“المتوسط.. قانون البحر”.. إسباني يحارب في المياه اليونانية لإنقاذ المهاجرين

قيس قاسم

كانت صورة جثة الطفل الكردي “آلان” المرمية على ساحل جزيرة يونانية بعد أن لفظتها مياه البحر إلى اليابسة صورة مؤلمة، وقد دفعت أحد رجال الإنقاذ الإسبان للذهاب إلى اليونان، من أجل العمل كمتطوع ضمن مجموعة صغيرة كرّست وقتها وجهدها لانتشال وإنقاذ المهاجرين من الموت غرقا وسط مياه البحر الأبيض المتوسط.

هذه التجربة الحقيقية للمتطوع الشجاع “أوسكار كامبس” تحوّلت على يد المخرج “مارسيل بارينا” إلى فيلم سينمائي روائي يحمل عنوان “المتوسط.. قانون البحر” (Mediterraneo: The Law of the Sea)، يستلهم فيه تجربته الإنسانية التي أثمرت عن تأسيس منظمة “أذرع مفتوحة” التطوعية التي نجحت في إنقاذ مئات من المهاجرين الهاربين من الحروب ومن بؤس العيش في أوطانهم.

صورة الطفل.. رحلة مفاجئة إلى ليسبوس اليونانية

لتجسيد عمل المجموعة وتثمين حجم تضحياتها الشخصية، يفتتح الفيلم مساره بمشهد يوجز حال بطله الذي يمنحه النص السينمائي نفس اسم مؤسس المنظمة “أوسكار” (الممثل إدوارد فرنانديز) الذي يظهر فيه وهو منشغل في عمله كمراقب ساحلي وصاحب شركة خاصة للإنقاذ البحري.

 

قبل دخوله لمكتبه تأكد من هدوء البحر، واطمأنَّ على سلامة زوّار ساحله، وأثناء متابعته الأخبار اليومية على الإنترنت، تقع عيناه على صورة الطفل “آلان”.

دون انتظار يعلن “أوسكار” أمام العاملين معه بأنه قرر الذهاب ليومين إلى جزيرة ليسبوس اليونانية ليرى بنفسه ما يجري هناك، ويترك لمن يريد الالتحاق به حرية القرار، فتتحمس ابنته “آستر” (الممثلة آنا كاستيلو) للذهاب معه، لكنه يرفض طلبها وينصحها بالاهتمام بدراستها الجامعية، كما أن صديقه وذراعه الأيمن في العمل “جيرارد” (الممثل داني روفيرا) يتردد في بداية الأمر لتعلقه بمولوده الجديد وعدم رغبته في تركه، غير أن إصرار وعزيمة صديقه دفعتاه لتغيير رأيه والمضي معه، بشرط البقاء في اليونان لمدة يومين لا أكثر.

يوحي المفتتح السردي بسهولة المهمة رغم استغراب الجميع من سرعة قرار مديرهم وحماسته للذهاب إلى منطقة لا يعرف كثيرا عما يجري فيها.

“الشرطة اليونانية لا تريد حماية المهاجرين”.. لعبة السياسة

حال وصول “أوسكار” إلى الجزيرة في خريف عام 2015 يذهب مباشرة إلى ساحلها، ومن خلال منظاره يرى مهاجرين وسط البحر يحاولون السباحة وسط الفوضى بعد انقلاب قاربهم المطاطي، فينادي على صديقه ويهرعان سوية لنجدتهم.

الممثل “إدوارد فرنانديز” يجسد شخصية مؤسس منظمة أذرع مفتوحة التطوعية التي نجحت في إنقاذ مئات من المهاجرين

 

المشاهد المُصوّرة من قرب (تصوير رائع داخل الماء وخارجه للمصور، كيكو دي لا ريكا) تولّد إحساسا بعجز وخوف من الموت المقترب من التائهين وسط الأمواج. ينقذ المتطوعان ركاب القارب ويوصلانهم بأمان إلى الساحل.

لكن أين رجال خفر السواحل اليونانية؟ هذا هو أول الأسئلة التي يطرحها المتطوع على سيدة صاحبة مطعم تدعوهم للعشاء فيه بعد أن رأت ما قاما به من عمل شجاع، فتشرح لهم الحال باقتضاب قائلة: الشرطة اليونانية لا تريد حماية المهاجرين، وذلك تنفيذا لسياسة تهدف إلى عدم تشجيعهم للوصول إلى اليونان، ومنها إلى بقية الدول الغربية.

