“الفرس البري”.. ترويض الغضب وانعتاق الذات

“ما تعلمته من الخيول هو الصبر والحب والرعاية والثقة، فعندما تأتي هذه الخيول لأول مرة تكون مشكلتها هي الثقة بمن حولها، مثلما جئتُ إلى السجن لأول مرة”.. بهذه الكلمات يصف أحد السجناء في سجن ولاية أريزونا الأمريكية علاقته مع الخيول البرية التي يقوم بتربيتها داخل السجن.

في الفيلم الفرنسي البلجيكي “الخيل البري” The mustang) 2019) (عرض في الدورة الأخيرة من مهرجان صاندانس السينمائي الدولي) تستلهم المخرجة الفرنسية “لور دي كليرمون تونير” من العلاقة الفريدة بين السجناء في سجون الغرب الأمريكي والخيول البريّة قصة فيلمها المُستند إلى قصص حقيقية دارت وقائعها ضمن برنامج تأهيل الخيول البرية المُقام سنويا في الولايات المتحدة، وذلك للاستفادة من هذه الخيول التي تُشكل ثروة طبيعية حقيقية، وتُشكل في الوقت ذاته عائقا للتنمية والعمران، لذلك يُرسل عددا من هذه الخيول إلى السجون ليتم تدريبها من قِبل السجناء، ومن ثم يتسنى بيعها في المزادات العلنية.

قد يبدو الفيلم للوهلة الأولى وكأنه يتعرض للعلاقة بين الإنسان والحيوان، لكنه يحوي بين طياته العديد من الأفكار عن النفس الإنسانية وما تحتويه من مناطق مضيئة تكتنفها الظُلمة، وعن متاهات النفس ودروبها التي لم تُكتشف بعد، وهل يُمكن للإنسان أن يولد من جديد ويُعاد بناء كيانه مرة أخرى؟ وما مدى قدرة الفرد على التصالح مع ماضيه؟ كل هذه الأفكار والأسئلة يتعرض لها سيناريو الفيلم الذي اشترك كل من “منى فاست فولد” و”بروك نورمان” في كتابته مع المخرجة.

تدور الأحداث في إطار ويسترن (غربي أميركي ، حيث تدور الأحداث في صحراء الغرب الأميركي) عن “رومان كولمان” (ماتياس شوينيرتس) الذي يقضي عقوبة السجن إثر الاعتداء بالضرب المُبرح على زوجته وإصابتها بالشلل، حيث يُنقَل حديثا إلى أحد سجون ولاية أريزونا، وهناك يلتحق ببرنامج تأهيل الخيول البرية، لتتغير حياته وتتبدل نحو منحى آخر.

عالم حُرّ.. مُحاصر

يبدأ الفيلم بمشاهد متفرقة للخيول البرية وهي مُسترخية، أو وهي تتغذى على الأعشاب في الصحراء والجبال التي تُحيط بها، وتُركز حركات الكاميرا المُقرّبة على وجوه الخيل البديعة وهي تتهادى في دعة، لكن هذا الجمال لا يدوم كثيرا، إذ تقترب مروحية بأزيزها المنفّر من قطعان الخيول المتناثرة لجعلها تركض في خوف، لتتجه تلقائيا إلى المصيدة دون أن تدري، ثم يحتجزها بعد ذلك بعض الأفراد داخل مساحات محاصرة بالأسوار الحديدية العالية.

هذا التمهيد المبدئي كان ضروريا قبل الولوج لأرضية الحكاية، وكأنه يُقدم ويُعرفنا على أبطال الفيلم، فالخيول هنا تتقاسم البطولة مع الممثلين، كما أنه -وهذا الأهم- قدّم لنا إحدى عوالم الفيلم؛ عالم الحرية التي تُعايشها الخيول، لكن الإنسان يأبى أن يترك هذه المخلوقات، فلا بدّ أن تُعاني هي الأخرى مثلما يُعاني.

الفيلم يبدأ بمشاهد متفرقة للخيول البرية وهي مُسترخية، أو وهي تتغذى على الأعشاب في الصحراء والجبال التي تُحيط بها

نجد أن الفيلم يُدخلنا في صميم أحد أفكاره، وهي الإنسان وعلاقته مع الطبيعة، فهذه الخيول التي تُشكل جزءاً أصيلا من الطبيعة يُفكر الإنسان في اقتناصها ليجني من ورائها المال، وذلك عن طريق تدريبها وتأهيلها لبيعها في المزادات العلنية، ليبدو الجميع الإنسان والحيوان وكأنهم يدورون في نفس الفلك؛ دائرة العبودية التي لا ترحم.

