الفن السابع.. تاريخ طويل من الصدام مع السلطة

الفنان المصري هشام عبد الحميد

من قديم الزمان وعلاقة الفن بالمجتمع يشوبها التوتر في معظم الأحيان، وكذلك يشوب هذا التوتر علاقة الفن بالسلطة. ولعل هذا الأمر طبيعي نظرا لطبيعة معنى ومفهوم الفن الذي يتطرق لتابوهات الجنس والدين والسياسة، ولهذا كان الصدام وما يزال ولن يزال ما دام الخوف من حرية التعبير معشعشا في رأس الرقيب.

نتعرض هنا لمعاناة صانعي الفن السابع وصدامهم مع السلطة، ومنع هذه السلطات لهذه الأعمال، حيث أخذ المنع أشكال متعددة، منها المنع النهائي أو الإجازة مع الحذف أو إجازة العمل مع التدخل به بشكل غير مباشر مثل تأخيره عن العرض الذي قد يمتد لسنين. نستعرض هنا بعض هذه الأعمال مرورا ببعض الفترات التاريخية.

 

“لاشين” والحرب الضروس

أُنتج فيلم “لاشين” عام 1938 عن قصة الكاتب الألماني فون ماين، وسيناريو ستيفن هاوس، وعمل على النسخة العربية للسيناريو المخضرمين أحمد رامي وأحمد بدر خان، وأخرجه “فريتز كرامب”.

تدور قصة الفيلم حول “لاشين” القائد الأعلى الذي يقود حربا ضروسا على المنشقّين عن سلطان البلاد، فينتصر عليهم ويعود ظافرا مُنتصرا إلى أرضه، ليهدي إلى السلطان جارية جميلة بهذه المناسبة السعيدة.

يتمتع “لاشين” بحب الناس وثقة السلطان الذي كان ضعيفا مُهتما بشهواته أكثر من أمور الحكم والرعية، فترك مهمة رعاية السلطنة إلى رئيس وزرائه الشرير الذي كان يدأب على حياكة المؤامرات في الظلام ضد لاشين والسلطان معا.

كان رئيس الوزراء ذاك ينهب قوتَ الشعب، وقد توصل إلى حيلة للوقيعة بين السلطان و”لاشين” القائد العام، وذلك بإيهام السلطان بأن جاريته أحبت “لاشين”. في الوقت نفسه حذّر شيخ له حظوة في بلاط السلطان بأن البلاد ستمر بمجاعة، وأن على الشعب والسلطان أن يحتاطوا لهذا الأمر، لكن رئيس الوزراء أقنع السلطان بوجوب إعدام الشيخ، وبالفعل فقد تم له ما أراد، مما جعل الجماهير تثور، وتتجه إلى قصر السلطان لتطالب بالأموال والطعام بعد أن اعتصرها الجوع.

اقترح “لاشين” على السلطان ضرورة التفريج عن الشعب، ولا سيما أن المغول على الأبواب يتحينون الفرصة للانقضاض على السلطنة والعباد. وبالفعل، يأمر السلطان بإعطاء الشعب ما يريد، إلا أن رئيس الوزراء يُعطّل الإجراءات، ويوغر صدر السلطان ضد “لاشين”، حيث يوهمه أن “لاشين” هو الذي يؤلب الجماهير ضده. ينجح رئيس الوزراء في استصدار أمر بسجن “لاشين”، مما يؤدي إلى إثارة الجماهير أكثر، فتُهاجم القصر وتقتل رئيس الوزراء، وتنجح بالإفراج عن “لاشين”، ليعود ويوّحد البلاد والعباد ضد الخطر الخارجي المُتربّص بها.

في فيلم “لاشين” تمت التعديلات على حذف ما يخص تحديدا قتل السلطان بأيدي الشعب

 

حين قتل الشعب سلطانه.. حذف ورقابة

تحرك مسؤول الرقابة في ذلك الوقت ووكيل وزير الداخلية لمنع عرض الفيلم، وذلك لمساسه بالذات الملكية ونظام الحكم، ولم يشفع للفيلم أنه من إنتاج طلعت حرب، وأن مَنَ وراءه طبقة من المستثمرين والمنتفعين الذين يعيشون في كنف النظام.

توجه مسؤول الرقابة ووكيل وزير الداخلية إلى رئيس الوزراء محمد محمود باشا الذي أحال الفيلم إلى رئيس الديوان الملكي علي باشا ماهر، وتم الاتفاق على إجراء تعديلات وحذف مَشاهد، الأمر الذي رفضه أحمد رامي، وأغضب الفنان أحمد سالم الذي كان يدير إستديو مصر، حيث كانت تُصّور به أحداث الفيلم حينها.

تمت التعديلات على حذف ما يخص تحديدا قتل السلطان بأيدي الشعب، لتغييرها إلى نهاية مختلفة، ولكن راح ضحية ذلك أحمد سالم الذي لُفّقت له قضية وحُبس على إثرها سنة كاملة.

