“اللعبة”.. أطفال يمنيون يصلحون طباع مهرب صربي

قيس قاسم

أشاع مهاجرون صغار السن أثناء محاولاتهم التسلل إلى بعض أراضي دول أوروبا الشرقية بهدف الوصول عبرها إلى دول غربية تمنحهم حق اللجوء؛ مصطلح “لعبة”. إذ اعتبروا محاولات الكر والفر بينهم وبين شرطة تلك الدولة لعبة، إذا عبروا الحدود فازوا بها، أما إذا فشلت محاولة عبورهم ووقعوا في قبضة شرطة الحدود فيكونون قد خسروها.

اشتدت هذه اللعبة خلال موجات الهجرة الكبيرة في السنوات الأخيرة، وبشكل خاص من الدول العربية مثل سوريا والعراق واليمن إلى أوروبا، وسرعان ما انتقلت إلى السينما بمعالجات مختلفة لقصصها التي غلبت عليها الواقعية والنقل المقارب للوقائع والتجارب الشخصية.

 

تدور واحدة من تلك القصص الخارجة عن المألوف حول طفل مهاجر نشأت بينه وبين مُهربه الصربي علاقة إنسانية التقطتها المخرجة الصربية “آنا لازاريفيتش”، وأنجزت عنها فيلما قصيرا عنوانه “المُهرب” (The Runner) عام 2011، ثم عادت عام 2021 وطورت الحكاية إلى فيلم روائي طويل يحمل هذه المرة عنوانا يحمل التعبير ذاته الذي ابتكروه خلال رحلاتهم المؤلمة؛ “اللعبة” (The Game).

المهرب والمهاجر.. مسار العلاقة المنفعية المتعرجة

أبطال فيلم المخرجة “آنا” يمنيان، وهما الصبي يوسف (الممثل يوسف الخالد)، وشقيقه الصغير حامد (الممثل حامد حمدي)، ومُهرِب اسمه “ستراهينيا” (الممثل برانيسلاف تريفونوفيتش، وهو المحترف الوحيد بين الممثلين الرئيسيين)، وأحداثه مكانيا تقع داخل صربيا وعند حدودها مع هنغاريا.

تتطور العلاقة بين الطرفين ببطء، وتتسرب تفاصيلها عبر مسار متعرج مرتبك، مثل محاولة عبور المهاجرين المحفوفة دوما بأخطار حقيقية. تبدأ في السياق السردي للفيلم بطرفين أساسيين، هما المُهرب وعائلته، والأطفال المهاجرون الذين يريدون الوصول أولا إلى هنغاريا، ثم بعدها إلى أي بلد غربي يمكنهم فيه الحصول على حق الإقامة.

المُهرب الصربي “ستراهينيا” رفقة الصبيين اليمنيين يوسف وحامد

 

كل طرف علاقته بالآخر لا تتجاوز منافع متفق عليها، لكنها بسبب التعقيدات المحيطة بها قابلة لعبور إطارها الظاهري إلى ما هو أبعد.

تحقيق الأوهام.. رهان خاسر على ألعاب المقامرة

لا تعول صانعة الفيلم على استعادة الأحداث الدموية والحروب التي تجبر أطفالا على ترك عوائلهم والمجازفة بالرحيل لوحدهم إلى مناطق بعيدة لا يعرفون عنها شيئا، بقدر تعويلها على نقل الحالة الإنسانية الناشئة بين الأطفال وبين مهربهم بأسلوب لا تضخيم فيه ولا مبالغة.

لتحقيق ذلك دراميا تُمهّد لعرض أسباب إقدام رجل صربي متزوج وعنده ولد صغير على عمل غير قانوني لا يخلو من مخاطرة، فالرجل يطمح لعيش مترف لا يتناسب مع إمكانياته الاقتصادية الضعيفة بسبب بطالته، ومن أجل تحقيق أوهامه يلجأ إلى المقامرة، لكن رهاناته على الألعاب بما فيها مباريات كرة القدم غالبا خاسرة، ولانشغاله بها كان يهمل واجباته العائلية، ويتأخر في الذهاب إلى المدرسة لجلب ابنه منها بعد انتهاء دوامه المدرسي فيها، ويحاول شراء شقة سكنية غالية لا تتناسب مع دخله، فتبدو تصرفاته لا معنى لها أمام زوجته، بل تشير إلى رعونة وعدم مسؤولية.

“ستراهينيا”.. عالم المهرب المختلف عن الآخرين

في المشاهد الأولى تبدو العلاقة بين الزوجين مشرفة على نهايتها، والذي يسرع في الوصول إليها كثرة غياباته في الليل من دون تقديم أسباب وجيهة تقنع الزوجة.

المُهرّب الصربي الذي جاء إلى تهريب البشر بدوافع الجشع والرغبة في تحقيق الربح السريع

 

في السياق الدرامي للتوتر المتصاعد بين الزوجين، يظهر الزوج الثلاثيني “ستراهينيا” في لقطات بارعة (تصوير “يواكين نيرا” المعتمد كثيرا على كاميرا محمولة) وهو يتبع في سيارته مهربين يقومون في جنح الظلام بنقل لاجئين من الحدود الصربية إلى هنغاريا، بينما يقوم هو بدور المساعد لهم مقابل مبالغ بسيطة يُضيّعها في القمار. أداؤه كمساعد للمهربين وتهريبه بعض البضائع بين صربيا ودول مجاورة لها لا يحظى برضا كبار المهربين لعدم انضباطه وقلة خبرته.

