“المؤامرة البحرية”.. مافيا عالمية تهدد الإنسان والقرش والكوكب

قيس قاسم

يتدرج المخرج علي تبريزي في الكشف عن المخاطر التي تحيط بالبحار من الأصغر إلى الأكبر، متخذا مسارا تصاعديا في بحثه يعتمد على التجربة والاستنتاج والانتقال من نقطة إلى أخرى، ورغم الطابع العلمي لوثائقيه “المؤامرة البحرية” (Seaspiracy)، فإن انطباعاته وحضوره الشخصي لا يفارقان مساره.

نراه طيلة زمن الفيلم حاضرا، معلقا على ما يتوصل إليه من حقائق صادمة، أو ما يدفعه لمزيد من البحث والتقصي، وغالبا ما قادته دروبه إلى مناطق خطيرة تعرض حياته للخطر، وكان يضطر بسببها إلى استخدام الكاميرات الخفية تجنبا للمساءلة وتخلصا من شرور العصابات المنظمة.

تجواله ورصده الدقيقان للتحولات الدراماتيكية التي تشهدها الأحياء البحرية؛ يقودانه إلى استنتاج قوي، يفيد بأن عمليات الصيد التجاري البحري هي المسبب الرئيس لما تشهده البحار والمحيطات من خراب بيئي ووجودي، مما يؤثر سلبا على الوجود البشري برمته، لشدة التشابك بين حياة البحر واليابسة.

 

خليج تايجي.. جرائم جماعية تحت أعين الشرطة

نشاط علي تبريزي التطوعي في تنظيف وتخليص السواحل البحرية من مخلفات البلاستيك -الذي كان لزمن طويل يظنه هو المسبب الأول في نفوق الحيتان وبقية الأسماك-؛ قاده للبحث المستمر في بقية الأسباب التي تؤدي إلى نفوق الثدييات البحرية على وجه الخصوص.

وجد تبريزي أن اليابان -رغم القرار الدولي بمنع صيد الدلافين تجاريا- ظلت من بين أكثر الدول صيدا لها، ووجد أن ثمة نوعا من الحماية توفره سلطاتها للصيادين للتستر على أمرهم، لذا قرر الذهاب إلى خليج تايجي سيء السمعة والمعروف بوحشية تعامل صياده مع الدلافين، ليتحرى ويتوصل إلى مقاربة حساسة بين حجم الخطر الذي تتعرض له الحيتان والدلافين في اليابان وبين درجة تأثير نفايات البلاستيك عليها.

عند وصوله إلى تايجي لفت انتباهه شدة مراقبة الشرطة لها، ومنع الأشخاص من الاقتراب من موانئها وخليجها، ولا تنحصر رقابة الغرباء بالمكان، بل في كل بقعة يصل إليها الزائر، فقد نصبت في الفندق والشارع كاميرات مراقبة ووُضعت علامات على الطرق تحذر من الاقتراب من تايجي.

مذابح للحيتان في آيسلندا في جو احتفالي

صائد التونة.. حرب ضد منافس الإنسان

يقرر المخرج الفضولي الدخول إلى تايجي سرا تصوير ما يجري هناك من بعد بكاميرا حرص على إخفائها عن أنظار الشرطة والحراس، وقد وثق عمليات إبادة للدلافين المحصورة داخل الخليج، لكن الغريب في المشهد أن الصيادين كانوا يرمون أكثر لحومها للبحر، ويأخذون أعدادا قليلة منها.

وقد قاده السؤال عن السبب إلى معرفة حقيقة أخرى صادمة، مفادها أن الصيادين لا يستهدفون الدلافين لأغراض تجارية، بل يقتلونها لأنها تنافسهم على صيد سمكة التونة ذات الزُعنفة الزرقاء الغالية الثمن، إذ يصل سعر الكيلو الواحد منها إلى آلاف الدولارات.

تسلل تبريزي ومعه ناشطة بيئية إلى ميناء قريب من تايجي، وصور عمليات تجهيز أسماك التونة لبيعها في الأسواق، ليكتشف أن تجارة صيد الدلافين الزرقاء أيضا تدر أرباحا بالمليارات، وأن شركة ميتسوبيشي -صاحبة أكبر وحدات صيد التونة في اليابان- تسببت لوحدها في إبادة ٤٠٪ من نوعها، وأن الباقي منها في البحار لا يزيد عن ٣٪ من حجم وجودها الطبيعي.