بين عالمين

اختار السيناريو أن تدور الأحداث بين عالمين:

العالم الأول وهو العبودية ويُمثله البطل وباقي السجناء المحتجزين داخل السجن حيث يقبع المجرمون، أو كل من له صلة بجرائم العنف التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالغضب، حيث يُعاد تأهيلهم مرة أخرى حتى يتمكنوا من الاحتكاك بالعالم مرة أخرى حين خروجهم، ليبدو هذا العالم موحش يثير الانقباض، مثل الزنزانة التي يعيش فيها بطل الفيلم “رومان كولمان” التي تبدو ضيقة ومُهملة، وأيضا زميله السجين الآخر يبدو وكأنه يدّخر شرّ العالم بداخله، وذلك بملامحه المنُفرة ونظراته التي لا تحوي سوى الغلّ والحقد.

أما العالم الآخر فهو الحرية التي تُمثلها الخيول، وقد عبّر السيناريو عن شخصية الخيول الفريدة التي تمزج بين النقاء والطهارة والجموح والانطلاق من خلال “ماركيز”، وهو الحصان الذي يرعاه البطل، ليتماسّ العالمان وتتقاطع مصائرهما. هذا التضاد الذي يتلاقى أحيانا؛ ساهم في تدعيم فكرة الفيلم وتضمينها العديد من التأويلات التي تستحق التأمل.

ففي أحد المشاهد نرى “رومان كولمان” وهو يجمع روث الأحصنة ليُنصت فجأة لصوت ارتطام أحد الأحصنة داخل الحظيرة، فيتقدم كولمان نحو الحظيرة ليستطلع الأمر، فيجد إحدى الخيول الغاضبة ترطم رأسها بقوة بباب الحظيرة آملة بانفتاح الباب الحديدي علّها تتمكن من الهرب، ليقع كولمان في أسر حبّ هذا الفرس الجامح الذي يبدو وكأنه يتشابه معه.

غضب وجموح

في مشهد من مشاهد الفيلم نرى كولمان أثناء حضوره إحدى الجلسات النفسية التأهيلية قبل الإفراج عنه يبدو هادئا للغاية، حيث يقول للأخصائية النفسية “لستُ جيدا في التعامل مع الناس”، ويطلب الرجوع لزنزانته رافضا استكمال الحديث، لتصبح هذه الجملة كاشفة للغاية عن شُحنة الغضب التي يحملها كولمان تجاه العالم المحيط به، حيث يشعر وكأن هذا العالم عدو له، وبالتالي لا يوجه له سوى الغضب والرفض، فكل هذا الغضب ليس إلا رفضا مُستترا لعدم قدرته على التفاعل والتصالح معه.

ومن هنا تتضح طبيعة الصراع، فالصراع داخلي نفسي يلعب على تنويعات النفس الإنسانية وما تكنّه من مشاعر سلبية وغضب وأحيانا أخرى كراهية، هذا الصراع الداخلي ينعكس بشكل أو بآخر على الخارج، فالنفس تتأثر، وقد تترك ذلك الغضب يتفاقم، أو أنها تكبح ذلك المارد اللامرئي، وبالتالي نُصبح أمام سؤال جوهري: هل سيتعافى كولمان من ذلك الغضب العارم المُسيطر عليه، أم ستُكمل دوامة نفسه دورانها وسقوطها الدائم؟

في أحد المشاهد التي تصور اللقاءات الأولى بين كولمان والفرس ماركيز، نرى الفرس وهو يركض داخل مساحته الخاصة المُحاطة بالسياج الحديدي، وحينما يدخل كولمان داخل الحظيرة يرفضه الفرس ويبدأ بالصهيل بقوة والاندفاع المحموم نحو كولمان، فينفعل كولمان ويصيح في وجه الفرس ويهم بضربه بقسوة، ليصبح ذلك اللقاء بمثابة قوة دافعة للأحداث إلى الأمام، ومع تطور علاقة كولمان بالفرس يظهر كولمان وكأنه شخص آخر غير الذي رأيناه في بداية الأحداث، كما أن “ماركيز” الفرس هو الآخر يصبح فرسا آخر غير ذلك الفرس الجامح المُشتعل غضباً.

كلاهما يحتاج الآخر ويؤثر فيه، كلاهما يُكمل الآخر ويعوض النقص لديه، ففي مشهد من أرقّ مشاهد الفيلم نرى بداية توطد العلاقة بينهما، وذلك حينما يجلس كولمان مُتعباً بعد محاولاته المتعددة لترويض الفرس، ليأتي الفرس من الخلف مُحتضناً كولمان برأسه، وكل منهما يحتضن الآخر، لتصبح هذه العلاقة بينهما ليست فقط لترويض الفرس، لكنها أيضا لترويض نفس كولمان المُكبلة بالغضب، لتؤتي هذه العلاقة الفريدة أكلها.