“يعقوب صنوع” الذي شكّل ومسرحه صُداعا دائما للسلطة المصرية

 

المسرح الناقد.. الطريق إلى المنفى

شكّل “يعقوب صنوع” ومسرحه صُداعا دائما للسلطة المصرية، حيث كان يُقّدم مسرحياته بشكل بسيط، لكنه ينتقد الأوضاع السياسية والاجتماعية بشكل ساخر، مما أكسب مسرحه شعبية لا حدود لها.

قدم صنوع في مسرحيات الوطن والحرية نقدا شديدا للأمير حسن ابن الخديوي إسماعيل، وقائد الحملات الحربية على الحبشة، إلا أن القشّة التي قسمت ظهر البعير كانت تقديمه لمسرحية “الضرتان”، وفيها ينتقد تعدد الزوجات ويسخر منه.

كان من المعروف أن الإقطاعيين لهم باع في تعدد الزوجات والجواري وما ملكت الأيمان، وقد انزعج الخديوي من هذه المسرحية، على نحو دفعه بتوجيه رسالة شديدة اللهجة ليعقوب بما معناه: “إنك إذا لم تستطع أنت على زوجتين أو أكثر فغيرك يستطيع”، ثم أصدر أمرا بمنع المسرحية وإغلاق المسرح كله، ونفى يعقوب صنوع إلى باريس.

فيلم العصفور هو فيلم من تأليف وإخراج يوسف شاهين

 

“العصفور”.. وهم الانتصار

فيلم العصفور هو فيلم من تأليف وإخراج يوسف شاهين، وسيناريو الكاتب الكبير لطفي الخولي، وبطولة محسنة توفيق ومحمود المليجي وصلاح قابيل وحبيبة الجزائرية وسيف عبد الرحمن وصلاح منصور.

يدور موضوع الفيلم على ثلاث خطوط متوازية، فالضابط رؤوف مُكّلف بالقبض على المجرم أبو خضر، والصحفي يوسف يُحقق في قضايا فساد تطال الرؤوس الكبيرة في الدولة، بينما بهية تمتهن الحياكة وتمتلك مكانا به غرف متعددة تؤجرها لشرائح مختلفة من الناس.

كل هذا على أرضية من الحدث السياسي الرئيسي هو التعبئة لما قبل 1967 ثم وقوع النكسة، وصدمة الجماهير في النظام وإعلامه الكاذب الذي أوهم الناس أنهم انتصروا، بينما في الواقع كانت الهزيمة مُدوّية، وظهر الرئيس جمال عبد الناصر وأعلن مسؤوليته الكاملة عن الهزيمة وأنه سيتنحى.

 

مُنِع في مصر وعُرِض في الجزائر

عانى المخرج يوسف شاهين مع مؤسسة السينما المصرية ومع جهاز الرقابة، وقد وضعت الرقابة شروطا قاسية للموافقة على السيناريو، وأوصت بحذف مشاهد كاملة، ومع ذلك رفضت مؤسسة السينما إنتاج هذا الفيلم. فما كان من يوسف شاهين إلا التوجه إلى مؤسسة السينما الجزائرية ليخرج العمل إلى النور.

عرض شاهين فيمله أولا في الجزائر، لكن الدبلوماسية المصرية كتبت تقريرا رفعته إلى القيادة بمصر توصي بعدم عرض الفيلم. كان هذا عام 1972، فعرضه يوسف شاهين في لبنان، حيث أحدث جدلا واسعا بين اللبنانيين، وعرضه أيضا رغم المنع بمهرجان “كان”، وأحدث في ذلك الوقت صدى واسعا.

لم يُسمح بعرض الفيلم في مصر إلا بعد حرب أكتوبر المجيدة، وتحديدا عام 1974، وذلك بعد موافقة وزير الثقافة آنذاك يوسف السباعي، وقتها عُرض الفيلم بـ”سينما رمسيس” لمدة خمسة أسابيع، ولم يجنِ من إيرادت إلا خمسة آلاف جنيه.

 

“آخر أيام المدينة”.. قصيدة شعر عن القاهرة

فيلم “آخر أيام المدينة” هو فيلم من إخراج تامر السعيد، وسيناريو تامر السعيد ورشا سالتي، وموسيقى أميلي ليجراند وفيكتور موريس.

يدور الفيلم حول مخرج يرصد ما طرأ على الشارع المصري -على وجه الخصوص منطقة وسط البلد- من تحولات، ويُسجل الإرهاصات التي أدت إلى ثورة 25 يناير، ويُظهر التناقضات الكثيرة التي تضج بها الحياة بالقاهرة، وهي وإن كانت مريرة إلا أنها في النهاية تعبر عن سرّ تفردها وتميزها.

يتعرض الفيلم لحالة عشق للقاهرة، لكنه عشق يُظهرها على حقيقتها دون إفراط أو تفريط، حيث يرى الفيلم القاهرة بدون مساحيق أو رتوش، يراها بصدق الواقع مهما كان عاتما ومؤلما، لكن بقلب عاشق لها.

