الفهد الأسود.. بين “مارفيل” و حزب “البلاك بانثر”

أحمد حسونة

ينتمي فيلم "بلاك بانثر"للمخرج الأسمر "ريان جوجيلر"، وشارك في كتابته مع "جو روبرت كول"، إلي الفن الاستهلاكي المفعم بكم المتعة البصرية والسمعية المتضافرة بالفيلم.

يرتبط البطل الخارق في أذهان المتفرج العادي عادة بالبطل ذي البشرة البيضاء، وهو في الواقع ارتباط منطقي حيث أول ظهور للبطل الخارق في مجلات الكوميكس المصورة كان عام ١٩٣٨ بظهور سوبرمان في مجلة دسي كوميكس.  وقد اكتسب سوبرمان شهرة واسعة وأصبح أكثر شخصية خارقة تمثل الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة الحرب العالمية الثانية وما بعدها.

نبذة تاريخية

جاء هذا التغيير علي يد الرسام “جاك كيربي” و”ستان لي” محررا مجلة “مارفيل” المصورة، وهي المنافس الشرس لدي سي كوميكس، وذلك في عام ١٩٦٦ عندما قدمت البطل الخارق بلاك بانثر، أثناء حركة الحقوق المدنية، عندئذ طالب السود بإلغاء التمييز العنصري داخل المجتمع الأمريكي ومنحهم حقوق مساوية للمواطنين البيض.

وفي نفس العام ظهرت حركة البلاك بانثر التي أسسها “هيوي نيوتن” و”بوبي سيل”، وكان اسمها في البداية حركة البلاك بانثر من أجل الدفاع عن النفس إلي أن تحولت إلي حركة ماركسية راديكالية عرفت باسم بلاك بانثر.

تدور أحداث الفيلم حول عودة البلاك بانثر أو "تيشالا" إلي بلده "واكندا" لتولي مقاليد الحكم بعد اغتيال والده بمقر الأمم المتحدة.

الاعتراف

ومثلما أخذ خروج الرجل الخارق ذي البشرة السمراء  علي صفحات المجلات المصورة بعض الوقت للظهور،  فقد أخذت هوليوود وقتا طويلا للاعتراف بالبطل الخارق الأسمر علي شاشاتها بعد أن تقبلت ظهور أصحاب البشرة السمراء كأبطال علي شاشاتها علي مدار السنين.

 فقد تم تقديم  البلاك بانثر ضمن مجموعة الأبطال الخارقين في فيلم “كابتن أمريكا”: الحرب الأهلية ٢٠١٦ خلال فترة حكم “أوباما”، ثم فيلم “بلاك بانثر “، هذا العام.

ينتمي فيلم “بلاك بانثر” للمخرج الأسمر “ريان جوجيلر”، وشارك في كتابته مع “جو روبرت كول”، إلي الفن الاستهلاكي المفعم بكم المتعة البصرية والسمعية المتضافرة بالفيلم،  وتتفاعل هذه العناصر السمعية والبصرية والسردية مع بعضها البعض كبحيرة يلقي بها حجر فتشكل دوائر عديدة قد لا تكون لها علاقة ببعضها، ولكن علاقتها ترتكز فقط علي الفعل، مما يجعله فيلما مميزا في الدائرة التجارية بكل المقاييس.

 فإنتاج فيلم لأول بطل خارق أسود اللون عن قصة مصورة، ظهرت بالتزامن مع صعود حركة البلاك بانثر، كما أن إسناد الفيلم إلي مخرج أسود نجح أن يخلق عددا من العلاقات بين ما هو موجود بالفيلم وما هو موجود خارج الفيلم من سياق تاريخي وحركات سياسية بشكل متشابك ومعقد.

مخرج واعد

“فريان جوجيلر” مخرج ثبت أقدامه من خلال عملين سابقين هما “كريد”٢٠١٥، وهو الجزء السادس في سلسة أفلام  “روكي “وقبله فيلم “محطة فرويتفيل،٢٠١٣، و شارك في كتابتهما أيضا. وقد حظي الفيلمان على تقدير نقدي وجماهيري واسع،

وبالرغم أن قصة البلاك بانثر المصورة لم تأت من رجل أسود إلا أنها تمثل إطارا رائعا يمكن استخدامه لمقاومة كل محاولات الرجل الأبيض لإذلال الرجل الأسود ووضعه في مستوي أدني.

قام "شادويك بوسمان" بدور الفهد الأسود.

الفيلم والبطل الكلاسيكي

تدور أحداث الفيلم حول عودة البلاك بانثر أو “تيشالا” إلي بلده “واكندا” لتولي مقاليد الحكم بعد اغتيال والده بمقر الأمم المتحدة،  مثقلا بمشاعر الذنب لعدم قدرته علي حمايته.

