“الفنار”.. صراع في جزيرة منعزلة يكشف أسرار النفس البشرية

عندما فكر المخرج “روبرت إيغرز” في إنجاز فيلم “الفنار” أعطى الأولوية لواقعية مشاهده دون الاستعانة بالخدع البصرية والحاسوب، لهذا أنزل فريق عمله في أحد الجزر الحقيقية حيث توجد إحدى المنارات القديمة، وهناك عملوا عليه لأكثر من شهر.

تعرض الطاقم خلال تلك الفترة إلى مشاكل كبيرة بسبب العواصف البحرية والمخاطر المتنوعة التي كادت أن تتسبب في مآسي تذهب بأرواحهم، وقد جاء هذا بسبب حرص المخرج والفريق على تقديم فيلم جيد يعتمد على المناظر الطبيعية الواقعية الحية.

تنبع تجربة المخرج “روبرت إيغرز” في فيلم “الفنار” (The Lighthouse) – الذي أنتج سنة 2019، بإنتاج أمريكي كندي مشترك- من منطلق التجريب والمغامرة واكتشاف آليات عمل سينمائية مختلفة وغير مستهلكة، وهو رهان صعب في ظل اعتماده على ممثلين اثنين يتحركان في مساحة ضيقة تعكسها الجزيرة الصخرية التي يوجد عليها الفنار (109).

وقد أذاب “إيغرز” هذا التحدي بعد اشتغاله الذكي على السيناريو واهتمامه بالتفاصيل الصغيرة وتوليده في كل مشهد قصصا ثانوية محبوكة بذكاء، تتشكل من عناصر درامية يضمن بها تكسير أي ملل يمكن أن تولده المساحات الضيقة أو تقليص عدد الممثلين الذي يؤدي بشكل آلي إلى نقص في الحوار، وهو ما ينتج عنه ضعف درامي عادة، لكن حضور اللغة السينمائية والتكثيف البصري وخلق آليات سردية بديلة غطى على هذه الأشياء وخلق إثارة كبيرة سهّلت عملية التواصل مع المشاهد.

تقنية الأبيض والأسود.. عناصر ذكية للغة بصرية قوية

كان طموح المخرج كبيرا إذ غامر وتخلى عن الألوان في الفيلم واعتمد على اللونين الأبيض والأسود، وكأنه يعيد اكتشاف السينما من جديد مرتكزا على العناصر التي كانت تعتمد عليها كلاسيكيات السينما في زمن الأبيض والأسود لتعوض هذا الغياب بعناصر ذكية تستغل بشكل جيد، وتتحول إلى لغة بصرية قوية تولد منها المعاني والدلائل والكلمات التي يمكن أن تظهر عن  طريق النطق أو الألوان.

إنّ أكثر هذه العناصر استعمالا ويمكن أن تكون السبب الرئيسي الذي جعل المخرج “روبرت إيغرز” يتخلى عن الألوان هو ما توفره تقنية الأبيض والأسود من فرص جمالية تولدها الثنائية الضدية للظل والنور.

وقد بات اللجوء إلى الأبيض والأسود خيار الكثير من المخرجين في السنوات الأخيرة، وقد أوصلهم هذا الخيار إلى تقديم أعمال مهمة نالت عدة جوائز وتكريمات ونالت رضا النقاد والجمهور، وقد سار المخرج “روبرت إيغرز” على طريقهم تأثرا بالتقنية لا بطريقة المعالجة.

المخرج استخدم تقنية الأبيض والأسود لما تولده من ثنائية ضدية للظل والنور

ثنائية الظل والنور. انعكاس لدلالات مختلفة

لعب المخرج على وتر الظل والنور من خلال توليدهما عن طريق الإضاءة الطبيعية أو المصطنعة من خلال القمر والمصباح الزيتي ومصباح المنارة والنار والشمس وغير ذلك من مولدات النور والظل التي يقوم بخلقها مدير التصوير “جارين بلاشك” بالتنسيق مع المخرج “إيغرز”.

