الفن السابع والجنون.. نبش في أداء أعظم مجانين السينما المصرية

الفنان المصري هشام عبد الحميد

تعددت المعالجات التي تناولت المرض النفسي، أو ما اصطلح على تسميته بالجنون، والجدير بالذكر أن مستشفى الصحة النفسية بالعباسية “الخانكة” أُطلق عليه مستشفى المجانين، وقد قدم كثير من الأفلام ذات الصبغة الكوميدية بطريقة مبالغ فيها للسخرية من المرضى النفسيين وأمراضهم، ومن أشهر هذه الأفلام فيلم “إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين”. وسنتعرض في هذا المقال لمجموعة من الأعمال الجادة التي أنتجتها السينما المصرية.

الممثلة سعاد حساد بدور ناهد الجامعية المصابة بمرض ازدواج الشخصية في فيلم “بئر الحرمان”

 

“بئر الحرمان”.. تمزق الشخصية تحت جحيم المعاناة المدفونة

“بئر الحرمان” هو فيلم من بطولة سعاد حسني ونور الشريف، وإخراج كمال الشيخ، وتدور أحداثه حول فتاة من أسرة ميسورة الحال تعاني من مرض ازدواج الشخصية، وهو مرض مختلف عن مرض انفصام الشخصية، لأن الأول نفسي والثاني عقلي، إذ يعاني المريض من عدم توافق القول والفكر والفعل، وسنتعرض له في أفلام أخرى.

نعود إلى مرض ازدواج الشخصية الذي تعاني منه بطلة الفيلم ناهد (الممثلة سعاد حسني)، فهي فتاة جامعية رفيعة المستوى، وهي بنت ليل لعوب تقضي ليلها كما يحلو لها، ثم تعود إلى منزل العائلة دون أن يشعر بها أحد، لتمسح مساحيقها الصارخة، وتنزع الباروكة وكل أدوات الزينة لتخفيه في دولابها ثم تخلد إلى النوم.

تستيقظ ناهد ناسية تماما ما حدث في المساء، لكنها تحس بصداع شديد، ومع تتبع الأحداث نعلم أن والديها لم يكونا على وفاق نتيجة خيانة الأم، مما أدى إلى معاقبة الأب لها بهجرها عاطفيا، وقد تسرب هذا الجو العائلي المسموم للاوعي البنت التي بدأت تعاني من كابوس متكرر يتجسد في صورة الأب القاسي الذي يجر أمها بقسوة ليلقي بها في بئر سحيق.

كل هذا تجسد في مرض الابنة فبدأت شخصيتها تتمزق وتنحرف تحت سيطرة المعاناة المدفونة في قاع لا شعورها، وجسّد لاوعيها الفتاة اللعوب التي تسعى لتدمير الفتاة المهذبة، ومن المعروف أن مرض ازدواج الشخصية في هذه الحالة لا يُشفى إلا بمواجهة الشخصيتين المنفصلتين عن ذات الشخصية، وهذا ما حدث في الفيلم بمساعدة الطبيب النفسي (الممثل محمود المليجي) الذي كانت تسعى إليه ناهد في محنتها.

 

“باب الحديد”.. ومن الحب ما قتل

“باب الحديد” هو فيلم من بطولة فريد شوقي وهند رستم ويوسف شاهين، ومن إخراج يوسف شاهين أيضا. الطريف هنا أن دور قناوي الذي لعبه يوسف شاهين قد عرض على ممثلين كثيرين ورفضوه جميعا وعلى رأسهم شكري سرحان، إذ كان الدور بمقياس الخمسينيات دورا كريها غير محبب للجمهور، فهو أعرج ودميم ومنبوذ ويعاني من أمراض فصامية واضحة، وفضلا عن ذلك فإنه سيقتل شخصا ويصبح مجرما.

يصاب قناوي بلوثة عقلية تتطور ليُرفع بالنهاية إلى مستشفى الأمراض العقلية، وباختصار فقد كان دور المريض النفسي بمقياس تلك الفترة مرفوضا شكلا ومضمونا، ولهذا اضطر يوسف شاهين أن يلعب الدور، وحسنا فعل، فقد قدم أداء من أفضل ما قُدم في أدوار للشخصية الفصامية.

تدور أحداث الفيلم في محطة سكة حديد يؤمها كثير من البشر، والمحطة بالفيلم رمز المجتمع بشرائحه المختلفة مشاكلهم وحياتهم وانكساراتهم وانفعالاتهم، وكل ما يعبر عن التجمع البشري تلخصه الحياة ذات الحركة الدائبة في المحطة.