من الحقائق الأخرى التي اكتشفها تبريزي أن بعض الدلافين يباع وينقل إلى أحواض السباحة التجارية، فعروضها المُسلية تجلب كثيرا من الزوار، ولكنها تسهم في تسريع نهايتها.

عبودية على أسطح سفن صيد القريدس

صيد القرش.. إخلال تدريجي بالنظام البيئي

يحاول صناع الوثائقي الأمريكي (من إنتاج منصة نتفليكس) بعد كل كشف مثير، مقابلة مسؤولين في الشركات ذات الصلة بالموضوع، ولكنهم يواجهون دوما الصمت أو الرفض الصريح لمقابلتهم، والغالب الطرد بالقوة من قبل حراسها.

السؤال عن التضحية بالدلافين في سبيل الحصول على التونة قاد الوثائقي الأمريكي إلى اكتشاف تجارة أخرى أشد فتكا بالأحياء البحرية، تتمثل بصيد أسماك القرش لأخذ زعانفها، ورمي بقية لحومها.

يقابل صانع الوثائقي علماء بحار يشرحون له آثار عمليات صيد الأسماك الكبيرة على التغيُّرات المناخية، ويتضح أن حركتها النشيطة وخروج الثدييات منها إلى السطح للتنفس يسهم في تقليل كمية جزيئات الفحم الضار الموجود في الغلاف الجوي، كما أن وجودها يحافظ على التوازن البيئي، بينما يخل صيدها التجاري به، والقضاء عليها يسمح لبقية الأسماك التي هي أصغر منها قليلا وغالبا ما تكون طعاما لها بالتكاثر غير الطبيعي.

في النهاية زيادة أعداد الأسماك الصغيرة، بسبب صيد القرش والدلافين يؤدي إلى اختفاء أسماك وأحياء بحرية، ومن دونها يختل التوازن الدقيق الذي ظل قائما لملايين السنين.

خليج تايجي سيء السمعة

حساء زعانف القرش.. تجارة مربحة في هونغ كونغ

سيقود الاتجار بزعانف القرش تبريزي إلى هونغ كونغ، بوصفها واحدة من أكبر أسواق بيع الزعانف في آسيا، وتكشف جولاته في أسواق خاصة ببيعها مجففة حجم صيدها الهائل، إذ توجد أكوام منها معروضة في المحلات، وفي المخازن تتكدس الأكياس المليئة بها، أما في المطاعم فإن سعر صحن واحد من حساء زعانف القرش قد يبلغ مئة دولار.

الأرقام التي يقدمها علماء الأحياء البحرية مخيفة، فخلال كل ساعة يُقتَل حوالي ٣٠ ألف قرش في العالم، والكثير منها يدخل في شِباك صيد السفن العملاقة وينفق. ستقود الوثائقي المعلومات الجديدة للبحث في موضوع الشِباك العملاقة والصيد التجاري الواسع النطاق.

التضحية بالدلافين من أجل الحصول على أسماك التونة غالية الثمن

إبادة الدلافين.. أضرار جانبية لتجارة التونة

ينطلق بحث تبريزي من حقيقة أن استهلاك الزعانف يكاد ينحصر بدول آسيوية محددة، أما الصيد البحري الواسع فلا يعرف حدودا، لأن الإقبال على استهلاك الأسماك كغذاء هو أسلوب حياة كوني الطابع.

يثبت الوثائقي في البداية كذب ادعاء شركات الصيد العملاقة بأن الأسماك الكبيرة تدخل شِباك سفنهم بالصدفة، فالرصد والمعلومات المقدمة من منظمات حماية البيئة البحرية والناشطين تقول بعكس ذلك تماما، فعمليات الصيد التجاري لم تراع أحجام الأسماك، والتوجه لصيدها يتسع مع مرور الوقت.

بلغة الأرقام يوجد اليوم حوالي ٤ ملايين ونصف مليون سفينة صيد تجاري في العالم، والسفن الفرنسية منها -على سبيل المثال- تقتل من الدلافين عشرة أضعاف ما يقتله اليابانيون في خليج تايجي، ومن أجل الحصول على ٨ سمكات تونة كبيرة فقط، يدخل أثناء صيدها في الشِباك حوالي ٤٠ دلفينا. وفي آيسلندا تجري عمليات قتل الدلافين والحيتان في أجواء احتفالية ترصدها كاميرات الوثائقي بكل دمويتها ووحشيتها.