يتحين المخرج ومدير التصوير فقط الوقت والمكان المناسبين لتطويع هذه التقنية وتوليد الدلالات المناسبة منها، وهي لغة سينمائية قوية عكست الانفعالات النفسية لشخصيات العمل، وفسرت حالاتهم الجسدية والروحية في تلك اللقطات، وبالتالي تضاعفت شحنة التواصل والفهم بين المتلقي والمادة خاصة من خلال التركيز على قسمات الوجه وتقلباته مع قصص السيناريو  المختلفة.

جاء هذا التلاعب البصري كجزء من جملة التوظيف الذكي لما يمكن أن تحتويه أي منارة قديمة، لهذا وفّر المخرج أدوات صنعت وخلقت شعرية في العمل مثل خزانة قديمة وسرير حديد وسلم حجري حلزوني ومفاتيح حديدية ولباس عاملي المنارة، وشكّل ملحقات المنارة والمأوى كالدهان القديم والفحم والموقد وغيرها من الموجودات الأخرى التي كان لها هي الأخرى صوت أضفى جمالية من خلال حاسة السمع وخلق شعرية الأماكن المنعزلة.

كما خلقت المؤثرات الصوتية الصغيرة -كصوت البوق والبحر واحتكاك الرفش بالفحم والمشي على السقف الخشبي ونقل برميل الزيت إلى رأس المنارة وصوت العاصفة من خلال الرياح والبحر والمطر- نوعا من الألفة وأعطت بعدا واقعيا للمتلقي بعد أن قدمها له المونتاج الذي جاء دقيقا وسريعا وحاسما في الخيارات الفنية التي يجب التنبه لها، خاصة وأن العمل يركز بالدرجة الأولى على التسلسل النفسي للشخصيتين، وهو الأمر الذي يجب على محرر الفيديو فهمه واستيعابه جيدا حتى لا يقع في مطب النشاز المونتاجي.

فضاء العزلة.. تفكيك ألغاز النفس البشرية

قدّم المخرج “روبرت إيغرز” في فيلم “الفنار” درسا عمليا في تفكيك وفهم النفس البشرية وكشف بعض أسرارها، خاصة أن كل فرد يحمل داخله خزانة أسرار محكمة الإغلاق، وكأن المخرج يعبد طريقا للمتلقي لأخذ صورة أشمل عن الأمراض والعلل النفسية المستكينة في الأعماق.

وفي حالة هذا الفيلم كانت العزلة عبارة عن الطريقة المثلى لبروز تلك الأمراض والأسرار للعلن، وقد عكسها العامل القديم للفنار “توماس ويك” (الممثل وليام دافو) والعامل الجديد صاحب الشخصية المزدوجة “إفرايم وينسلو” و”توماس هاورد” (الممثل روبرت باتينسون).

فما حدث بينهما خلال فترة وجودهما في هذه العزلة كشف عن عدة أحداث يصعب فهمها بشكل قطعي، بل إنها تترك لدى المتلقي الكثير من الأسئلة المعلقة مثل من قتل من، ومن استولى على هوية من؟

فمن جهةٍ “إنسلو” و”هاورد” حين كان يعمل في الخشب، ومن جهة ثانية العامل القديم “ويك” متهم بقتل العامل الذي سبق “إنسلو”، أي أن كل فرد منهم هو أسير بشكل ما لماضيه، هذا الماضي الذي أصبح حاضرا من خلال هذه العزلة والوحدة يواجه به كل فرد منهما الآخر لتتحول إلى مادة ترسم معلما للمستقبل.