نتعرف من خلال الأحداث على هنومة (الممثلة هند رستم) وقصة حب بينها وبين أبو سريع (الممثل فريد شوقي) الذي يعمل حمالا بالمحطة، وعلى الجانب الآخر يقف قناوي (الممثل يوسف شاهين) بائع الجرائد، الذي يهيم حبا بهنومة بائعة الجرائد، وعندما تصده عنها يخطط لقتلها، ولكنه يقتل صديقتها بالخطأ، لينكشف أمره ويقتاد إلى مستشفى الأمراض العقلية.

لقد جسد يوسف شاهين دور المصاب بالفصام بطريقة لا تُنسى، فهو دائم الاضطراب متلعثم في كلامه ويعاني من كبت عاطفي، نظراته التائهة توضح شدة انفصامه. كما ذكرنا من قبل أن الشيزوفرينيا لها أنواع كثيرة، ولكنها بشكل عام تعكس عدم توافق الفكر مع القول مع الفعل، لهذا نجد قناوي المضطرب يعاني في كثير من الأحيان من الهلاوس السمعية والبصرية.

 

“أين عقلي؟”.. نكران الذات للعقد النفسية

“أين عقلي؟” هو فيلم من بطولة محمود ياسين وسعاد حسني، ومن إخراج عاطف سالم. شخصية محمود ياسين هي شخصية الرجل الشرقي الحائر بين تقاليده الموروثة وبين الأفكار الغربية المتحررة، ويزعم أنه ليس لديه صدام حضاري، فهو رجل عصري درس وعاش في الغرب، ويعيش حياة راقية متحضرة ترفض الأفكار القديمة، ولكن الحقيقة أنه ما زال يحمل رواسب الماضي وهذا يسبب له الصراع الداخلي الذي أوجد عنده عقدة نفسية تدفعه إلى التقاط الفتيات الصغيرات من الشارع، لكي يتأكد بنفسه من أنهم لم يفقدن عذريتهن.

أدى هذا الاهتزاز النفسي إلى عدم توازنه في حياته عموما، لكونه لم يعترف بأنه يحتاج للعلاج من مرض يسبب له نوعا من التجلط على إثر نوبة نفسية حادة، ثم بدأت علاقته بزوجته تهتز وأخذ يشك بسلوكها ويعتقد أنها غير سوية.

أخبرته زوجته بنزاهة أنها كانت على علاقة قبل زواجه منها، وبدافع الانتقام يحاول أن يوحي لها أنها مريضة نفسيا وعصبيا، ومن ثم فهي تحتاج إلى طبيب نفسي وليس هو، ثم مع تطور الأحداث تكتشف جميع الأطراف المحيطة به أنه يعاني من مرض نفسي أدى لانهياره، ومع مواجهة الطبيب النفسي (الممثل رشدي أباظة) تبدأ رحلة العلاج والتصالح بين الخبرات السيئة التى يختزنها عقله الباطن، وبين واقعه الذي بدأ عقله الواعي يستبطنه ويعترف بمشكلته ويواجهها.

 

“السراب”.. ملابس الخادمة المثيرة

فيلم “السراب” قصة من تأليف نجيب محفوظ، وسيناريو وحوار علي الزرقاني، وإخراج أنور الشناوي، وبطولة ماجدة ونور الشريف، وتدور الأحداث حول فتى خجول متلعثم نتيجة تدليل أمه البالغ له، يعاني من الفيتيشية (انحراف جنسي ونفسي قوامه إشباع الرغبة الجنسية من طريق الانجذاب إلى أجزاء من الجسد، أو شيء من الأشياء بعينه) تجاه ملابس الخادمات، فقد حدث أنه تعرض لتحرش من جانب خادمة كانت تعاني من البيدوفيليا (حب الأطفال بطريقة منحرفة).

اكتشفت أمه ذلك وزاد توبيخها له وتهديدها له بالويل والثبور وعظائم الأمور، مما ضاعف أزمته النفسية عندما كبر، وعندما أقبل على الزواج من رباب (الممثلة ماجدة) لم يستطع ممارسة حياته الزوجية بشكل سوي، لارتباطه بالفيتيشية حيث ترتبط عنده الإثارة بأشياء بعينها، وفي حالته كان مرتبطا بإكسسوار الخادمة.

