“الطلب الأخير”.. رحلة لتحقيق أمنية الأب الأخيرة القاتلة

ينطوي فيلم “الطلب الأخير” (The Last Thing He Wanted) للمخرجة الأمريكية “دي ريس” على مساحات غامضة لم تتكشّف للمتلقّي بسهولة، ومردّ ذلك الغموض يعود إلى صعوبة رواية “الطلب الأخير” للروائية الأمريكية “جوان ديديون” التي اقتبست وحولت إلى فيلم روائي يجمع بين الجريمة والدراما والغموض، من دون أن يهمل المشهد السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية ونقيضه في دول أمريكا الوسطى، وخاصة نيكاراغوا وكوستاريكا والسلفادور.

فالرواية الأصلية قائمة على البحث والتحرّي والنَفَس الاستقصائي، وهو الأمر الذي يستدعي بنية سردية عسيرة ومستعصية لا تنجلي عتمتها إلا في المَشاهد الأخيرة من الفيلم الذي اشترك في كتابة قصته السينمائية وحواره “ماركو فيلالوبوس” والمُخرجة “دي ريس” التي وجدت في هذه الرواية أصداء قوية لأفكارها الأنثوية المتحررة، فسمحت لها أن تتسرّب على شكل لقطات أو مَشاهد بصريّة محدودة.

مستنقع المافيا والمخابرات.. صفقة أسلحة في سان خوسيه

لكي نسبر أغوار هذه القصة السينمائية ونفكّ ألغازها وطلاسمها، ونؤوِّل ما يستعصي منها على المُشاهد العادي -الذي يميل إلى القواعد المنطقية، ولا يستسيغ تجاوزها أو الخروج عنها- فلا بدّ أن نعيد التسلسل السردي إلى نسقه الخطّي المستقيم، حيث تتوقف صحافية مُحنّكة عن تغطيتها للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1984 أثناء مساعدتها لوالدها العليل الذي نُقل إلى المستشفى إثر مرض مفاجئ ألمَّ به وأفقده التركيز.

وبينما تمنعه ابنته “إيلينا” من مغادرة المستشفى يطلب منها “الطلب الأخير”، وهو أن تلعب دور الوسيط وتُوصل صفقة الأسلحة إلى سان خوسيه في كوستاريكا وتستلم النقود، ثم تقفل راجعة إلى وطنها وبيتها الأسري الذي تشتّت هو الآخر، وما إن تصل إلى هناك حتى تتحوّل إلى ضحيّة لمروّجي الأسلحة وتجّار الحروب والمخابرات الأمريكية التي تبثُّ أذرعها وعناصرها السريّة في بلدان أمريكا الوسطى برمتها.

الصحفية الأمريكية “إيلينا” تزور والدها “ديك مكماهون” الراقد في أحد المستشفيات الأمريكية

تجاوز الخطوط الحمراء.. ظلال المؤلف

تمزج قصة الفيلم بين الذات والموضوع، خاصة أنّ السيناريو لم يتخلّص كليا من أسلوب الصحافة الجديدة الذي تتبعه “جوان ديديون” في كتابة أعمالها الروائية التي تسعى فيها إلى توصيل الحقائق بواسطة السرد والتقنيات الأدبية الحميمة، ولا ترى ضيرا في زجّ ذكرياتها الشخصية، ومشاعرها الذاتية عبر الراوية أو الساردة.

من هنا لا بد أن نضع في الاعتبار أنّ شخصية “إيلينا مكماهون” -التي جسّدتها بإتقان شديد الفنانة الأمريكية “آن هاثاواي”- تحمل بعض خصال وهواجس مؤلفة الرواية الأصلية، وتتقبّل الكثير من آرائها المتجاوزة للخط الأحمر، فلا غرابة أن تستمع لأبيها يتحدث بلغة ساخرة عن المِثليين في المجتمع الأمريكي، من دون أن يحرّك فيها ساكنا وكأنها تستمع لأحاديث عادية وعابرة.

