“الكولونيل ماما”

ضابطة شرطة غير تقليدية عالجت مشاكل متجذرة بطريقة غير تقليدية

قيس قاسم

لا غرابة أن يحصل فيلم “الكولونيل ماما” على جائزة “سينما الواقع” الفرنسية بعد حصوله على جائزة قسم المنتدى في مهرجان برلين السينمائي، ولا غرابة أن يُحتفى ويشاد بصانعه الكونغولي “ديودو حمادي” في عديد من المناسبات بعد تسجيل اسمه في قائمة أهم المخرجين الأفارقة، لارتقاء مستوى عمله إلى العالمية وبخاصة وثائقياته الأكثر تضمينًا لشروط العمل الاحترافي. لا تنقصها الجمالية، ناهيك عن الموضوع وربما من قوته الاستثنائية يأتي تميزه عن باقي السينمائيين المشتغلين في نفس حقله. ظهر ذلك جليًا في فيلمه “الكونغو في أربعة مقاطع”، وفي “أتالاكو” أيضًا، وتوج بعد عرض منجزه الأهم، باتفاق أغلب النقاد؛ “امتحانات الدولة”، وفي وثائقيه الأحدث يتصدى لموضوع شائك يتعلق بالعنف الجسدي والانتهاك الجنسي للأطفال والنساء. حرص فيه على عرض بعض الجوانب بشجاعة مستندًا في بنائه إلى فهم جيد لدوره كسينمائي لا يتعكز على الذرائع بل المثابرة على إنجاز أفلام تنتمي إلى جنس “سينما المؤلف” حيث يتولى هو بنفسه القيام بدور المخرج والمصور وكاتب السيناريو والمونتاج.

ومع ذلك تأتي عالية الجودة، متنها الحكائي والسردي غني لا يشكو من خواء أو شكلانية. واللافت فيها أنها لا تراضي جهة أو تُحابي توجهًا، فتراها محلية صرف، كـ Mama Colonel، الذي يصلح أن يكون مثالاً لنوع المنتج السينمائي المطلوب صنعه في “العالم الثالث”، المستند بالضرورة إلى فهم صانعه لواقعه وتقديمه كما هو بروح نقدية مسؤولة تشير إلى مواطن الضعف، لكنها لا تنسى إظهار الكامن فيه من قوة دفع. تجسدها في فيلمه الضابطة الكونغولية “سيكويدا أونوريه” التي وبسبب قوة شخصيتها وإخلاصها في عملها وتعاطفها مع الضحايا وأغلبهم من النساء والأطفال، أُطلق عليها لقب “الكولونيل ماما” فهي ضابطة في وحدة “حماية الطفل ومكافحة العنف الجنسي” وأم لسبعة أطفال ثلاثة منهم تبنتهم ورعتهم. شخصيتها المتفردة تغوي بعمل بورتريه عنها لكن المخرج الجيد مثل “حمادي” يعرف كيف يتجاوز تلك الغواية إلى ما بعدها، ومن خلالها يمكن رسم “بورتريه” آخر مواز للكونغو التي نراها اليوم مرصودة بعين نبهه ومرسومة بفرشاة سينمائي حاذق استغل وجود نموذج رائع وراح يتابع مساره.

حفاوة استقبال سكان مدينة “بوكافور” الكونغولية لـ”الكولونيل ماما”، تشي بمكانتها عندهم، وحزن نسائها العميق على خبر انتقال عملها إلى منطقة أخرى يكشف حجم ما قدمته لهن ولأطفالهن من خدمات خففت كثيرًا من معانتهن. فيما اكتفت هي بوعد قطعته على نفسها بأن لا تنسى المدينة وستعود يومًا إليها بعد أن تحقق ما حققته لها في المكان الجديد. في مشهد يتبعه مباشرة، نراها بصحبة أفراد من وحدتها الخاصة تهرول وسط شوارع المدينة شبه المقفرة فجرًا، ومن خلال الصورتين يرسم “حمادي” ملامح أولية لشخصية تجمع بين اللّين والقوة. خطبتها أمام حشد الناس يكشف عن طلاقة لسان وحكمة تكتنف جملتها لا تتوافق عادة مع العاملين في سلك الجيش والشرطة وبسببها ربما حظيت بقبول شعبي. فالفعل عندها مقرون بالتوضيح وتوفير القناعات، لا بقوة السلطة الممنوحة لها فحسب.