المراد من تشكيل المناخ المحيط به بدقة هو عرض نموذج لمهرب بشر مختلف عن البقية، فقد جاء إلى هذا الحقل غير القانوني بدوافع الجشع والرغبة في تحقيق الربح السريع، على حساب بشر لا يتوانون عن تركهم عرضة للمهالك.

مشهد الشرطة الصربية.. ورطة المهرب الذي تخلت عنه عصابات التهريب

لإكمال صورة الجانب المختلف عند المهرب يجلب النص (السيناريو أيضا للمخرجة) الطرف الثاني إلى مركز الأحداث، ويقوم بجمعهما في بؤرة درامية واحدة، وذلك في مشهد تسوده الفوضى، جراء اكتشاف دورية شرطة صربية للمهربين المتعاون معهم، حيث يضطر تحت ضغط تهديداتهم إلى أخذ اثنين من المهاجرين معه في سيارته لينقلهم بنفسه إلى الطرف الثاني من الحدود.

الأشخاص الذين كانوا على صلة به من طرف عصابات التهريب تخلّوا عنه وتركوه يواجه محنته لوحده، وقد تأكد له بعد عدة محاولات جهله بالطرق السرية التي يتخذها المهربون ممرا لتوصيل المهاجرين إلى الحدود، ومن هناك يتركونهم يجربون حظهم في عبور النهر العميق الفاصل بين صربيا وهنغاريا.

ضياع المُهرب الصربي في الطريق بعد أن وجد نفسه في ورطة بعد أن تخلت عنه عصابات التهريب حين جاءت الشرطة

 

لقد وجد المهرب نفسه في ورطة لا يعرف كيف سيتخلص منها، فحيرته وضياعه يدفعانه للغضب من يوسف وشقيقه الصغير اللذين وجدا نفسيهما بجواره في السيارة أثناء مطاردة الشرطة للمهربين.

عرض رسوم الصبي للرجل العبوس.. محاولات لكسر الحواجز

رغم سلوكه الفج معهما، ظلّ اليمنيّان محافظان على سويتهما، يمزحان معا ويرعى الأخ الكبير شقيقه الصغير ويستجيب لطلباته، لا يتركه لحظة لوحده، ويبقى معه داخل السيارة أثناء بحث المهرب عن مخرج يوصله إلى النهر، وفي الليل يبقيه إلى جانبه ليطرد عنه كوابيس تأتيه في منامه.

بعفوية كان حامد يقترب من المهرب ويحاول الحديث معه أو إشراكه معه في ألعابه الصغيرة، حيث يقدم له الطفل الصغير ما يرسمه على الورق، ومن طرفه كان الرجل الصربي يهملها ولا يعيرها اهتماما، لعدم فهمه أبعادها النفسية ودلالتها المعبرة عن خوف طفل من الضياع بعيدا عن والديه.

 

 

من جانبه كان يوسف يسامره ويسأله عن جوانب من حياته الشخصية رغبة منه في تقضية الوقت، كان يريد كسر حاجز صلد بناه الرجل العبوس لنفسه، ولم يتراجع الصبي الذكي عن اختراقه.

مراهقون على قلب رجل واحد.. ارتباك المُهرّب

بعد طول بحث وفشل في العثور على المسالك السرية، يقترح يوسف على المهرب أن يذهب إلى المدينة لمقابلة أصدقاء له ينتظرون مثله عبور الحدود، ففي شقة وسط مدينة صربية يجد المهرب نفسه وسط مجموعة من المراهقين من بلدان مختلفة يجتمعون على قلب رجل واحد، ويتعاونون فيما بينهم على تسهيل أمورهم في الغربة، يتدبرون عيشهم ويتواصلون عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع بقية منهم نجحت قبلهم في الوصول إلى دول غربية، ويأملون في لقاء قريب معهم.

الروح المتفائلة والعشرة الطيبة أثارت أسئلة عند المُهرب وحيرة في آن معا. من أين يأتي هؤلاء بكل تلك الطاقة الإيجابية، وكيف يقدرون على صنع الفرح والغناء؟

مراهقون مهاجرون من عدة بلدان عربية يتواصلون عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع بقية منهم نجحت قبلهم في الوصول إلى دول غربية

 

قدرتهم على التعاطي مع التكنولوجيا الحديثة والتواصل عبرها مع غيرهم بسهولة، تزيد ارتباك المهرب وتخلخل أحكامه المسبقة حول المهاجرين القادمين من الشرق.

يوسف النبيل والصبية الصربية.. قصة حب دافئة

تنشأ علاقة عاطفية في ذلك المكان العابر بين يوسف وصبية، وتأخذ حيزا من مساحة الفيلم الرائع، إنها علاقة صادقة بدأت في اللحظة التي وقف معها وهو في طريقه إلى الشقة ضد صديقها القديم الذي كانت تريد إنهاء العلاقة معه، لكنه كان يجبرها بالتهديد على مرافقته.