ثنائية الانفصال والإهمال.. إشكالية التفكك الأسري في المجتمع الأمريكي

قبل أن نخوض في شخصية “إيلينا” نفسها لا بد من التوقف قليلا عند شخصية الأب “ديك مكماهون” (الفنان ويليام دافو) الذي يتاجر بالأسلحة بعد انفصاله عن زوجته وارتباطه بشخص آخر لا يسمح له أن يتواصل معها هاتفيا.

نرى الأب “ديك” على مدار الساعة الأولى من الفيلم منغمسا في حياة ماجنة، إذ يلهو ويعربد كما يشاء، لكنه ظل أرملا ولم يتزوج مرة ثانية، كما أنه لم يتوقف عن الحلم بالثروة الطائلة التي تأتيه بطرق غير قانونية، وأولها تهريب الأسلحة إلى المنظمات اليسارية في أمريكا الوسطى.

ولو دققنا في الفكرة الذاتية الأولى لوجدناها تتمحور حول التفكّك الأسري في المجتمع الأمريكي، فمثلما انفصل “ديك” عن زوجته وسبّب مشاكل كثيرة لابنته، ونتيجة لذلك ستنفصل “إيلينا” عن زوجها وتسبب العديد من المشاكل ومركّبات النقص لابنتها “كات”، رغم أنها تدرس في مدرسة داخلية تحتوي على إسطبلات خيل ومسرح يوناني، لكنها لم تأخذ بنظر الاعتبار أنّ هذه الابنة وحيدة ومنكفئة على ذاتها وتعيش في الجزء الشمالي من البلاد.

“إيلينا مكماهون” رفقة صديقتها “ألما غيريرو”، حيث توثِّقان المجازر الجماعية التي وقعت في السلفادور

“ذي أتلانتك بوست”.. مسيرة امرأة عصامية

يلاحظ المتلقي أنّ “إيلينا” شخصية شجاعة وعنيدة ومندفعة، وقد اعتمدت منذ انفصال أبويها على نفسها، فقد تدبّرت أمر تخرّجها من المدرسة الثانوية، ثم واصلت دراستها الجامعية بنجاح، وسددت الأقساط بنفسها من دون أن تعتمد على الأب الضال الذي يلهث خلف أحلامه المادية المستحيلة.

تعمل “إيلينا” في صحيفة “ذي أتلانتك بوست”، وتمتلك خبرة واسعة في الصحافة الاستقصائية التي تحاول الوصول إلى المعلومات بشتى الطرق، وقد رأيناها في اللقطات والمَشاهد الافتتاحية في الفيلم توثّق بالكتابة والتصوير عددا من المجازر التي وقعت في السلفادور، بينما يقوم أعضاء من “جبهة فارابندو مارتي للتحرير الوطني” بمناورات لحماية عدد من القرى السلفادورية التي يُحتمل أن تتعرض لغارات مفاجئة قد تُفضي إلى ما لا تحمد عقباه.

الصحفية إيلينا تبدأ في مهمة البحث عن ثمن الصفقة، علما بأنها المهمة التي أوكلها إليها والدها

تسرب الأسلحة الأمريكية.. هيمنة الفساد الإداري والسياسي

يمكننا القول إنّ الفكرة الثانية المهيمنة على قصة الفيلم هي الفساد الإداري والسياسي والعسكري على أعلى المستويات، فلولا كل ذلك مجتمعا لما تسرّبت الأسلحة والذخائر الحيّة والألغام من الولايات المتحدة إلى أمريكا الوسطى.

وقد رأينا في هذا الفيلم إشارات واضحة وصريحة إلى جماعة “الكونترا” المدعومة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية والمُعارِضة للاشتراكية الساندينية وقد ارتكبت هذه المنظمة انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان، كما نفّذت مئات العمليات الإرهابية في بلدان أمريكا الوسطى التي يهيمن عليها اليسار الماركسي.

أما الفكرة الثالثة التي يمكن أن نتلمسها بقوة في هذا الفيلم فهي السياسة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية وقد رأينا كيف يتلعثم الوزير الأمريكي “جورج شولتز” (الممثل جوليان غامبل) وهو يجيب على أسئلة إيلينا عن الألغام التي زرعتها الولايات المتحدة الأمريكية في مرافئ نيكاراغوا.