من أجل زعانفها أسماك القرش تدفع الثمن

أكاذيب الصيد الآمن.. تواطؤ المؤسسات الرسمية

يُكَذب الوثائقي خرافة الصيد الآمن للدلافين، ويكشف تواطؤ بعض مسؤولي المؤسسات المانحة علامات تجارية (لوغو) تؤكد للمستهلك سلامة صيد التونة وعدم إيقاع الدلافين في شباكها.

يستقصي الوثائقي الحقائق ويكتشف استفادة تلك المؤسسات ماديا من أصحاب مصانع تعليب التونة، لدرجة شكّل فيها الدعم المقدم من أصحاب مصانع تعليب التونة قرابة ٨٠ ٪ من ميزانيتها السنوية.

كما يكشف الخلل المريع في تفسير مفهوم الصيد المُستدام لدى مؤسسات دولية تعجز عن تحديد العدو الرئيس للبحار، ومن بعد للإنسان المتضرر الأكبر من نقصان المخزون الغذائي البحري بمستويات لم تعرفها البشرية من قبل، وهو ما يهدد بانقراض أكثر الأسماك بحلول العقد الخامس من الألفية الحالية، ويهدد أيضا الوجود البشري إذا ما بقي الصيد التجاري البحري على مستوياته الموجودة اليوم.

تبريزي يرافق سفن النشطاء البيئيين في أفريقيا

شباك البلاستيك.. أضرار جانبية توازي جرائم الإبادة

من المفارقات الصارخة أن كثيرا من الأحياء البحرية النافقة ومن بينها السلاحف العملاقة وجدت في بطونها حبال وخيوط شباك صيد بلاستيكية، ولا يمكن مقارنة حجم أضرارها بكمية ما يرميه الإنسان من بلاستك في مياه البحر، وعلى مستوى أوسع تُمثل شِباك السفن العملاقة ٤٦٪ من حجم المشاكل الجدية التي تواجهها البحار.

ومن المفارقات الصادمة أيضا أن مجموع ما تصطاده السفن من الأسماك سنويا يبلغ حوالي ٢.٦ مليار سمكة في جميع أرجاء الكوكب، ويقابل ذلك مساحة لا تتجاوز ١٪ من مساحة مياه البحار حددت دوليا كمحميات، وحتى هذه المحميات أيضا هي معرضة لخروقات كبيرة يثبتها الوثائقي.

زراعة أسماك السلمون استهلاك متزايد للأسماك وتلويث للبحار

تصفية المراقبين.. ألاعيب مافيا البحار القاتلة

لا يقتصر خراب الصيد التجاري البحري الضخم على البحار، بل يصل إلى الإنسان عبر تشابك معقد يبرز من خلال الصلة العضوية بين الصيد غير الشرعي والمافيات، فالأرقام تكشف عن وجود واسع لسفن صيد تخرق القوانين بأساليب ملتوية مختلفة، ولا تهتم بالسلطات ولا بالمراقبين.

يذهب صانع الوثائقي لعرض جانب تراجيدي يتمثل بقتل الناشطين البيئيين وتهديد المراقبين البحريين، سواء على متن السفن المرخصة أو على غيرها، واستعانة بالأرقام والرسومات المتحركة لتقريب الصورة، يوضح الفيلم مقتل وتصفية أكثر من ٤٠ مراقبا بحريا خلال عام واحد، وأكثرهم جرى رميهم في البحر، وغالبا يدعي قَباطنَة تلك السفن أن موتهم جاء عن طريق حادث غير مقصود.

اختفى ٨ مراقبين قبالة ساحل بيرو، ولم تجد السلطات الرسمية لهم أثرا، وبعضهم تعرض للابتزاز والتهديد، ووصلت لقسم آخر منهم رسائل تهديد لعوائلهم وأطفالهم.