لهذا تبدو شخصيتها أقرب إلى “الواعظ” منها إلى ضابطة شرطة عادي. انتقالها إلى مدينة “كيسانغاني” جاء بناءً على حجم المشاكل فيها وارتفاع مستوى الاغتصاب وانتهاك الأطفال جسديًا بين سكانها والحاجة إلى ضابط قادر على تجاوز حدود وظيفته التقليدية. بمعنى آخر اختارت الحكومة “موظفًا” قادرًا على تعويض ضعفها على أكثر من مستوى وكل ما سيحققه فيها سيُجير لصالحها. تدرك الضابطة ذلك لكن حماستها لمساعدة الناس واستجابتها لنداء ضميرها الحي تُنسيها تكتيكات الحكومة وألاعيب رجالاتها وتجعلها تركز أكثر على تحقيق استراتيجيتها “الإنسانية” المتحققة بأبسط الوسائل. تعرف “ماما” واجبها “المهني” وتعرف كيف تتجاوزه نحو الأحسن وبالتالي يحيلنا الوثائقي للوقوف أمام شخصية نادرة تجمعت فيها خصال أهلتها لخوض مجابهات مع موروث ثقيل من حروب وصراعات مسلحة وإيمان شعبي راسخ بالخرافات وعنف مستشر.

خاضت مجابهات مع موروث ثقيل من حروب وصراعات مسلحة وإيمان شعبي راسخ بالخرافات وعنف مستشر.

كان عليها مجابهة كل ذلك وأصرت على الانطلاق في عملها، وقبل كل شيء بتأهيل بناية مهملة وجعلها صالحة للسكن بالحدود الأدنى. من بين تكتيكاتها العملية تولي كل قضية بنفسها. تتابعها وتحرص على إنهائها بالكامل. أسلوب عمل أجبر العاملين معها على احترامها كضابطة/ امرأة وكقائدة فذة تعرف كيف تنتقدهم وتمنعهم بحكمة من استغلال سلطتهم. ديناميكيتها سهلت على الوثائقي مهمة رصد تحركاتها على الأرض لكنها صعبت من قدرته على التكثيف وأخذ المناسب من القصص لرصد حال البلاد عبرها. ف”حمادي” أراد منذ البداية أن يتجاوز العينة “الشخصية” إلى عينات “اجتماعية” أكبر ليخلق بهما معادلة سينمائية مقنعة تجمع النموذج والوسط، الذي تحقق فيه الضابطة ما يصعب على غيرها تحقيقه.

وسطها الجديد جُل مشاكله بسبب الحرب. فالمدينة شهدت معارك طاحنة خلال ما يسمى بـ”حرب الأيام الستة” التي أعقبت “حرب الكونغو الثانية”. خلال أيام قليلة جرت عمليات إبادة جماعية ضد سكان المنطقة وقام جنود الجيشين الأوغندي والرواندي، بعد سيطرتهم عليها باغتصاب مئات من نسائها وتشريد أعداد كبيرة من أطفالها، ناهيك عن تركهم وراءهم آلاف الرجال المعوقين جسديًا. حين وصلت لم يجرِ حديث عن الاغتصاب أمامها فالصمت سمة عامة للمغتصبات. لكنها لاحظت وجود أعداد كبيرة من النساء بلا عمل ولا مأوى، يطلبن المساعدة ولا يحصلن عليها. شجعتهن على الكلام أمامها، فالمغتصبة الساكتة كما علمتها التجربة، قد يؤدي سكوتها بها إلى الجنون! حكمة أقنعت بها مئات النساء اللواتي صرن يتوافدن على مكتبها ويسردن أمامها بحرية ما جرى لهن. ليس في المدينة طبيب نفسي فصارت الضابطة هي الطبيب ولا فيها دائرة لرعاية الشؤون الاجتماعية فجعلت من مركزها مؤسسة للمحتاجين إليها. نقلت المغتصبات إلى المكان الذي أهلته وبهذا أدركنا سبب حرصها على تجهيزه سريعًا حال وصولها. بصيرة الضابطة محيرة فهي تدرك بحسها موطن الخطأ وتعرف كيف تعالجه وكيف تقنع الأطراف المشاركة فيه بصحة قرارتها. ضرب الأطفال وتسليمهم إلى “المشعوذين” لتخليصهم من “القوى الساحرة” المستلبة لهم واحدة من المهام التي لم تتورع ” الكولونيل ماما” عن وضع حد لها.