دفع هذا التصرف زوجته إلى الذهاب إلى طبيب نفسي (الممثل رشدى أباظة) وهو طبيب سيكوباتي لا يتردد في إقامة علاقة آثمة معها، كما ينتج من مجريات الأحداث أن تحمل سفاحا وتموت متأثرة بعملية إجهاض وهي تطلب من الله المغفرة، ويهيم الزوج كمال (الممثل نور الشريف) على غير سبيل وينتهي الفيلم.

وبالمناسبة كانت قد ذكرت ماجدة -المنتجة المنفذة للفيلم- أن مؤسسة السينما اعترضت على ترشيحها للوجه الجديد نور الشريف وقتها، وأنها اضطرت أن تكتب تعهدا بأنها تكفل على مسؤوليتها نجاح نور الشريف، وفعلا نجح وحاز على جوائز عديدة على ذلك الدور الصعب.

ولعل ما ذكره نور الشريف يستحق أن نتوقف عنده لنعرف ما كانت عليه أخلاق الوسط الفني من رقي، فأول من احتفل به كان صلاح السعدني الذي كان سابقا يتطلع إليه نور الشريف، بل عمل معه نور الشريف دوره وكان أقرب إلى الكومبارس، ولكن لملابسات كثيرة تأخر صلاح السعدني وأخذ الدور الذي فتح له السبيل للشهرة، وبزغ نجم نور الشريف، فلم يصدر عن صلاح السعدني إلا أن يحتفل به بنفس راضية، هكذا كانت الزمالة والأخلاق.

 

“الإخوة الأعداء”.. إثبات الذات الزائف

فيلم “الإخوة الأعداء” مأخوذ من قصة “الإخوة كارامازوف” للكاتب الروسي “ديستويفسكي”، ومن بطولة محيي إسماعيل وحسين فهمي وميرفت أمين ونادية لطفي ونور الشريف ويحيى شاهين وسمير صبري، وإخراج حسام الدين مصطفى. وتدور الأحداث حول مقتل الأب اللاهي والمنغمس بالملذات الأرماني (الممثل يحيى شاهين)، وتجري التحقيقات على أفراد أسرته الذين يكره بعضهم بعضا، إلى أن يعترف الابن غير الشرعي للأب حمزة (الممثل محيي إسماعيل) بجريمته.

يسعى أخوه “شوقي” (الممثل نور الشريف) إلى المحكمة لتبرئة أخيه الآخر” توفيق” (الممثل حسين فهمي) وينقذه من حبل الإعدام،  ومعه الدليل الوحيد وهو اعتراف أخوه الغير شرعي، فيحبسه في غرفته ليأتي رجال البوليس، ولكن يجدوه منتحرا شنقا،  وبذلك يغيب الدليل الوحيد لأخوهم البريئ حسين فهمي الذي يحكم عليه باﻹعدام.

نأتي لشخصية محيي إسماعيل أو ابن عزيزة الهبلة، الشخصية المنسحقة المهانة المُذّلة من الجميع، ومن ثم فتقديره لذاته متدن لأبعد الحدود، كما أنه يعاني من نوبات صرع من وقت لآخر، فمثل هذه الشخصيات التى تعيش على هامش الحياة ولايكترث لها أحد، غالبا ما تقدم على فعل مجنون يلفت إليها الأنظار، حتى ولو كان الثمن حياتها، فهي لا تأبه بأي نتائج سوى الفعل الخارق الجانح والمبالغ به.

إنه نوع من الإثبات الزائف للذات ليلفت الأنظار، ويحقق لها نوعا من التوازن النفسي، تحقيق شهوة الانتقام من ظلم الجميع بقتل الأب لم تكن متوقعة لكنها أتت من ابن مقهور دفعته قوة سحقه بألا يتورع عن فعل أي شيء، وهذا ما حدث، لقد أدى محي إسماعيل هذا الدور بحساسية شديدة جعلته بحق عميد هذه النوعية من الأدوار، وهو في هذا ينافس الممثل العالمي “يول براينر” الذي قَدَّم نفس الدور بنسخة “الإخوة كارامازوف” الأمريكية.