يترافق الصيد غير الشرعي مع تجارة المخدرات في الغالب، ودخول العصابات المنظمة على خطها، والأرقام وحدها هي التي تعبر عن حجم انتشار الصيد غير الشرعي، ففي المياه المقابلة للولايات المتحدة الأمريكية وحدها هناك سمكة واحدة غير شرعية من كل ٣ سمكات تدخل شباك سفنها.

عمالقة البحر.. نهب المياه الإقليمية للبلدان الفقيرة

لا ينحصر الصيد التجاري الضخم على تلك الجوانب التي ذكرنا، بل يتعداه إلى تخريب اقتصاد دول نامية وأفراد، وتجلي زيارة الوثائقي إلى عدد من بلدان أفريقية ذلك الجانب، إذ يقدم مقطع فيديو قديما يظهر فيه قراصنة صوماليون يصعدون على متن سفينة صيد عملاقة دخلت المياه الإقليمية الصومالية سرا، لغرض رمي شباكها العملاقة هناك.

ولكثرة السفن المتوغلة بشكل غير قانوني إلى عمق المياه الصومالية وجد الصيادون المحليون أنفسهم مع الوقت من دون رزق، فقواربهم الصغيرة لا يمكنها منافسة السفن العملاقة، فأصبحوا بلا عمل بعد أن انتهب منهم مصدر رزقهم الوحيد، لذلك توجهوا للقرصنة كحل يضعون به حدا لأوضاعهم المتدهورة.

يرصد الوثائقي أيضا منظمات بيئية نشطة تحاول كشف سفن القرصنة، وتتعاون مع الجهات الرسمية في بعض الدول الأفريقية لاقتحامها وإلقاء القبض على قباطنتها، ويرافق الوثائقي واحدة من تلك المحاولات الشجاعة.

كما يرصد أيضا في بلدان أفريقية أخرى ارتفاع نسبة موت الصيادين بسبب اضطرارهم نتيجة شح الأسماك في المناطق القريبة إلى الدخول في عمق البحر بقوارب صغيرة غالبا ما يكون مصيرها الغرق، وكُل من على متنها.

التسلل ليلا للمناطق المحظورة

مزارع أسماك السلمون.. صناعة مربحة

لم تكتف شركات صيد الأسماك بالصيد الجائر، بل عملت على خلق صناعة مربحة عبر زراعة الأسماك على نطاق واسع.

يدخل الوثائقي لمزارع أسماك السلمون في أسكتلندا، ويكتشف حجم الأضرار الناتجة عن تغذيتها، فمقابل إنتاج كُل كيلو غرام من سمك السلمون تستهلك السمكة أكثر من ٢ كيلو من الغذاء، والغذاء عادة مكون من طحين الأسماك، وهذا يعني زيادة الحاجة للصيد البحري.

إلى جانب ذلك تكشف الزيارة السرية عن انتشار للطفيليات القاتلة التي تتسبب في مرضها ونفوق أعداد كبيرة منها، كما تتسبب في تلويث مياه البحر.

فقراء آسيا يعملون كالعبيد على ظهر سفن الصيد

عمال سفن القريدس المختطفين.. عبيد البحار

يمتد الجشع المرتبط بتجارة الصيد إلى فقراء آسيا، إذ يعمل آلاف من العمال على ظهور سفن تنظيف وتعليب القريدس، وهم يعاملون كعبيد يبقون على ظهر السفينة سنوات، ولا يسمح لهم بمغادرتها، رغم أن أجورهم قليلة وأحيانا كثيرة لا تدفع لهم، وأي اعتراض من قبلهم يعرضهم للضرب أو حتى برمي المحتج في أعماق البحر.

هذا المشهد التراجيدي المؤلم يستدعي البحث عن حلول لظاهرة تدميرية يقف وراءها الصيد التجاري البحري الضخم، ورغم أن الحلول المقدمة من قبل المؤسسات والخبراء متباينة، فإن أكثرهم يتفقون على الدور الذي يمكن أن يلعبه الناس، وذلك من خلال تقليل استهلاكهم للأسماك.

بهذه الطريقة سينخفض حجم الطلب عليها، وبالتالي تقل الحاجة لصيدها، وهذه الوسيلة المقترحة كحل جزئي، تكتمل بحلول تتحملها الدول بالدرجة الأولى، مما يُتيح للبحار استعادة بعض عافيتها وتوازنها المُختَل اليوم بشكل مخيف.