صراع على الضوء.. نهر دموع ودماء على حافة الانفجار

نتجت كل المواجهات بين “إنسلو” و”ويك” من خلال الصراع على الضوء، وهو الإشارة التي ترشد السفن، إذ يرى العامل القديم بأنها من حقه وحده ولا يملك أي فرد سلطة الوقوف أو رؤيتها، لأنه يرى بأنها هي عالمه وزوجته وأولاده، وليس من حق “إنسلو” أو العامل السابق الصعود إليها ورؤيتها.

من هنا يتحرك الفضول ليسيّر هذا الصراع الذي تولدت عنه الدراما والإثارة والخيال والهلاوس والعوالم الباطنية، وكأن المخرج مرة يرى بعين العالم الخارجي ما يدور في الجزيرة والمنارة، ومرات يرى  العوالم الداخلية للشخصيتين ويقف على ما يدور فيهما من مخاوف وأحلام وكوابيس ويجسدها في الفيلم كمشاهد حية.

ومن هنا أيضا خرجت كل تلك الشرور والمخاوف وأبادت كل فرد فيهما ليبقى الفنار الذي وضع من أجل حماية السفن والعابرين بلا عمال يسيرونه، ومن هنا تنتشر الشرور والمآسي إلى أبعد من الجزيرة ويزداد نهر الدماء والدموع.

سفينة راقصة في البحر.. بداية صامتة ودلالات صاخبة

يبدأ فيلم “الفنار” بمشهد في غاية الدقة والجمال من خلال تلاعب السفينة وتراقصها حتى تقترب من الجزيرة وترسل العاملين عن طريق القارب إلى الفنار، وحسب طرق التوظيف فإنه مع قدوم العاملين يغادر عاملون آخرون، وقد مروا في جمود واضح دون أن يتبادلوا أي كلمة، وهي دلالة على أن هناك حدث ما يجري الإعداد له.

يبدأ هذا الحدث من عملية عدم التواصل بين البشر، وبالتالي لا أحد يستطيع فهم الآخر من خلال الصمت، ومن هنا تبدأ الأحداث والمشاكل، والجزيرة هي معادل موضوعي لعدم التواصل الذي عكسه المخرج في المشهد كحدث أولي، وبالتالي فهي دلالة قوية معنوية وحسية على عوالم العزلة وإفرازاتها.

وقد استطاع الممثلان القديران “وليام دافو” و”روبرت باتينسون” أن يعكسا الشخصيتين المأزومتين بقدرة كبيرة وصلت إلى غاية التوحد فيها، وهذا من الجانبين المعنوي والمادي، وهي نقطة أيضا تحسب لإدارة المخرج واختياره الدقيق، وأنا شخصيا أعتقد بأنهما أحسنا الدور في مسار كل ممثل، إذ استخرجا كل طاقتهما التمثيلية، وأبانا عن قدرة التكيف مع الأحداث ببصيرة ومسؤولية فنية، وهذا ما تجسده الموهبة الحقيقية للممثل المقتدر.

مخرج فيلم “الفنار” الأمريكي “روبرت إيغرز” الذي عكس فيلمه الأخير إبداعه السينمائي فيما يخص استخدام اللونين الأبيض والأسود

“روبرت إيغزر”.. ظلال المسرح الكلاسيكي على السينما

فيلم “الفنار” من بين الأفلام المهمة التي صدرت سنة 2019، وعكست موهبة المخرج “روبرت إيغرز” الذي بدأ مسيرته الفنية سابقا بالمسرح الكلاسيكي والتجريبي في نيويورك، وقد ظهر وانتشر اسمه كسينمائي من خلال فيلمه الطويل الأول “الساحرة” الذي فاز به بجائزة أحسن إخراج في مهرجان صندانس السينمائي سنة 2015، إضافة إلى جوائز أخرى.

وقد جاء فيلم “الفنار” ليؤكد على هذه الموهبة من خلال مشاركته العالمية في أرقى وأكبر المهرجانات، وحصوله على العديد من الجوائز، أما مشاركته العربية فقد كانت من خلال القسم الرسمي خارج المسابقة بالدورة الـ41 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي.