الفيلم التركي “صاف”.. كيف تحافظ على إنسانيتك وأنت محاط بالوحوش؟

ندى الأزهري

الفيلم إنتاج تركي ألماني روماني يتمحور حول "التحول" بجانبيه الإنساني والمديني

“ليست المدينة من يتحول، بل نحن”.. نحن من يتغير، ونحن بالتالي من يحوّل المدن بما يلائم تحولاتنا التي لا تصبّ بالضرورة لصالح المدينة أو لصالح سكانها. هذا على الأقل ما يُتوقع من خطاب فيلم يضع هذه العبارة على ملصقه الدعائي.

“صاف” هو الفيلم الثاني للمخرج التركي علي وطن سفير، وهو فيلم روائي أقرب للوثائقي يعرض الواقع الإنساني لضواحي المدن وأناسها الفقراء، حيث غضبٌ على وشك الانفجار، ووضع بائس وحلول مؤقتة لا تلبث أن تكشف هشاشتها.

أول عرض للفيلم كان في مهرجان تورنتو 2018، ثم في مهرجان حقوق الإنسان في لندن (13 وحتى 22 مارس/ آذار 2019)، ومؤخرا شارك في مهرجان إسطنبول للفيلم (5 إلى 16 نيسان/أبريل 2019) في مسابقتي أفلام حقوق الإنسان وقسم السينما التركية، متنافسا بذلك مع ثمانية أفلام أخرى على جائزة أفضل فيلم تركي.

 

الفرد ومحيطه.. أيهما يؤثر في الآخر؟

الفيلم إنتاج تركي ألماني روماني يتمحور حول “التحول” بجانبيه الإنساني والمديني، ويطرح سؤالا عويصا عن إمكانية بقاء الفرد صافيا نقيا أو بريئا عندما يُحاط بالكراهية والضغوط ومشاق الحياة اليومية، كما يتناول هذه العلاقة المتبادلة بين الفرد ومحيطه، فمن يؤثر في الآخر أكثر؟

تقع أحداث القصة في حيّ فقير على الجانب الأناضولي من إسطنبول، فالمنطقة تشهد تحولا كبيرا بسبب التوسع العمراني، وما كان في السابق منطقة مليئة بالأحياء العشوائية بات اليوم عقارا محطّ اهتمام المقاولين وأصحاب رؤوس الأموال، فيها ترتفع مبان تجارية وبنايات سكنية، وكل ما يدرّ أرباحا لا تعترف بأوضاع إنسانية وظروف صعبة. الهدف إزالة أي عائق حتى لو كانت أسرا كاملة، وبالتالي بات على سكان المنطقة إخلاءها وترك منازلهم ليعطَوا ربما منازل جديدة، إنما تحت أية شروط؟

يتناول الفيلم في أحد جوانبه بدراية وعمق حذر البعض عند تعرضهم لظروف كتلك، فهم لا يثقون بالوعود حتى وإن عُرض عليهم المال، فهو لا يكفي بالضرورة للاستقرار في مكان آخر. إنها معضلة يصعب اتخاذ القرار المناسب دون معطيات واضحة بل ملتبسة، فكيف إذا ترافق ذلك مع مشاكل أخرى مصيرية يعانيها هؤلاء؟

تقع أحداث القصة في حيّ فقير على الجانب الأناضولي من إسطنبول، فالمنطقة تشهد تحولا كبيرا بسبب التوسع العمراني

فقراء أتراك ولاجئون سوريون

هذا تماما ما يحصل مع كامل (إيرول أفسين) البالغ من العمر 28 عاما، والذي يعيش في هذا الحيّ مع زوجته رمزية (سعادت أكسوي). لقد كان عاطلا عن العمل فترة طويلة، فيما هي تعمل منظّفة منزل لدى عائلة ثرية. هما ينظران بعين الخوف والحذر إلى كل هذا الهدم والبناء من حولهما، يتشاركان همومهما بهذا الخصوص مع سكان آخرين، أيبقون ويقاومون أم يغادرون؟

يسعون لتنظيم أنفسهم للخروج بما يلائم تطلعاتهم، حيث لا يخاطرون بفقدان منازلهم، حيّهم الفقير هو أيضا موطن للاجئين السوريين الأشد فقرا، والذين هم أيضا في وضع محفوف بالمخاطر، فالعمران المستمر يدمّر المباني المهجورة التي يستخدمونها كملجأ لهم ولعائلاتهم.

منذ المشهد الأول يدخلك إيقاع الفيلم فورا في صلب الموضوع، جرافات تُهدم وورشات بناء وعمال يقفون في الصف انتظارا لتقديم طلبات عمل، ثم مشاجرة بين الواقفين، وعامل تركي يهاجم عاملا سوريا ويدفعه بعيدا عن الصف، مع تعليق بات يُسمع في كل مكان يلجأ إليه هاربون من الحروب والبؤس “هؤلاء يأتون ويسرقون خبزنا”، تنتهي المشاجرة بعد تدخل آخرين، فالعنصرية لها أعداؤها من أهل البلد أيضا.

المخرج وطن سفير أيضا مؤلف سيناريو الفيلم يصور دراما اجتماعية مأساوية ترصد فترة من التحول الكبير لمدينة كبرى

سلّة فقر وحرمان واحدة

“المال من الأفضل أن يذهب إلى أهل البلد لا إلى السوريين”، تتردد هذه الفكرة على أسماع كامل، ولكثرة تردادها في أذنه تجد لها طريقا في فكره وسلوكه وهو الطيب المسالم والساذج ربما نوعا ما، فعنوان الفيلم بالتركية “صاف” تعني أيضا ساذج.

كامل الغارق في ضغوطه المالية يقرر رغما عن قناعاته الشخصية التي تعارض مشاريع الهدم؛ العمل سرا كسائق جرافة في أحد المواقع التي تدمّر المنطقة التي يعيش فيها، وما زاد الطين بِلّة سِرْقَته لعمل أحد اللاجئين السوريين الفقراء، بل وموافقته الحصول على راتب مخصص في العادة لهم وهي أقل من رواتب الأتراك، مما يضعه في مواقف شائكة وقاسية ونزاعات مع زملائه الأتراك ومع اللاجئ السوري ذاته، وذلك حين يعلمون كلهم بما فعل. هذا على الرغم من أن الجميع في سلة واحدة من الفقر والحرمان، لكن أين للعقل أن يجد طريقه والإنسان مهدد بفقدان كل شيء؛ منزله وقوته وعلاقاته؟

حين يختفي كامل لعدة أيام على نحو غير متوقع، ترتاب زوجته بالأمر وتبدأ عملية بحث عنه

كامل.. من مسالم إلى عدواني

المخرج وطن سفير أيضا مؤلف سيناريو الفيلم يصور دراما اجتماعية مأساوية ترصد فترة من التحول الكبير لمدينة كبرى، لكن أهم ما في الفيلم وما نجح به تماما هو تناوله لمدى مساهمة تلك العناصر التي تغير المشهد الحضري بتدمير رجل عادي مثل كامل، فشعور الشفقة والندم وتأنيب الضمير بسبب حرمان عائلة فقيرة من مدخولها لأنه سرق عمل أحدهم؛ تدفعه لإحضار طعام لأسرة السوري، لكن هذا يرميه في وجهه فهو ليس متسولا بل لاجئ يحق له العمل كغيره.

هنا يبدأ التحول لدى كامل من الشفقة إلى الخوف من فقدان الوظيفة، ومن اهتمامه السابق بالآخرين إلى التفكير بنفسه، وشيئا فشيئا وبسبب تعرضه أيضا لضغوط العمل ومحاذيره وهذه البيئة الجديدة، يتغير كامل وتتغير علاقته مع المحيط، فمن شخص مسالم ولطيف ومحبّ يصبح شخصا يضمر العدوانية ضد من يعتقد أنه سيؤذيه يوما ما، وهو هنا اللاجئ السوري، إنها معركة من أجل البقاء. هذه التحولات الشخصية والمكانية تقود إلى مأساة.

ثمة تكرار لهذه القصة في الفيلم، تتضح صورة "الأجنبي" وتأثير وجوده على نفسية أهل البلد وعلى وضعهم الاقتصادي

ثيمة متكررة.. “الأجنبي” يزاحم المواطن

حين يختفي كامل لعدة أيام على نحو غير متوقع، ترتاب زوجته بالأمر وتبدأ عملية بحث عنه، وهنا يمكن اعتبار أن الفيلم مقسم إلى قسمين، في الأول يحتل “كامل” المشهد على نحو شبه تام، وفي الثاني ومن خلال عملية بحث “رمزية” عنه تغدو هي البطلة التي يُكشف عن شخصيتها وصراعها الذاتي أمام ما تعتقد أنه تهديد أيضا لعملها.

رمزية الزوجة أيضا تشعر -أو ثمة من يدفعها وينبهها إلى- أن المربية الرومانية التي تستعين بها الأسرة التي تعمل لديها هي كذلك “منافسة” لها، ولولاها لحصلت على العمل الذي تحبه، أي تربية طفل العائلة.

ثمة تكرار لهذه القصة في الفيلم، تتضح صورة “الأجنبي” وتأثير وجوده على نفسية أهل البلد وعلى وضعهم الاقتصادي، هذا بالطبع مع إدانة لوجهة النظر تلك، لكن مع محاولة لفهم دوافعها وتقديمها.

الفيلم له وجوه عدة وهو يربط بمهارة وعلى نحو مقنع ومتوازن خال من المبالغة بين المشاكل المتعددة التي يثيرها واقع قاس بجميع أبعاده

سينما اجتماعية لواقع قاس

الفيلم له وجوه عدة وهو يربط بمهارة وعلى نحو مقنع ومتوازن خال من المبالغة بين المشاكل المتعددة التي يثيرها واقع قاس بجميع أبعاده، من أزمة مالية ولاجئين سوريين وعلاقات مهنية وعائلية، إنها سينما اجتماعية تبدي سعي الفرد للبقاء بالبحث عن حلول تبدو في النهاية سيئة بسبب الظروف التي قيدت إليها، بل أُجبرت على اتخاذها.

المخرج قضى أربع سنوات لكتابة الفيلم، وفي حوار لموقع “سيني أوربا” قال إنه كان شاهدا على التحولات التي أصابت تلك المنطقة التي تشكلت بين الستينيات والسبعينيات، لكنها اليوم منطقة مركزية غالية. لقد كان على الناس تركها ليدعوا المكان لناطحات السحاب التي تبنيها الدولة. آلاف الأشخاص نُقلوا منها وآلاف المنازل هدمت، وكانت خصوصيتها بأن اللاجئين بدؤوا السكن فيها والعمل بأجور منخفضة، وهذا ما كان يثير المشاكل والخلافات.

لقد غادرت المنطقة طبقات محرومة، وحلّت مكانها طبقات محرومة أخرى، إنه نفس القدر لمجموعتين لكن هذا لا يعني تضامنا بينهما.

والسؤال الأساسي الذي يطرحه المخرج علي وطن سفير هو كما يقول: “كيف نبقى إنسانيين ونحن محاطون بالوحوش؟ وكيف نبقى أنقياء عندما يجبرنا العالم على أن نكون في جهة أو في أخرى؟”.