الصحفية “إيلينا مكماهون” تسلم صفقة الأسلحة البالغة مليون دولار لأحد العملاء في مشارف سان خوسيه في كوستاريكا

شتات بين الأب والبنت.. أمران أحلاهما مر

تتشتت “إيلينا” بين أمرين أحلاهما مرّ، بين أبيها الذي يطلب منها الذهاب إلى سان خوسيه في كوستاريكا لتسليم البضاعة وجلب النقود، وبين ابنتها الشابة “كات” التي تعيش لوحدها في شمال البلاد، وبما أنّ والدها يبدو وكأنه مقطوع من شجرة، ويعاني في المستشفى من مرض أفقده الذاكرة والتركيز حتى أنه ينادي ابنته باسم حفيدته، فإنها نتيجة لذلك تقرر الذهاب إلى سان خوسيه وتسقط في المتاهة.

لا تفرّط “إيلينا” بالمليون دولار ثمن الصفقة، فقد اقترض والدها نصف هذا المبلغ وبنى أحلامه عليه، لكن المنيّة عاجلته تاركا ابنته الوحيدة في مهب الريح. تذهب إيلينا مع “جونز” (الممثل إيدي غاثيغي) أول الأمر ثم تكتشف أنه طامع بها جسديا، لكنها تخطف البندقية وتتخلص منه وتطرده من السيارة بعد أن تتعرّف على نواياه السيئة.

“تريت موريسون”، وهو أحد الأذرع المخابراتية الأمريكية الذي يلاحق إيلينا أينما حلّت أو ارتحلت

النوم في أذرع المخابرات.. لغز الفيلا الغامضة

تتفكّك خيوط القصة السينمائية حينما نكتشف واحدا من الأذرع المخابراتية الأمريكية، وهو “تريت موريسون” (الفنان بن أفليك)، وقد رأيناه في مطعم الفندق الذي توجد فيه “إيلينا” لأنه كان يراقبها بدقة، وقد تطورت علاقتهما بشكل سريع.


تنفتح القصة على أجواء ومناخات جديدة حينما يبعثها “تريت موريسون” إلى صديقه “بول شوستر”، الشخص المِثلي الغريب الذي يعيش لوحده في فيلا منعزلة، فيستقبلها باسمها الجديد “إليز مايَر” ويكلّفها بمهام بسيطة تبدأ يوميا من الساعة العاشرة صباحا حتى الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، وعليها أن تشتري الفاكهة والصحف اليومية من سوق هيريتج، وتقوم بمسح كراسي المسبح وغرفة الطعام، ثم تقضي بقية وقتها مثلما تريد، حيث شاهدناها وهي تكتب أكثر من مرة وتتواصل مع صديقتها “غيريرو” وتحيطها علما بكل التطورات الجديدة التي تطرأ على حياتها الغامضة التي بدت مثل لغز عويص.

وأثناء وجودها في فيلا “بول شوستر” تنتابها الشكوك من مجيء بعض الزوار، فتهرب إلى منزل “تريت موريسون” الذي حذّرها من الاتصال به هاتفيا أو المجيء لشقته، لكنها تتجاوز هذا التحذير وتأتيه بما لديها من مخاوف وشكوك، ليطمئِنها ويعدها بالسفر في اليوم الثاني.

المِثلي “بول شوستر” يروي لإيلينا جانبًا من ذكرياته الذاتية والعملية في فيلا منعزلة

من شرفة المنزل إلى أمواج البحر.. لقطة تختزنها الذاكرة

بعد ذهابها إلى “تريت موريسون” تعود “إيلينا” إلى الفيلا وتواصل روتينها اليومي وسماعها للقصص التي يرويها “بول” عن نفسه، وناديه الليلي الذي يجتمع فيه التجّار والصحفيون وكبار الممثلين، وكان مقتنعا جدا بالعائدات المالية التي يدرّها عليه هذا العمل الرومانسي الجميل كما يسمّيه.