رغم قسوة التناقضات التي ترويها عيون المخرج وأصدقائه من اللبنانيين والعراقيين وباقي طاقم الممثلين، إلا أن ما يتملكك هو أنك أمام مرثية حقيقية تخاطب قلبك وعقلك ووجدانك على حد سواء. لا شك أن الفيلم صادم في كثير من مشاهده، لكنه حقيقي وصادق في الوقت ذاته.

فيلم “آخر أيام المدينة” مُنع من العرض في مهرجان القاهرة السينمائي

 

مهرجان القاهرة السينمائي.. حماس للعرض ثم منع

في سابقة تُعد الأولى من نوعها مُنع فيلم “آخر أيام المدينة” من العرض في مهرجان القاهرة السينمائي، وذلك بعد أن أُدرِج بالفعل داخل جدول المهرجان، وبعد إعلان إدارة المهرجان عن اختيار الفيلم داخل برامجها، لكن فجأة وبدون سابق إنذار تراجعت إدارة المهرجان عن إدراج الفيلم داخل المهرجان، وكان المهرجان في ذلك الوقت تحت رئاسة ماجدة واصف، ويترأس إداراته الفنية الراحل يوسف شريف رزق الله.

تعللت إدارة المهرجان بأسباب لوجستية غير مقنعة في مسألة وجوب عدم عرض الفيلم كعرض أول بالمهرجان، إلا أن المخرج ردّ وفنّد موضحا بأن الأسباب غير مقنعة، ولا سيما أن اختيار الفيلم كان بحماس شخصي من إدارة المهرجان.

وبالطبع قامت الدنيا ولم تقعد، وناشد الوسط السينمائي والصحفي إدارة المهرجان بالعدول عن هذا القرار الجائر على كافة الأصعدة، وانتشرت حملة تؤكد أن المنع غير مقبول، مُلقية ظلالا كثيفة النقد والشجب على تحكم جهات غير معلومة في إجازة الأفلام من عدمها، وبالطبع ليس هناك أسباب واضحة للمنع.

بعد صدمة منع عرض الفيلم بمهرجان القاهرة، بدأت معركة أخرى مع جهاز رقابة المصنفات الفنية لترخيص الفيلم للعرض العام

 

تعديل ثم منع حتى إشعار آخر.. معركة الرقابة

وبعد صدمة منع عرض الفيلم بمهرجان القاهرة، بدأت معركة أخرى مع جهاز رقابة المصنفات الفنية لترخيص الفيلم للعرض العام، وقد خاض المخرج مع الرقابة جولات من الشدّ والجذب.

والحق أن المخرج أبدى تفهما ومرونة تجاه مطلب الرقابة، فعلى سبيل المثال طالبت الرقابة بحذف شعار “يسقط يسقط حكم العسكر” الذي كان يُهتف به داخل الفيلم، وذلك لحساسية التوقيت. كما أوصت الرقابة بحذف بعض الجمل من هنا وهناك، وقد وافق المخرج على كل هذه المطالب ما دامت لا تغير من روح العمل.

وقد وعد المخرج بالسفر إلى ألمانيا للتعديل في النيجاتيف الأصلي للفيلم، لكن بالرغم من كل هذه المرونة والتفهم، إلا أن هناك جهة غير معلومة لم توافق على عرض الفيلم، وبذلك حُرم الجمهور العريض من رؤية فيلم مختلف عن الأفلام التقليدية، وأصبح فيلم “آخر أيام المدينة” فيلما ممنوعا من العرض حتى إشعار آخر.

 

“انسَوْا هيرسترات”.. كل ممنوع مرغوب

يظل السؤال الذي يطرح نفسه، لمصلحة مَنْ المنع، وهل يؤدي المنع إلى ترسيخ الصورة الذهنية التي يريدها الذي يمنع؟ هل الخلاص يأتي من المنع والحجب والإقصاء والتهميش؟

قد يكون هذا مفيدا مرحليا لمن يقصّ ويمنع، لكنه في الوقت ذاته يجلب عواقب وخيمة على المدى الطويل، وقد علمتنا الحياة أن كل ممنوع مرغوب، وعلمنا التاريخ أن الخلود يُكتب للفن الحقيقي الكاشف مهما طال به الزمان.

هذا يذكرني بمسرحية اسمها “انسَوْا هيروسترات” من تأليف الكاتب الروسي غريغوري غارين، وهي باختصار عن تاجر يُدعى هيروسترات عاش في بلاد الإغريق قبل الميلاد، وكان يصطدم بالسلطة فتُقرر السلطة حظر ذكر اسمه على عامة الشعب، وتُصدر مرسوما بذلك الحظر يتم توزيعه على نطاق واسع “انسوا هيروسترات”، وقد أدى هذا القرار إلى شهرة “هيروسترات” وليس نفيه ولا تهميشه.

أتمنى أن نتوقف عن شعار “انسوا هيروسترات”.