غرق المهاجر.. بين سكين المهرب وتجاهل المنقذ

يتعهد المهربون للمهاجرين بنقلهم من تركيا إلى اليونان مقابل مبالغ كبيرة، لكن بدلا من توصيلهم إلى بر الأمان يقومون بدفعهم إلى عمق المياه حال اقترابهم من الساحل خشية من وقوعهم في قبضة رجال الشرطة اليونانية.

في تلك النقاط العميقة يغرق مهاجرون كثيرون، فلا يبقى من رحلتهم سوى بدلات إنقاذ سيئة النوعية فاقدة الفعالية، وقوارب مطاطية مهترئة ترسو على ساحل البحر كشاهد على نهاية تراجيدية.

يجد “أوسكار” الخبير في عمليات الإنقاذ أثناء معاينتها أن كثيرا منها كان مثقوبا، وسيعلم لاحقا أن ذلك يعود إلى تعمّد المهربين طعن القوارب بسكاكين حادة ليُجبروا ركابها على مغادرتها، خوفا من وقوعهم بأيدي رجال الشرطة اليونانية.

أوسكار” الخبير في عمليات الإنقاذ مع فريقه على سفينة مطاطية لأجل البحث عن مهاجرين بحاجة إلى مساعدة

 

فعل إجرامي يُقابَل بعدم مبالاة شرطة خفر السواحل اليونانية، وتجاهلهم المتعمد لقانون البحر الذي ينصّ على أن تقدّم السفن ورجال خفر السواحل مساعدة غير مشروطة لمن يحتاجها وسط البحر. من هنا جاء عنوان الفيلم الذي يسعى إلى فضح الخرق الصارخ للقانون والتنصل الشنيع من القيّم الإنسانية.

تهمة تهريب البشر.. مُطاردة الشرطة للرجل النبيل

هذا الوضع الفاضح في عوالم البحر الأبيض سيجد أنساقه الدرامية في متن الحكاية التي يصبح فيها الرجل النبيل مطاردا من قبل رجال الشرطة. يتحينون الفرص لاستدعائه ومن معه إلى مراكزهم، ويوجهون إليهم التهم منها الخطيرة مثل تهريب البشر.

يحتجزون قواربهم لمنعهم من دخول البحر، لكنهم في أعماقهم يعرفون الحقيقة والقوة التي يتمتع بها هؤلاء المتطوعون الذين لا يجنون من عملهم غير الخسائر المادية والنفسية مقابل راحة الضمير، لذلك لا تذهب الشرطة بعيدا في تهمها ضدهم، بل يحاولون الحد من نشاطهم ودعوتهم صراحة لترك الجزيرة.

ليس رجال الشرطة وحدهم في ذلك الأمر، بل إن هناك حالة من التذمر وعدم الترحيب في أوساط الناس أيضا تتجسد في كتابة شعارات مناهضة للهجرة على سيارة المنقذ الإسباني.

قدوم “آستر”.. دفء إنساني داخل الفريق المرهق

لا تحد ممارسات الشرطة والناس من حماسة المتطوعين الذين صاروا يزدادون ثقة بجدوى ما يفعلونه من أجل الآخرين، رغم شدة الضغوطات النفسية المتأتية من ملاحقة الشرطة لهم، ومن قساوة المشاهد التي يرونها، سينهار صديقه “جيرارد” في لحظة ضعف، ويعترف بأنه لم يعد قادرا على الاستمرار، فعجزه عن إنقاذ أحد المهاجرين من الموت سبّب له وجعا وألما نفسيا لم يعد يتحمله، كما أن وجود طفله بعيدا عنه يزيد من قلقه النفسي.

الأب “أوسكار” مع ابنته “آستر” التي انضمت إلى فريقه لإنقاذ المهاجرين من الموت غرقا في مياه المتوسط

 

على مستوى إنساني آخر ساعد وصول ابنته “آستر” وانضمامها إلى فريقه على خلق فرص تقارب بينهما انعدم منذ سنوات، فحماستها وجرأتها في الذهاب بعيدا لمساعدة المهددين بالموت غرقا أجبرته على احترامها وتقدير شجاعتها.

لم يبقَ أمامه إلا القبول بالواقع الذي فرضته عليه، ودفعه لتعليمها أكثر أساليب الإنقاذ نجاعة. الأولوية فيها دوما للأطفال والنساء، أما الحفاظ على حياة المُنقذ فهي النقطة المركزية التي لا ينبغي نسيانها أبدا، فموته يعني موت البقية.

إيقاظ الضمير.. صحفي يحمل صوت الضحايا إلى العالم

لا يكتفي الفيلم الرائع بتلك الدائرة الضيقة من الشخصيات، فيضيف إليها مصوّرا صحفيا كرّس جهده لتوثيق ما يجري على أرض الجزيرة. كان يريد توصيل صوت الضحايا إلى أبعد نقطة في العالم، وليوقظ عبرها الضمير العالمي، وبشكل خاص الأوروبي اللاهي عن مأساة تجري في بلد أوروبي.