لكنه لم يشر إلى صفقات الأسلحة والمخدرات وكل الممنوعات الأخرى التي تقترن بمخالفة القانون في كل مكان، فلا فرق بين باريس وسان خوسيه وفلوريدا حينما يتعلّق الأمر بالممنوعات والتصفيات الجسدية التي سنراها في خاتمة الفيلم من دون أن نعرف الأسباب الحقيقية بالتفصيل؛ لأن أسلوب الصحافة الجديدة الذي أشرنا إليه سلفا لا يُعنى كثيرا بالتفاصيل الصغيرة والنُتف العابرة التي يتركها الكُتّاب لعقلية القراء ومَلَكاتهم الكبيرة بعيدا عن التلقين والإملاءات.

إنّ مقتل “بول شوستر” الغامض، أو الذي لم نرَه على الأقل هو دليل واضح على أنّ أذرع المخابرات المركزية الأمريكية قادرة على أن تصل لأي مكان تريد الوصول إليه، ومثلما قُتل “بول” يأتي “تريت موريسون” ليقتل “إيلينا” ويضع حدا لحياتها في مشهد سينمائي يصعب نسيانه حيث تسقط على ظهرها من شرفة الفيلا إلى وسط أمواج البحر، رغم استحالة هذه اللقطة واقعيا لأن الفيلا تبعد عن حافة البحر مسافة بعيدة نسبيا، لكنّ رمزية المخرجة هي التي قرّبت البحر وسحبته إلى أسفل الفيلا، وجعلت هذه اللقطة السريالية ممكنة الحدوث.

الصحفية إيلينا مكماهون تختصر ما حصل لها بصوتها بالقول إنها أرادت أن تعرف من فضّل المال على الحياة

رصاصة طائشة.. قتل شلال الأسئلة المتدفق

لا ينتهي الفيلم بهذه اللقطة الساحرة التي كشفت لنا القاتل الحقيقي “تريت موريسون” الذي قدّم للمحكمة صورة مغايرة تنطوي على أكاذيب كثيرة من بينها أنها “حينما استدارت أطلقت عليّ النار، وجرحتني في الكتف، فبادلتها إطلاق النار وقتلتها، لقد عرفتْ أننا أمسكنا بها، فاتضحت الأمور كلها، ولكن هذا لن يُعيدها إلى الحياة ثانية”، وحينما سأله القاضي: “لماذا قتلتها؟” أجاب: “لا أعرف الإجابة على هذه المأساة، وهي آخر نتيجة قد يرغب فيها أي أحد”.

ربما يختصر التعليق الصوتي الذي سمعناه بصوت “إيلينا” جانبا من هذه الحكاية المُفجعة حيث تقول: أردتُ أن أعرف من فضّل المال على الحياة، والفولاذ والرصاص على الدم والروح، من الذي تجاهل الأحياء، من سمح للمسافة والفوارق الأساسية بأن تُقرّر من يُترَك لينزف حتى الموت، ومن يُنقل بالطائرة إلى برّ الأمان، من حرّض على الحرب، ومن هو المُستفيد، ومن هو القاسي المجرّد من الروح؟

لقد أرادت أن تعرف السبب وراء كل ذلك، لكن الرصاصة التي استهدفت قلبها كانت أسرع من شلّال الأسئلة الذي يتفجّر في ذهنها المتوقد.

وفي ختام هذا المقال لا بد من الإشارة إلى أن المخرجة الأمريكية دي (داياندريا) رِيس المولودة عام 1977 في ناشفيل في تينيسي قد أنجزت خمسة أفلام روائية طويلة من بينها “الخلاص النهائي” و”المنبوذة” و”بيسي” الذي يتمحور على المطربة الأمريكية “بيسي سميث”.

كما أنجزت ثلاثة أفلام قصيرة أبرزها “القوس البرتقالي” إضافة إلى عدد من المسلسلات التلفازية، وقد حصدت أكثر من عشرين جائزة في مهرجانات محلية وعالمية تقديرا للمساتها الفنية، وجرأتها الأدبية في طرح الموضوعات الإشكالية من دون الشعور بالخوف والتردد والخجل.