 

“سونيا والمجنون”.. تحقيق اليوتوبيا في مدينة الشر

قدم الكاتب محمود دياب والمخرج حسام الدين مصطفى فيلم “سونيا والمجنون” عن قصة “الجريمة والعقاب” للكاتب الروسي “ديستويفسكي” في عمل لن تنساه ذاكرة السينما المصرية. الفيلم من بطولة محمود ياسين ونجلاء فتحي ونور الشريف وحياة قنديل، ولا شك أن بطل القصة هو مثال حي للمرض النفسي الشديد الذي بينه وبين الجنون مقدار شعرة فقط.

لا يستطيع بطلنا المثقف أن يستوعب قيم القبح والشر التى تعج بها المدينة، فهو لا يستطيع على سبيل المثال أن يستوعب أن المرابية العجوز تكتنز تلك الأموال، بينما بسطاء الناس لا يجدون مايسد رمقهم إلا من صناديق القمامة، وهكذا لا يستطيع أن يستوعب المفارقات الحادة الموجودة في مدينة الشر -كما يسميها- التي تدفع الفتاة الشريفة إلى طريق غير أخلاقي غصبا وقهرا.

ولهذا تأتي إشكالية الشخصية في ما بعد في مفارقة شديدة بين ما تتمناه وما تؤمن به، وبين ما يفرضه عليها واقعها المؤلم من منغصات ومحبطات، هذا الصراع هو الذي يشكل ملامح الشخصية المريضة ويصبغ سلوكها وتصرفاتها ومصيرها ويودي بها للتمزق، ليدفعها إلى الفعل الدموي متمثلا في قتل المرابية العجوز بنظرية أن عبقريته تبيح لصاحبها أن يفعل مايشاء، وبالتالي فقد التوازن النفسي والعقلي.

قدم هذه الشخصية المركبة محمود ياسين بأداء لافت، واستطاع أن يقف على طرفي نقيض مع أداء المحقق نور الشريف، وقد أدى محمود ياسين واحدا من أفضل أدواره إن لم يكن أحسنها على الإطلاق، وذلك بوعي لمراحل الشخصية في لحظات انكسارها وهزيمتها وفي تحقيق اليوتوبيا في مدينة الشر، ففقد توازنه واختار حل الدم.

https://www.dailymotion.com/video/x7qjlzb

 

“إحنا بتوع الأتوبيس”.. سادية المصلحة العليا للبلد

فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” هو من قصة جلال الدين الحمامصي، وإخراج حسين كمال، وبطولة عبد المنعم مدبولي وعادل إمام وسعيد عبد الغني، ويتناول سنوات القهر والقمع في السجون الناصرية، وما يتعرض له المواطنون الشرفاء من تنكيل وتعذيب بلا ذنب اقترفوه. أمامنا في هذا الفيلم شخصية الجنرال رمزي (الممثل سعيد عبد الغني) الذي يدير المعتقل بالحديد والنار، ولكنه مختلف، فهو شخصية سادية إلى أبعد الحدود، والشخصيات السادية السيكوباتية تتلذذ بتعذيب الآخرين معتمدة على منطق وحجج تبدو موضوعية.

تلجأ هذه الشخصية إلى التعامل بأدب ولطف وتحايل مع الضحية، وحين تفشل الضحية في تحقيق الحد الأدنى المطلوب منها تجد الشخصية السادية حججها في التنكيل بالضحية والاستمتاع بإيلامها إلى أبعد الحدود، والحجج جاهزة تتمثل في المصلحة العليا للبلاد، ولكن هذا مجرد غطاء لمرضه الذي يستمتع بممارسته على الضحايا المعتقلين.

في مشهد من أقسى مشاهد الفيلم جعل الجنرال رمزي المعتقلين يرقصون كالقرود على صفيح ساخن، وقد كان غارقا فى المتعة واللذة من جراء الفرجة عليهم. لقد أدى سعيد عبد الغني هذا الدور كما لم يؤدي دورا من قبل، فجسد شخصية السادي السيكوباتي بحركات عينيه وإماءاته وإشاراته ولفتاته بحرفية عالية وخاصة حركته، وكان مميزا في أدائه إلى درجة أنه ما زال منحوتا في الأذهان بعد كل هذه السنين.

ومما تقدم حاولنا أن نستعرض بعض ما قدمته السينما المصرية حول المرض النفسي والاختلال العقلي، ونرجو أن نكون قد قدمنا ما يلقي الضوء بشكل تفصيلي على هذا النوع المهم في السينما المصرية، آملين أن نستتبعها بمقالات عن مزيد من أنواع أخرى تناولتها السينما المصرية.