أحبت الفتاة الصبي اليمني لموقفه النبيل وراحت تزوره، لقد وجد المهرب فيه أثناء المكوث معه في المدينة صبيا رومانسيا متعلما ونزيها في علاقته بالصبية الصربية، لهذا راح يمازحه ويعيب عليه رومانسيته الزائدة في علاقة عابرة لا تتحمل جدية عالية، بينما كان الصبي اليمني يجد فيها دفئا إنسانيا يتجاوز الحدود ويلغي المسافات.

كرة القدم.. لُعبة تكسر الحواجز وتوطد العلاقات الإنسانية

يتفاجأ “ستراهينيا” بمهارات المجموعة التي تكلف بنقلها كلها مقابل مبلغ مادي اتفق عليه مع يوسف، رغم أنها سلمت مبلغا مماثلا في السابق لمهربين لم يفوا بوعودهم وهربوا. أكثر تلك المهارات جذبا له هي كرة القدم، ومن دون كثير تحفظ نزل معهم ولعب بكرة مطاطية نساها ولده في السيارة، وجاء حامد ليأخذها ويلعب بها.

اللاجئ اليمني يوسف المُتسم بالذكاء ونبل الأخلاق يستعد للعب كرة القدم

 

يشي المشهد بعلاقة ناشئة أخرى تتجاوز علاقة مهرب بلاجئين، إنها اللحظة التي تُلغى فيها الفوارق العرقية، وتحل محلها روابط إنسانية. وفي المدة التي بقي فيها المُهرّب معهم أدرك أن كلمة “لاجئ” ليست علامة فارقة لإنسان عن آخر، بل هي توصيف لحالة طارئة يضطر فيها الإنسان لترك وطنه.

سلوك الصبيان الراقي أشعره بخذلان ما كان يتصوره عنهم، لقد عثر عندهم على الحب الذي كاد ينساه، وأنهم مثل بقية البشر يريدون العيش بسلام، فهم يحبون الموسيقى ويتعلمون الأشياء الجميلة بسرعة، إنهم مراهقون مثلهم مثل أمثالهم في كل مكان، كل ما في سلوكهم يشير إلى رغبة فطرية في عيش اللحظة الحياتية بكل أفراحها وأحزانها. بالقيم النبيلة التي يحملونها معهم، وتتجسد في علاقة يوسف بشقيقه الصغير وبصديقته الصربية.

حبل عبور النهر إلى الجانب الآخر.. مفاجأة تفسد الخاتمة

بالتعاون بين اللاجئين وبين المهرب يصلون إلى الطريق المؤدية للنهر، وعلى ضوء ما سمعوا من أصحابهم من قبل فقد اقترحوا ربط أنفسهم بحبل واحد، ثم النزول إلى النهر بغية العبور إلى الطرف الهنغاري منه، وقد تشجع المهرب ومضى معهم في مغامرتهم.

وسط النهر شعر أحدهم بصعوبة في التنفس وكاد يغرق، فهرع المهرب لنجدته، حتى وصل مع من كان معه إلى اليابسة، بينما ظل يوسف لوحده في الطرف الآخر، وبعد لحظات قصيرة من وصولهم وفي انتظار عبوره، وصلت دورية شرطة وألقت القبض عليه، وقد أشبعوه ضربا وسحبوه بالقوة إلى سيارتهم.

الطفل اليمني الصغير حامد في يستعد لمغامرة خطيرة لعبور ضفة النهر والوصول للطرف الهنغاري

 

مشهد مؤلم يشير إلى سلوك عنيف تمارسه الشرطة في دول البلقان ضد المهاجرين لا مبرر له، فهي لا تعامل الطامحين في عبور حدودهم إلا كمجرمين، تلاحقهم  في كل بقعة يريدون النفاذ منها إلى وجهتهم النهائية طلبا لخلاص.

مشهد ما تعرض له الصبي النبيل أثر كثيرا بالمهرب، وسيظل راسخا في ذهنه حتى بعد عودته إلى بيته.

تشبث بمتعة الحياة رغم مرارة الهجرة.. دروس اللاجئين

تركت تجربة المهرب التي أمضاها مع المهاجرين الصغار أثرا كبيرا، وعلمته درسا بليغا، فرغم صغر سنهم وشدة الأخطار التي يواجهونها، فقد ظلوا متمسكين بحبهم للحياة، وبحثهم الشجاع عن مكان آمن يقضون فيه بقية حياتهم، بينما هو يضيّع بتصرفاته المتهورة فرصا متوفرة للسعادة.

في المشهد الأخير يظهر “ستراهينيا” واقفا قرب المدرسة التي وصل إليها في الوقت الصحيح مناديا زوجته باسمها، وكأنه يعلن عن رغبته في استعادة علاقته بها وتصحيح ما خربه بنفسه، وذلك بفضل ما تعلمه من أطفال يمنيين تشبثوا رغم مرارة الرحيل من الوطن بكل ما هو جميل في الحياة.