يطارد “تيشالا” كل من “إريك” و”يوليسيس” اللذين يحاولان تسريب استخدام مادة الفايبرينيوم المسؤولة عن تقدم الشعب الواكندي، واستخدامها في الحروب والصراع علي السلطة.

  يكتشف “تيشالا” أن “إريك” هو ابن عمه الذي قتله والده نتيجة سرقته لمادة الفايبرينيوم، ويعود لينتقم لوالده ويحصل علي السلطة بعد تحديه للمك “تيشالا” و قذفه من فوق الشلال ليعتقد الجميع أن “تيشالا” قد مات. ويصبح إريك النسخة الشريرة من الفهد الأسود.

يبدأ “إريك” في تنفيذ مخططاته الجهنمية بتصنيع السلاح و تصديره إلي العالم، و يحصل علي الجرعة السحرية من الزهرة القرمزية على شكل القلب و يأمر بحرق بقية الزهور حتى لا يحصل أحد غيره علي القوة السحرية.

 تنجح “ناكيا” حبيبة “تيشالا” في الحصول علي الزهرة السحرية، ويتم استخدامها في استعادة “تيشالا “الذي عثر عليه لدى زعيم قبيلة أخري غائبا عن الوعي. يعود الفهد الأسود “الطيب” ليصارع الفهد الأسود “الشرير”، ويمنع إرسال أسلحة “واكندا” إلي الخارج، وينتهي الأمر بموت “إريك” الذي يرفض عرض “تيشالا” بأن يعالجه بالتكنولوجيا الراقية لأنه يفضل أن يموت على أن يعيش بقية حياته مكبلا بالقيود.

يقرر “تيشالا” في النهاية بأن يتعاون مع الدول الأخرى في تصدير التكنولوجيا التي تتمتع بها “واكندا”، وأن لا يبقيها قصرا عليها.

نحن أمام عمل فني كلاسيكي في المقام الأول، يرتكز على رحلة البطل وهو أمر منطقي وظف استخدامه إلي أقصى حد بحيث استفاد من كل المراحل التي يمر بها البطل وحلفاؤه، وما يتعرض من خلاله إلي العديد من المفاجآت والاكتشافات والمواجهة مع ذاته بدءا من موت المعلم، حتى وصوله إلي أحلك اللحظات عندما يهزم من خصمه ويكون علي وشك الموت، ثم عودته مرة أخري  ليوقع الهزيمة بخصمه.

"هيوي نيوتن" و "بوبي سيل" مؤسسا حركة البلاك بانثر.

صياغة الواقع

كانت إحدى النقاط الهامة في صراع السود في أمريكا عدم تصنيف الأشخاص علي أساس اللون، وأن لا يكون دلالة للاستخفاف أو الاستهزاء بهم، والتأكيد علي أنهم أفارقة الأصل،  وبالتالي فهم أفارقة أمريكان وليسوا سودا فحسب.

هذا الارتباط خلق لديهم فخرا واعتزاز بأنهم يمثلون قارة تمثل بدايات الإنسانية من ثقافة وفن وموسيقي إلخ. ويأتي فيلم البلاك بانثر ليضيف التقدم التكنولوجي كبعد ممزوج بالأسطورة الواكندية، فواكندا تكونت من عدة قبائل تعيش في منطقة بها معدن الفيبرينيوم، و هو معدن أعطاهم القدرة علي التطور بشكل يفوق الدول المتطورة مثل الولايات المتحدة. هذا التفوق لم يأت فقط من المعدن، و لكن من عقول أبناء واكندا المتمثلة في شوري أخت الملك تيشالا، والتي تتمتع بخفة دم ملحوظة. من هذا المنطلق قام الفيلم  بعكس الدور الذي كان يلعبه الرجل الأبيض معهم، و يظهر ذلك في التعامل مع  إيفيرت ك. روس، رجل المخابرات الأمريكية الذي تسخر منه شوري بشكل دائم ، كأن تقول “سيكون من الممتع أن نعالج رجلا أبيض آخر” عندما كان مصابا بطلق ناري، وعندما  يفاجئها تقول له “لا تجعلني أشعر بالخوف أيها المستعمر”، أو عندما يقود روس الطائرة المتخيلة ويسألها ماذا يفعل، فتقول له اضرب المقاتلات الأخرى أيها العبقري!”

