وهم يعلنون من داخل دوامات المياه الحبيسة المخيفة ما يريدون قوله رسماً في خطر السدود ولعناتها والطاقة ومشاكلها التي يمكن القول أنها قد قُدمت في هذين الوثائقيين بشكل مختلف من حيث الشكل والمضمون واللذان يطرحان بدورهما سؤالاً سينمائياً عن قدرة الوثائقي على التوافق مع كل ما يحدث ويتطور على الأرض.