وجدت الكولونيل ماما طريقها إلى قلوبهن فبحن بما كن يكتمنه من مواجع بعد اغتصابهن

عَلَمت سكان المدينة على الاتصال بها ليل نهار والإبلاغ عن حالات الضرب والتعنيف الجسدي للأطفال. مداهماتها لبيوت المشعوذين أفلحت في تحرير عشرات الأطفال وأقنعت مخاطبتها السلمية لأمهاتهم بضرورة رعايتهم وعدم تركهم لقمة سائغة للسحرة المنتفعين منهم. أكبر مشكلة واجهتها في عملها هي ضعف التضامن المجتمعي بين سكان المدينة البائسة، ورغم ذلك طلبت من المشتغلين فيها تقديم ما يمكن تقديمه لسكنة “البيت المفتوح”. يتوقف الوثائقي عند آثار ما بعد الحرب. فالأنانية غالبًا ما تطغي والميل للعنف يزداد وتقل معه المصارحة والبوح. راهنت الضابطة على مخاطبة الضمائر ونجحت كثيراً. كل مخاطبة مفيدة وكل رجاء قد يصل إلى القلب. أين تعلمت كل تلك الحكمة؟ لم نعرف ذلك فصانع الوثائقي كان مهموماً بالواقع لا بمصادر ثقافة الشخصية الرئيسية فيه. فالحروب والفقر يفرزان نتائج تشغل الناس عن الالتفات إلى مزايا الآخرين وتتركهم يدخلون، رغم ما هم به من سوء، في مشاكل جانبية دافعها الأساس قلة الحيلة والحاجة. فالمعوقون جسديًا بسبب الحرب يعتبرون النساء المغتصبات طفيليات عليهم وأنهن مُدعيّات ضررا لم يطل أجسادهن. في صراعها للتوفيق بين الأطراف المتضررة ظلت تقدم “ماما” ولم تمل دروسًا غنية بعمقها الإنساني والتضامني. وللتخلص من الأنانية والتنافس على القليل راحت تشجع النساء الفقيرات على العمل وإعالة أنفسهن وأطفالهن بأيديهن.

استنقذت الأطفال مرتين: من براثن المشعوذين، ومن مصير مظلم

لا يخفي الوثائقي تضامنه الأنثوي، وربما الحقائق هي وراء ميله، فالنساء المغتصبات حين عرض عليهن رعاية الأطفال المُحرَرين من أَسر المشعوذين قبلن الفكرة بكل ترحاب لأنهن ببساطة أمهات وما زالت روح الأمومة قوية داخلهن. تصويره للعلاقة الناشئة بينهن وبين الأطفال تنقل الوثائقي إلى مستويات عالية فيها الشعرية طاغية والكاميرا متحررة تنطق بأجمل المشاهد والمونتاج يلعب لعبته المفضلة في تكثيف النهايات فينقلنا إلى غرفة مكتب الضابطة لحظة دخول مجموعة نساء عليها. قدمن لها الشكر وكمية من المال حصلن عليه من عملهن كهدية متواضعة للمعتزين من أهل المدينة. لحظة مؤثرة أرادها “ديودو حمادي” خاتمة لأوجاع كثيرة مرت أمامنا ونُقلت لنا بأعلى درجات السرد البصري المدهش.