تلك التفاصيل تعد نوعا من التخفيف والتنفيس عن الكبت التاريخي الذي عاشه الأفارقة الأمريكان، وساعد على جعل الفيلم يتخطى الإطار الخيالي والأسطوري، ليرتبط بواقع تاريخي مرير. وقد نجح المخرج وفريقه الفني في خلق عالم بصري سمعي رائع، تجلى في لقطات دولة واكندا الساحرة، واستخدامه للألوان المبهجة المعبرة عن  الثقافة الأفريقية،  إلى جانب الموسيقي الأفريقية الممزوجة بنغمات من ثقافات مختلفة أعطت الفيلم غنى وثراء أكثر من أفلام أخري مماثلة.

استخدام الفيلم الألوان المبهجة المعبرة عن الثقافة الأفريقية، إلى جانب الموسيقي الأفريقية الممزوجة بنغمات من ثقافات مختلفة.

الرقص على السيف

وكل هذه الخطوط التي غزلها المخرج وفريقه هي بمثابة الرقص على حد السيف لإرضاء كل الأذواق، لأنها دفعت باللاوعي لدي المتلقي ذي الأصول الأفريقية  بالشعور بالفخر والزهو من أصوله، دون أن يفقد الجمهور العام والأعراق المختلفة ومنها بالتأكيد أصحاب البشرة البيضاء، وهو أمر غير مقبول بالنسبة لفيلم تكلف ٢٠٠ مليون دولار،  ومن منطلق إرضاء جميع الأذواق، احتوي الفيلم أيضا علي توليفة من أفلام جيمس بوند والمهمة المستحيلة، وحرب الكواكب وقد ولف  المخرج هذه الأنواع الفيلمية المختلفة بذكاء شديد في الفيلم بدون أن نشعر أنها دخيلة علي نسيج الفيلم.

تيشالا و إريك

“تيشالا” الفهد الأسود و”إريك” يمثلان أيدلوجيتين مختلفتين، فإريك يمثل الأمريكي الأسود الذي تأثر بالعقلية البيضاء نتيجة نشأته في أمريكا، التي تذهب إلي العنف والانتقام وهو له مبرراته الوجيهة فقد رأي والده مقتولا أمام عينيه وهو طفل، ولكن الآلية الأمريكية المتمثلة في المخابرات قد ساعدته علي تقوية هذا الجانب الدموي به باستخدامه في تفكيك وتدمير الحكومات في العالم الخارجي مثل العراق وأفغانستان، ويتحول إلي الشرير الذي نراه في الكوميكس الذي يريد أن يسيطر علي العالم وأن يتجه به إلي الدمار الشامل.  هنا نجد أن هذه الفكرة تبدو فكرة مرتبطة بأمريكا في الواقع أكثر من فكرة البطل الخارق الذي أصبح غير أمريكي هذه المرة، إلا أن المخابرات الأمريكية متمثلة في “إيفيرت  ك.روس” تقف بجانب “تيشالا”. فأمريكا تعلم أن ما تفعله في العالم هو سلاح ذو حدين، وعليها أن تكون يقظة حتى لا يرتد الدمار إليها. وعلي النقيض الآخر “تيشالا” بنقائه الأفريقي يميل إلي التسامح وعدم العنف.  

هاتان الأيدلوجيتان المختلفتان في الواقع تمثلان ثنائية المقاومة عند السود في الولايات المتحدة،  ووجود قطبين لهذا الصراع يتمثل في حزب البلاك بانثر، المعروف بإشهار السلاح في وجه أعدائه. قد تأثر “بوبي سيل” أحد مؤسسي الحزب  بأفكار مالكوم إكس، وفي المقابل نجد “مارتن لوثر كينغ”، القس الذي يرفض العنف ويقابل البطش العنصري بتسامح المسيح تجاه أعدائه.

هذه الثنائية لا تقف عند هذا الحد، بل يمكن أن نجدها في حزب البلاك بانثر نفسه الذي أسسه “هيوي نيوتن” و “بوبي سيل” عام ١٩٦٦ في أوكلاند بكاليفورنيا،  فالاسم الأساسي  للحزب هو البلاك بانثر للدفاع عن النفس، وهو متطابق مع تركيبة الفهد الأسود كما يقول “بوبي سيل”، فالفهد الأسود لا يهاجم إلا في الضرورة للدفاع عن نفسه، إلا أن شريكه “هيوي نيوتن” كانت طبيعته أكثر عنفا واندفاعا. وقد انضم العديد من شباب العصابات السود إلي البلاك بانثر إعجابا بالجانب المسلح.

حتى نهاية “تيشالا” و”إريك “تتشابه إلى حدا ما مع نهاية “بوبي سيل” و”هيوي نيوتن”، “فبوبي سيل” مازال حيا يمارس النشاط السياسي، بينما “هيوي” مات في مصادمات متعلقة بحرب المخدرات عام ١٩٨٩.