يقترح المصور على “أوسكار” إجراء مقابلة صحفية مُصوّرة، ويرفض إجراءها في البداية، لكنه يوافق بعد حين. وسيصل الحوار الصحفي معه إلى آفاق أبعد من الجزيرة، مثلما أوصلت عمليات الإنقاذ الفيلم إلى معسكرات إيواء اللاجئين في الجزيرة.

مشهد للحظة تراجيدية وسط البحر، حيث تظهر فرق الإنقاذ وهي في طريقها لمساعدة ما يمكنها مساعدته من المهاجرين

 

هناك يعيش مئات منهم في ظروف بائسة يُوفّق الفيلم في نقلها بما يقارب الواقع، مما يثير إعجابا بقدرة الروائي على التقارب مع الوثائقي لصُنع حالة جمالية نادرة.

طبيبة سورية تبحث عن ابنتها المفقودة.. رائحة الواقع

في محاولة منه للتقارب مع الواقع يضيف صانع الفيلم الروائي قصصا فرعية إلى جانب القصة الأصلية، كل قصة أو حدث قصير منها يكشف جانبا من مشهد الهجرة إلى اليونان، ويتسع مسار القصة الأصلية مع وصول شريك “أوسكار” في الشركة بعد أن يئس من عودة مديره فجاء لإقناعه بالعودة، وبأن طول غيابه سيفقده الشركة وكل ما يملك.

في خضم وجودهم الفعلي في نفس المكان يجد الجميع أنفسهم منغمسين في محاولات إنقاذ متكررة لا تنقطع. حيث آلاف المهاجرين -أكثرهم عرب وسوريون- يغامرون بأرواحهم هربا من حروب طاحنة، فهم يرمون أنفسهم وسط البحر كل يوم، لا يعرفون ما إذا كانوا سينجون أم ستكون نهايتهم في أعماقه.

تضفي قصة طبيبة سورية بُعدا دراماتيكيا على الأحداث، فهي لا تفارق ساحل الجزيرة أبدا، تسأل الواصلين إليها من البحر عن ما إذا كانوا التقوا بصبية اسمها “حيا”، وهي ابنتها التي تبحث عنها بين أكوام جثث الغرقى أو في وجوه الناجين من الموت.

“أوسكار” يُنقذ الطفلة “حيا” التي كانت والدتها السورية في انتظارها على ساحل الجزيرة بعد أن بحثت عنها بين أكوام جثث الغرقى

 

في مشهد مؤثر تساعد الطبيبة امرأة على إنجاب مولودها على الساحل من دون مستلزمات طبية. وجودها الدائم يمنح الفيلم طاقة حيوية تُبقي جذوة الأمل بالنجاة مشتعلة وسط موت وضياع تجسده المشاهد المنقولة من وسط البحر، التي يظهر فيها المتطوعون وهم يستميتون لإنقاذ ما يمكنهم من البشر.

موت الصبي وإنقاذ الصبية.. مشاهد إنسانية مؤثرة

في مشهدين مؤثرين تتجلى القدرة التعبيرية لفيلم جريء في نقده وتشخيصه لواقع الهجرة في اليونان، الأول فشل “أوسكار” في إنقاذ صبي انتشله من البحر وظلّ يحاول تقديم الإسعافات الأولية إليه، لكنه فارق الحياة، والثاني لصبية مرت بنفس الحالة، لكنه نجح في مساعدتها على تجاوز عتبة الموت. خارج البحر وأثناء تقديمها الشكر له يسألها عن اسمها، فتجيب بأن اسمها “حيا”، فيطير سعادة. أخيرا وجدت الأم السورية ابنتها الضائعة، كما وجد هو أيضا ابنته بعد انقطاع.

يلخص المشهد الأخير من الفيلم الشجاع مسار رحلة “أوسكار كامبس” إلى اليونان، إذ تظهر المجموعة الإسبانية داخل سيارة في طريقها لنقلهم إلى الميناء، ومن هناك يواصلون رحلتهم إلى وطنهم. فجأة يتراجع “أوسكار” عن فكرة العودة، ويقرر بدلا منها الرجوع إلى الجزيرة والبقاء فيها، قبل انطلاق سيارته تفتح ابنته بابها، فهي الأخرى قررت البقاء معه.

اللافت في “المتوسط: قانون البحر” ليس اشتغاله السينمائي الرائع فحسب، بل تنبيهه لما يجري في تلك البقعة من العالم، التي يكاد يتحول فيها البحر إلى مقبرة للهاربين من الموت.