علاقة “رومان كولمان” مع الفرس علاقة مصيرية عبر مراحلها المُتعددة وتقلباتها، فقد كانت تدفعه وتحثه على انعتاق ذاته وولادتها من جديد

وفي مشهد لكولمان أثناء زيارة ابنته في السجن نجده يُخبرها ووجهه يكاد يبتسم للمرة الأولى، وملامحه تصبح أقل حِدة من ذي قبل قائلا “لقد تمكنت من ترويض فرس”، لتجيبه باستهتار “وهل هذا شيء يستحق أن تُخبرني به؟”، لتأخذ علاقة كولمان بالفرس بُعداً رمزيا، ليصبح الفرس وكأنه مُعادلاً لنفس كولمان التي لا يملك القدرة على ترويضها، فحينما يُخبر ابنته بأنه قد روّضَ فرساً، فهو في حقيقة الأمر يُخبرها بأنه قد روّض ذاته المُشبعة بالغضب.

تحرر الشخصية

تدور أحداث الفيلم حول شخصية “رومان كولمان”، فهو المحور والمركز الذي نُسجت من حوله خيوط السرد، وبالنظر إلى الشخصية نجد أن السيناريو جنح إلى الغموض نوعا ما، فالمعلومات عنها تبدو شحيحة خاصة في أول الفيلم، وعلى امتداد خط الأحداث يمدنا السيناريو على فترات ببعض المعلومات عنها حتى تكتمل قُرب نهاية الفيلم.

رسم السيناريو الشخصية وكأنها ترغب في العزلة بعيدا عن هذا العالم الذي يرى أنه غير مؤهل للتعامل أو الاحتكاك معه، حيث يقضي عامه الـ12 داخل السجن بعد الاعتداء الوحشي على زوجته التي أصابها بالشلل الكلي، لتسير حياته داخل السجن بوتيرة مُنتظمة لا تخلو من رتابة.

ورغم ملامحه الهادئة فإن بداخله غضب مُستعر نحو العالم أجمع، حيث يرفض الإفراج عنه أو الخروج للحياة الطبيعية، لذلك عندما يلتقي بالفرس الجامح الذي أطلق عليه اسم “ماركيز” يجد أن نفسه تتلاشى عنها الغضب شيئا فشيئا، وكلما قلّ غضبه تَمكن من السيطرة على الفرس أكثر حتى يندمجا تماما ويُصبح الخيل وفارسه واحدا لا يتجزأ.

وبالتالي نجد أن علاقته مع الفرس علاقة مصيرية عبر مراحلها المُتعددة وتقلباتها، فقد كانت تدفعه وتحثه على انعتاق ذاته وولادتها من جديد.

بين الظلام والنور

أثناء المزاد العلني يُبدي الفرس تذمره من الوقوف ويرغب في الركض بعيدا، وحينما يلج كولمان ساحة العرض وهو على ظهر الفرس ويبدأ في الدوران حول الساحة الدائرية؛ يُلقي الفرس كولمان من على ظهره ويبدأ في ركله بقدمه ويديه، ويُصيب كولمان بإصابات بالغة في رأسه.

قد تبدو فعلة الفرس غير مفهومة أو تحوي نوعا من الغدر بصاحبه، لكن مع مسار الأحداث سيتضح المبرر الدرامي، فالفرس يرغب في البقاء رفقة صاحبه، لذلك تُقرر إدارة السجن إلغاء البرنامج الخاص بتأهيل الخيول بعد هذه الحادثة، ويُقرروا التخلص من الخيول المُتبقية، ليأتي المشهد الأبرز حينما يُهرِّب كولمان الفرس ويُحرره من أسره، لكنه في حقيقة الأمر يُحرر ذاته هو أيضا.

في المشهد الأخير نرى “كولمان” يقبع في الحبس الانفرادي عقابا له جراء فعلته بتهريب الفرس خارج السجن، لكن ملامحه تبدو مُنفرجة ومُتهللة، لتصبح الإضاءة في هذا المشهد رغم الزنزانة الضيقة مُركزة بالكامل على وجهه، فضوء الشمس يغمر المكان، على عكس زنزانته الأولى التي كانت الإضاءة القاتمة تُخيم عليها، ليقف كولمان وينظر من النافذة الضيقة فيجد الفرس البري “ماركيز” وهو ينظر نحو زنزانته وكأنه ينتظر خروجه وتحرره من أسر المكان الضيق لأفق أرحب، ليطرح الفيلم رؤية بانورامية عن النفس الإنسانية وما تكنّها من مناطق مُضيئة وأخرى مُظلمة تستدعي التأمل والتحرر أيضا.